تحظى شخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري بالاحترام، ولا سيما عند الطبقات المحرومة والمدافعين عنهم. فهؤلاء، بالطبع إن كانوا يعرفونه، يعشقون فيه دفاعه عن الفقراء، وسوء توزيع الثروات، وصراحته مع أولي الأمر صراحة تحرجهم. كان يفكر بشكل مختلف عن التفكير السائد، حتى لكأنه كان يمارس «المعارضة» إذ هو يعارض باسم الحق وباسم النص، واقع الحكم وهو في عصر يوسم بالذهبي.
لن نعود إلى المعلومات العامة التي تساق عن أبي ذر، من أنه كان من أوائل من أسلم وأنه جاء من بعيد ليصحب الرسول الأكرم، وأنه عاش بعده وأدرك فرق ما بين الدعوة والواقع، وأنه مات فقيرا. هذه معطيات لا تعنينا في ذاتها ولا يهمنا إن كانت دقيقة أو فيها تصريف أو تحريف. المهم أننا سنتعامل مع هذه الشخصية على أنها شخصية تمثل ظاهرة لغوية فذة ومختلفة.
الأطروحتان اللسانية الاجتماعية والعرفانية، تمكنان الدارس من أن يدرس الإنسان من خلال منتجه اللغوي، بما أن هناك توافقا بين اللغوي والاجتماعي، وتماثلا بين اللغوي والذهني، لكننا لن ندرس أقواله، بل سندرس حديثا للرسول عليه السلام فيه يعتبره ظاهرة لهجية بأسرها إذ جاء في الحديث: «ما أقَلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر». وفي شرح سنن ابن ماجة أن «الغبراء» هي الأرض و»الخضراء» هي السماء. وهذا يعني أنه لا يوجد أصدق لهجة من بين أهل الأرض ولا أهل السماء من لهجة أبي ذر. غير أنا وحتى يكون للفظ لهجة معناها، علينا أن نعيد طرحها طرحا جغرافيا، ونترك للسماء مجازيتها. في هذا السياق تكون الغبراء هي الصحراء المقحلة، والخضراء هي الأراضي المنبتة ذات المراعي، وهذا التوزيع الجغرالساني مهم إن قلنا إن أبا ذر يتميز بلهجة لا يوجد لها صدق في هذين المجالين الجغرافيين المختلفين، اللذين هما جزءا الأرض العربية. غير أن هذا بدوره تأويل لا يمكن أن يدعمه لا المقصود باللهجة ولا بصدقها. إذ تعني اللهجة في الاستعمال المعروف لغة محلية تنطقها جماعة لغوية، يمكن أن تكبر أو تصغر لا باتساع رقعة سكنها على الأرض فقط، بل بكثرة عدد متكلميها فالعدد هو مقياس التواتر والاستعمال المغلب للهجة على أخرى. غير الحديث لا يعرض للهجة «غفار» التي نشأ فيها أبو ذر، لكنه يتحدث عن لهجته هو بما يعني أن اللهجة لا تعني وجهها الاجتماعي الجماعي الذي يصطلح عليه بـ Sociolect أي ذلك التنوع اللهجي الذي تستعمله جماعة عرقية معينة، لنقل إنها قبيلة غفار؛ بل تعني اللهجة في الحديث الوجه الفردي للاستعمال اللغوي الجماعي وهو ما يسمى Idiolect. الاستعمال الفردي للهجة العامة يمكن أن يكون في التأليف المخصوص للكلام، أو في النبرة الخاصة. صحيح أن المرء مجبر لغويا على أن يَمْتَح ألفاظه من المعجم العام، ويستخرجه منه، ويؤلف الكلام بمراجعة قواعد النحو المتوفرة في لغته، لكن ذلك لا يمنع أيا منا إذا تكلم أن يبني الكلام بطريقته التي تناسبه في رؤيته لوضعية معينة. نحن لا نبني الوضعيات الواحدة بكلام واحد، فلكل منا وهو يبني الكلام رؤيته التي توجهه.
المقصود من الحديث هو أن لأبي ذر طريقة في بناء الكلام تخالف غيره، ولا يمكن أن ينافسه فيها غيره ممن يتكلمون في الوضعيات التي يتكلم فيها. السؤال الذي يطرح ما الذي يجعل الرسول عليه السلام، وهو يعد في الروايات السنية السائدة أفصح الخلق، يرى في أبي ذر رجلا مميزا في لهجته أي في طريقة كلامه؟
لا يذكر الحديث الفصاحة، بل يذكر الصدق وفي الأمر اختلاف. التفكير البلاغي القديم (وليس التفكير اللغوي الحديث) يؤمن بالفصاحة ودرجاتها، وبالفصيح ومراتبه وهو أن يكون المرء مفوها قادرا على شد الأسماع، وعلى الإقناع؛ ويبدو أن هذا لم يكن المقصود، فلم يكن أبو ذر خطيبا ولا مفوها، ولا زعيما، لأن أغلب الأخبار المنقولة عنه تصوره محاورا مفردا لمحاور مفرد، وأغلب الأحيان ما كان المحاوَر صحابيا أو سائسا في عصر الخلافة الأول. لذلك لا يمكن أن ينافس أبوذر غيره على الخطابة، وفي هذا العصر لم يكن مطلوبا من المسلمين وحتى من يعتلون المنابر في الجمع، أو في تجميع الفاتحين، أن يكونوا خطباء مفوهين.
