السياسة والأزمات، أو لنقل الحزب السياسي ومواجهة الأزمة، بينهما علاقة شبيهة بتلك التي تعتمل بين الفاعل والنسق، باعتبار التلازم الدائم بين الفعل السياسي والنسق العام أو الأنساق الفرعية التي تدير عجلة حياة مجتمع أو نظام ما.
الفعل السياسي سواء من خلال ممارسة التمثيلية المؤسساتية أو التدبيرية المباشرة للشأن العام، أو بواسطة قوة الاقتراح والمساهمة في النقاش العمومي والتفكير الجماعي لإدارة المرحلة أو توقع واستشراف المستقبل، هو فعل يهدف في آخر المطاف إلى إنشاء كميات جديدة من معيشة الجماعة البشرية وأيضا من أجل تجديد الموقع على خريطة أطراف القوة داخل البلد.
أزمة كورونا حركت جمود خامات الأحزاب المغربية، صهرت خزانات من الافكار غير المفكر فيها خارج سياق الأزمة، فانتجت كما غير يسير من كتل التشخيصات والمقترحات بشأن المرحلة الراهنة وأيضا آفاق التفاوض الجماعي مع نتائج الأزمة للعبور خلالها بأقل الاضرار.
جريدة بناصا تفتح النقاش العمومي مع القيادات الحزبية لمناقشة آرائهم وتقديراتهم وتنبيهاتهم حول مآل الوضع المغربي الحالي. في كل بنيات حركة الدولة، نحاول أن نجد إجابات أو أسئلة حقيقية صحيحة ومثيرة للاجتهاد والبحث. وجهات نظر تحاول تفسير ما وقع، و استشراف ما سيقع مع استمرار التشابك بين تسابق سرعتي الزمن الصحي والزمن الإقتصادي والاجتماعي والسياسي، وأي الأزمنة سيتفوق في استيعاب ومحاصرة باقي السرعات وآثارها.
في هذه الورقة نقدم جزء من وجهة نظر حزب الأصالة والمعاصرة من خلال رؤية أمينه العام الجديد عبد اللطيف وهبي. حزب الأصالة والمعاصرة هذا الحزب المثير للجدل السياسي من خلال طريقة إنشائه و تطوره داخل بنيات الدولة المغربية، يعيش زمنه المأزوم على واجهتين.
من وجهة أولى يستمر الحزب في محاولة الاسراع للبحث عن ذاته وعن هويته وعن خطابه وعن مناضليه الجدد، بخلق مسافة أمان مع الدولة للابتعاد عن “تهمة الولادة المخزنية للتنظيم”، وعلى واجهة أخرى يحاول التفاعل مع سرعات ومطالب المجتمع في زمن كورونا.
منذ ولادته لم يتفوق بعد هذا التنظيم في الإجابة على سؤال الهوية وسؤال العمل، وظل حبيس شعارات كبرى فضلى تمنعت البيئة المغربية على استهلاكها وامتصاصها دون نزاعات و صراعات. حزب تبنى أفكارا ليبرالية اجتماعية ثم بعض شعارات الديمقراطية الاجتماعية، بغية تصحيح نظر الدولة والمجتمع من خلال العناوين الكبرى للمنظومة الحداثية.
غير أن الممارسة السياسية للتنظيم توحي بأنه ظل حبيس التصور التقليداني لبناء الدولة المغربية وأيضا لهوية المجتمع. رغم كل الشعارات الحداثية فإن الحزب جسد خليطا غير منسجم على مستوى السلوك السياسي فجمع شتاتا متناقضا لمختلف الأفكار و التيارات في محاولة لبعث تنظيم قوي استعدادا لمواجهة الزحف الإسلامي الجديد.
التسرع في اتمام هذه العملية جعله يتراجع تكتيكيا عن القيم التي بشر بها عند الولادة، ليستجمع من حوله كتل بشرية ومصلحية متناقضة من أعيان وشباب ويساريين وليبراليين، مما زاد حدة الصراعات الداخلية وارتفاع الاشتباكات في صفوفه من أجل السيطرة على جهاز التنظيم التقريري، أو لإنجاب حزب جديد مختلف التصور من حيث ترتيب خريطة الخصوم ونوعية الخطاب تجاه المواطن وتجاه الدولة وايضا تجاه الأحزاب.
