تواجه المؤسسات التعليمية اليوم أزمة قيمية عميقة تتجلى في ظواهر سلبية متعددة تهدد جوهر العملية التربوية وتقوض دور المدرسة كحاضنة للقيم النبيلة. فمع تسارع التحولات المجتمعية وتنامي تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت منظومة القيم التقليدية تتراجع أمام قيم استهلاكية جديدة لا تعطي الاهتمام اللازم للتحصيل المعرفي والبناء الأخلاقي.
لقد أصبح العنف المدرسي ظاهرة مستفحلة تعكس انحسار قيم التسامح واحترام الآخر، حيث تتحول الخلافات البسيطة بين المتعلمين إلى صدامات حادة تتجاوز أسوار المدرسة وتصل في بعض الأحيان إلى أروقة المحاكم،والأسوء من ذلك أن العنف صار يمارس على الأساتذة والإداريين، تارة من طرف التلاميذ وتارة أخرى من قبل ذويهم !
هذا الوضع المتردي يكشف عن فجوة واسعة بين ما تنادي به المناهج التربوية من قيم الحوار والتواصل الإيجابي وبين الممارسات اليومية داخل الفضاء المدرسي.
وفي سياق متصل، برز التنمر بصوره المختلفة ليعبر عن تلاشي قيم التضامن والتآزر وقبول الاختلاف. فالتلميذ الذي يفترض أن يتعلم قيمة التعاون ومد يد العون لزملائه، أصبح يتخذ من نقاط ضعف أقرانه مادة للسخرية والاستهزاء، مما يولد شعورا بالنبذ والدونية لدى ضحايا التنمر ويدفعهم في كثير من الأحيان إلى الانطواء أو الفشل وحتى الهدر المدرسي.
أما ظاهرة الغش في الامتحانات، فقد استفحلت بشكل غير مسبوق لتعكس انهيارا خطيرا في منظومة القيم الأكاديمية. ما يكشف عن غياب قيم الأمانة العلمية والمسؤولية الذاتية والنزاهة الأكاديمية، ويقوض مبدأ تكافؤ الفرص الذي تقوم عليه فلسفة التقييم التربوي.
والأخطر من ذلك أن آفة الغش أصبحت في بعض الأوساط سلوكا مبررا بل ومشجعا، مما ينذر بتخريج أجيال تفتقد للضمير المهني وأخلاقيات العمل.
هذا وتؤكد تقارير حديثة تراجع الاجتهاد والمثابرة بسبب الاستهلاك المفرط لاستعمالات الهاتف الذكي في صفوف المتعلمين لصالح التفاهة وتخدير العقول أدى إلى تدني مستوى التحصيل الدراسي، حيث يلاحظ عزوف متزايد عن بذل الجهد المعرفي المطلوب لبناء كفايات راسخة. هذا المنحى الخطير يترافق مع تلاشي روح الانتماء للمؤسسة التعليمية، والذي يتجلى في سلوكيات تخريب المرافق المدرسية والاستهانة بممتلكات المؤسسة.
وفي ظل هذا الواقع المتأزم، تأتي مبادرة وزير التربية الوطنية المتمثلة في تعبئة عين خارجية لتقييم مشروع المدارس الرائدة في محاولة نحو تشخيص موضوعي للوضع القائم. هذا التوجه تزامن مع زلزال إداري أسفر عن إعفاء ستة عشر مديرا إقليميا دفعة واحدة، مما يعكس عمق الأزمة في منظومة التسيير التربوي وضرورة مراجعة الأسس التي تقوم عليها.
وفي خضم محاولات الإصلاح وإصلاح الإصلاح يظل التحدي الأكبر تلك الهوة الشاسعة بين القيم في الخطاب الرسمي والشعارات المعلنة، وترجمتها إلى ممارسات يومية ملموسة. فقيم الشفافية والمحاسبة وربط المسؤولية بالمحاسبة التي تتصدر الوثائق المرجعية نادرا ما تجد طريقها إلى آليات التسيير الإداري والتربوي على أرض الواقع.
لقد أصبح من الضروري اليوم إطلاق ثورة قيمية حقيقية في مؤسساتنا التعليمية من خلال مقاربة شمولية تعيد الاعتبار لقيم النزاهة الأكاديمية والمسؤولية الفردية والجماعية. هذه المقاربة تستدعي تكامل الأدوار بين المدرسة والأسرة والمجتمع المدني، وتتطلب تجديدا في أساليب التربية على القيم بما يتجاوز التلقين النظري إلى الممارسة العملية والقدوة الحسنة.
إن الرهان الحقيقي ليس فقط على تحسين المؤشرات الكمية للمنظومة التربوية، بل على استعادة الروح القيمية التي تجعل من المدرسة منارة للمعرفة والفضيلة معا، وفضاء لبناء المواطن الصالح المتشبع بقيم العمل والإخلاص والتفاني. فبدون هذه المنظومة القيمية المتكاملة، ستظل كل الإصلاحات التربوية مجرد حبر على ورق، ولن تحقق الغاية المنشودة منها في بناء مجتمع المعرفة والتنمية المستدامة.
تعليقات الزوار ( 0 )