صدق اللهجة الذي وسم به الرسول عليه السلام الصحابي أبا ذر، لا علاقة لمعناه بالصدق أو الكذب البلاغيين أو ما يسميه المناطقة «قيمة الصدق» وهو مفهوم حسابي ينطبق على القضايا ليرصد فيها قيما تتعلق بالصدق أو الكذب الممكنين. فحتى يكون قول متألف من قضيتين صادقا، لا بد أن تكون القضيتان معا صادقتين. المقصود بالصدق في الحديث الصدق الأخلاقي لا المنطقي، فالرجل في لهجته صدق، أي أنه لا ينتطق إلا بما يراه صدقا، وهذا في ذاته مشكل يتطلب التوضيح.
نحن ننبه ههنا إلى أننا لا نتكلم في الصدق الأخلاقي عن شخص صادق، ولا عن كلام صادق، بل عن لهجة صادقة. إن نحن تكلمنا عن شخص صادق فنحن نكون قد ميزناه عن شخص أو أشخاص كاذبين؛ ومن الصعب أن يكون المرء صادقا مطلقا أو كاذبا مطلقا، بل تنطبق عليه الصفة انطباقا ما، حسب تجريب الناس له واختبارهم إياه. وحين نتكلم عن كلام صادق أو كاذب، فإن الصفة لا تطلق أيضا إلا على قطعة الكلام، لكن أن تكون اللهجة صادقة فتعني شيئا أوسع من ذلك. اللهجة التي توصلنا إلى أنها تعني طريقة فردية في الأداء اللغوي، تعني باقترانها السياقي بالصدق طريقة في التعبير عن الوقائع والمعتقدات، وعندئذ تكون أقرب إلى لفظ «الأسلوب» Style وهو يعني في هذا السياق طريقة في بناء الأفكار والوضعيات، يغلب عليها الصدق. تكون اللهجة صادقة في السياق الذي ورد فيه الحديث وفق شرط أساسي هو المطابقة Correspondence وهي علاقة انسجام في الحديث أو في بناء الوضعيات بين ما يوصف والمرجع. وشرط الصدق في التطابق المطلوب يكون في ثلاثة أشياء: الأمر الأول أن يكون ما نُطق به مطابقا نية من يتكلم أو قصده، فلا يتكلم المرء إلا بما يعتقد أو ينوي فلا ينافق ولا يداري ولا يراوغ، لكن أيضا لا يلبس.الأمر الثاني أن يكون ما نطق به مطابقا لمعيار من الأخلاق معلوم؛ والثالث أن يكون ما نطق به مطابقا لما جاءت به الديانة الجديدة، أليست جاءت مكملة لمكارم الأخلاق؟ كل شكل من أشكال المطابقة التي تحفظ شرط الصدق تحتاج وحدها خريطة طريق ورباطة جأش وتحملا للتبعات لا يكون صاحبها في منجاة من عواقبها.
نقدم في ما يلي عينات مما يعد صدقا في لهجة أبي ذر مما روته عنه الكتب والأخبار، ولا يعنينا طبعا إن كانت خاطئة أو صحيحة. حين كان أبو ذر في الشام لم يعجبه ما كان عليه الفقراء من فاقة، وما وصل إليه الأغنياء من ترف؛ فلام في ذلك الوالي معاوية، الذي شكاه إلى عثمان بن عفان، فدعاه إلى المدينة وقال له: ما لأهل الشام يشكون ذربك أي كثرة كلامك؟ فوصف فقر الناس، وكيف أن الزكاة لا تكفي للفقراء، بل على السائس أن يلزم الأغنياء بإخراج ما زاد عن حاجتهم. لكن الخليفة اعتل بأنه لن يجبر الأغنياء على أن يدفعوا ما زاد. وأمره بالانتقال إلى الربذة، وهي قرية صغيرة من قرى المدينة.. ومما يؤثر عنه في سياق دفاعه عن الفقراء قوله وقد اصطف في حزبهم ووضع الساسة في صف الأغنياء: تخضمون (أي تأكلون الرطب) ونقضم (أي نأكل اليابس) والموعد الجنة. لقد كلف صدق اللهجة زوجة أبي ذر أن تقول له وهو يحتضر: تموت وليس عندي ثوب يسعك كفنا.
*أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية
تعليقات الزوار ( 0 )