هاتفني صاحبي مضطرباً: “لقد خذلنا الأمريكيون، جيمس جيفري لم يعد يطالب برحيل الأسد، بل يطلب من الأسد الالتزام بمسار إصلاحٍ وفق القرار 2254، فَعَلَها الأمريكيون وخذلونا”.
يبني بعض السوريين كثير أملٍ على الولايات المتحدة، في أن تقوم بالمهمّة كاملة: أي أن تُقدّم لنا الخلاص المطلوب، وأن تنتصر لثورتنا، وأن تزيح الأسد، وأن تساعدنا في بناء نظامٍ ديموقراطي، وأن تُطلِق لنا مسار عدالةٍ انتقالية، وأن تفتح مُحاكَمَاتٍ دولية للأسد وأركان نظامه. فيما يرى قسمٌ آخر أنّ الولايات المتحدة هي خذلتنا مُبكِّراً من خلال عدم إزاحة الأسد عام 2013، وأنّ قانون قيصر لم يأتِ إلا كأداةٍ للضغط على النظام لا أكثر، وأنّ الولايات المتحدة قادرةٌ على أمر الأسد بالرحيل، لو أرادت، لكنّها تشتغل على الضدّ من ذلك.
ربّما ذلك ناتج عن إخفاقاتنا المتتالية – كمعارضة – في اللعبة السياسية الدائرة شرق المتوسط، وعدم قدرتنا على أن نكون فاعلاً مهّماً فيها، وفضّلنا أن نضع مشروعنا بيد قوى إقليميّةٍ ودولية، نعتقد أنّها ستحقّق لنا ما عجزنا عن الاتفاق حوله – كسوريين – في مجالسنا وهيئاتنا وتشكيلات المعارَضة المبعثرة.
وبينما يُحاصر قانون قيصر ما تبقى من سيادةٍ وشرعيةٍ لنظام الأسد، فإنّ المعارضة السورية ما تزال غير مدرِكةٍ لأهميّة القانون، وتظلّ عالقةً في مرحلة التساؤلات عن جدوى القانون، كما صدر عن بعض قادتها، في وقتٍ يشتغل الجميع فيه بالبحث عن طرقٍ للاستفادة من القانون أو تعطيل نفاذه.
وبالعودة إلى ما كنّا قد كتبناه في مقالاتٍ سابقة، فإنّ القانون يُقدّم لنا نحن السوريون، مدخلاً مهماً للعمل الذاتي، بعيداً عن الارتهانات الخارجية لقوى إقليميةٍ أو دولية، لم تترك لنا كثير هامشٍ للدفاع عن قضيتنا. ويتمثّل هذا المدخل، في العمل الحثيث على التشبيك مع الدول المستفيدة، وبناء خطّة عملٍ سوريةٍ/سوريةٍ، بمعنى أنّها تشمل غالبية الأطراف السورية، لإحداث مزيد من محاصرة النظام وعزله، وتنشيط العمل السياسي في الداخل والخارج، وبناء برنامجٍ بديلٍ واضحٍ يمكن للمشتغلين الدوليين في الشأن السوري الركون إلى فعاليته.
بينما كان صاحبي يندب خذلان جيفري، كان وليد المعلم، في صورةٍ تشبه كثيراً صورة أنظمة العراق وليبيا قُبيل السقوط، خرج وهو يتحدّث عن المقاومة والصمود السوري، مستجدِياً العرب أن يقدّموا له طوق نجاة، لم يسبق أن قدّموه لأحد من المتداعين (صدّام، القذافي، البشير، أو حتى مبارك وزين العابدين وصالح). كان المعلم، يبحث عن مُنقِذين في لبنان والأردن ومصر والإمارات وليبيا/حفتر، وهو يعلم أنّه لا طاقة لهم بتحدّي القوانين الأمريكية، ولا فعالية تذكر لقرارتهم وتنديداتهم، فيما هم منشغلون جداً بتطوّرات ليبيا وسدّ النهضة، وحاول المعلم أن يبدي تأييده غير المجدي لهم في قضاياهم.
جيفري بدوره، لم يقل أبداً إنّه يريد أن يحكم بشار الأسد سورية لعقدٍ قادم، فجيفري يستخدم اللعبة الأمريكية المشهورة في العلاقة الدولية: “لعبة السجين”، والتي تعني تبادل الأدوار بين شرطيٍّ جيّدٍ يسعى لمصلحة السجين بشرط نيل اعترافه وتنازله، مقابل شرطيٍّ سيءٍّ سيعذِّب السجين لنيل اعترافه وتنازله، أو ما يُعرف أيضاً بسياسة “العصا والجزرة”، وجيفري كان الشرطي الجيد/الجزرة.
فكلّ ما أشار إليه جيفري، أنّ القانون الأمريكي تمّ تصميمه لإجبار بشار الأسد على تنفيذ مسارٍ إصلاحيٍّ يتّفق مع القرار الأممي 2254، أي أنّ أمام بشار الأسد خياران:
– عدم التنفيذ، وبالتالي تحدّي الإدارة الأمريكية الحالية والقادمة، وتعريض نظامه لعقوباتٍ أشدّ وطأة مما يعتقد النظام، وسيتعرّض لها في كل الأحوال.
– أو التنفيذ، وهو ما يعني انهيار النظام من داخله، وانقلابه على ذاته، وتفكيكه عبر تصفياتٍ ذاتية. وهنا مجرد إطلاق سراح بضعة معتقلين أو تكرار خطابات دبلوماسية، دليل على أنّ النظام سيحاول تقديم تنازلاتٍ مؤقّتةً، يناور من خلالها، ستفتح الباب لشهيّة الأمريكيين، ولن يقبلوا أن تتوقف تلك التنازلات قبل أن يصلوا إلى مبتغاهم.
ولم تتأخر إسرائيل عن موعدها، لتؤكِّد أنّ النظام مُنتهٍ منذ عقد من الزمن، وأنّ سيادته التي هي أساس الاعتراف الدولي به، مُنتهَكَةٌ حدّ الإلغاء، وستظلّ كذلك. سواء من خلال قوى الاحتلال الجاثمة على الأرض السورية، أو من خلال الاستهداف الإسرائيلي (السادس في آخر شهرين) للقوّات الإيرانية المستمرَّة بدورها في التغلغل في البنى السورية.
وبالتالي، ماذا بقي للأسد حتى يحكم عقداً قادماً؟
لا نميل أبداً إلى فرضية أنّ الأسد سيحكم عقداً آخر من التاريخ السوري، لكن إن قَبِلنا بها مؤقتاً، فإنّ النظام سيحكم:
– دولة بلا سيادة، تتوازعها عدّة احتلالات، وتتعرّض لقصفٍ دوري من إسرائيل. وتعاني من أزمة تغلغلٍ (حيث لا تصل سلطة النظام إلى مناطقها كافة).
– دولة بل اقتصاد، تُعاقِب فيها الولايات المتحدةُ النظام، وبدوره يعاقبُ النظامُ شعبَه بتجويع 20% ممن لم يُحسَبوا في إطار الجوعى وفق آخر تقرير أممي، والحكم بموت 80% الآخرين جوعاً.
– دولة ينهشها المرض (كورونا وأوبئة عديدة)، ولا مشافي أو أطباء أو أدوية.
– دولة، تتفجّر فيها الاحتجاجات بصورةٍ وشكلٍ مختلف عن سابقتها.
– دولة ما عاد لها قدرة الانتشار الأمني والعسكري، لقمع المحتجّين الجدد.
– دولة لم يبقَ فيها حشودٌ قادرةٌ على القتال (ما بقي للنظام: مصابو حرب وأرامل وأيتام وفارّون).
– دولة تكتظّ سجونها بأجساد المعتقلين وجثثهم، ولا قدرة لها على استحداث سجونٍ جديدة.
– دولة نصف سكانها شتاتٌ من اللاجئين والمهاجرين والنازحين.
– دولة تحتلّ ذيل القائمة الدولية في غالبية المؤشّرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
– دولة يحكمها أمراء حربٍ ومافياتٌ وضباطٌ يعملون ضمن النظام وباستقلاليّةٍ عنه، ومبعوثون دوليون.
– دولة يهدّد مزيدٌ من تدهورها كلَّ جيرانها، حتى أولئك البعيدون عن حدودها.
هذا ما تبقى لنظام الأسد ليحكمه، وهي مقوّماتٌ لا يمكن أن تسمح له بالاستمرار، فالنظام لم يعد يحوز كثير موارد تسمح له بالاستمرار في سياسة التوزيع الشعبوية والزبونية السياسية. فموارده، أو ما تبقّى منها، بالكاد تغطّي النفقات والمطامع الشخصية للعائلة المتسلّطة، وقضية رامي مخلوف مثالٌ واضح على الصراع الداخلي حول ما تبقى من موارد محدودة.
ما جرى مع مخلوف، هو ما سيجري في الفترة القريبة القادمة، داخل بنى النظام، وخصوصاً بعد قانون قيصر، فالنظام سيلتهم أفراده وثرواتهم، أو على الأقل من لم يهرب منهم حتى الآن. والنظام نفسه من سيقوم بتصفياتٍ لكلِّ من يحوز على أيّ قدرٍ من الموارد المحدودة.
ولم يعد النظامُ مستعداً أن يقدِّم أية منافع لأتباعه (المقرّبين أو المحكومين)، وعليهم أن يقبلوا باستمرار خضوعهم دون مقابل (حتى دون طعام ودواء)، أو أن يرحلوا، أو أن تنفجر البلاد من جديد.
أبعد هذا، سيحكم الأسد لعقد قادم؟
تعليقات الزوار ( 0 )