عبد اللطيف وهبي يجسد هذا التغيير رغم استمرار الصراع الداخلي، الذي انتجته طريقة التدبير المصلحية لأمينه العام السابق اليأس العماري للحزب ولأطره وأعيانه، والمتميزة بالعشائرية و بنوع من الخدمة للترقي بدل النضال من أجل الأفكار.
في هذا السياق المأزوم على مستوى داخل الحزب و في غياب وحدة سياسية داخلية تجسد وجود هوية وخطاب سياسي مرجعي متفق عليه، قرر عبد اللطيف وهبي أن يحدث لجنة تتكلف بإعداد تقرير أو دراسة عن الوضع الحالي وعن مقترحات الحزب لما بعد كورونا تضعها رهن إشارة المغاربة ومؤسسات الدولة.
قرار إحداث هذه اللجنة الشبيهة بعمل مكاتب الدراسات تبين بأن قيادة الحزب تفتقد إلى رؤية سياسية واضحة للأزمة ولمآلاتها. ومع ذلك فقد أنتج عبد اللطيف وهبي قراءته الخاصة لأزمة الجائحة، خصوصا في جانبها الإقتصادي.
في ورقة عنونها ” أي اقتصاد وطني بعد كورونا؟”، حاول أمين عام حزب الجرار بسط تقييمه للظرفية الحالية وإعطاء مشروع تصور عن اقتصاد المغرب مابعد مرور الأزمة، الشيء الذي يستدعي، وفق اعتقاده، ” تعميق التفكير في بدائل تمكن من إنعاش الاقتصاد المغربي بسرعة معقولة تمكننا من تحقيق توازنات كفيلة من وقف النزيف الذي أصاب النفقات العمومية دون مقابل في الموارد. كما يقر مسترسلا في تشخيصه أن السياسة الاقتصادية الناجحة لما “بعد الحجر الصحي هي تلك التي تقبل بانخفاض الإنتاج الداخلي الخام إن لم تكن تسعى له، لأنها تتكيف مع واقع جديد هدفه هو منع انتشار جديد للوباء”.
وعن سر أزمة عدم إيجاد حلول جاهزة يرى وهبي أن أزمة كورونا هي “أزمة دون نموذج” غير مسبوقة في حياة البشرية، “وبالتالي فإن التفكير في حلولها هو تفكير يكتنفه التجريب والاجتهاد والإصغاء الجيد لتفاصيل واقع ومظاهر هذه الأزمة”.
ورغم أنه ثمن الاجراءات الإجتماعية التي قامت بها الدولة للحفاظ على المداخيل وعلى استمرار بقاء المقاولات بهدف التماسك الاجتماعي، نظرا لحجم الضرر الذي لحق قطاعات منتجة مهمة في الاقتصاد المغربي، بسبب قرار الححر الصحي المبكر، وانطواء الدول على نفسها، فإنه عبر عن نوع من عدم التقبل لحجم تناقضات قيم الإنتاج المغربي.
عدم التقبل هذا دبجه وهبي في تحليل للسياق عندما تحدث عن حجم التناقضات الاقتصادية التي يعيشها المغرب، بين حجم الامكانات ومستوى النتائج وبين الخطاب والواقع، فهو يرى أن هذه التناقضات تصيب المرء “بدوار مؤلم”، “تناقضات بين الإمكانيات الغنية (..) والنتائج السلبية التي ينتهي إليها.
تناقضات بين مجتمع مغربي منفتح (…)، ومؤسسات جامدة ومتكلسة، خطابات حكومية ممتلئة بادعاءات وواقع يومي صعب لعموم المواطنات والمواطنين. تناقضات بين إصلاحات سخية لفائدة مناخ المال والأعمال وبين مواقع متدنية ومخجلة في التصنيفات الدولية”.
كما أكد في هذه الورقة على تشخيص الاقتصاديين المغاربة لبنيات الاقتصاد المغربي في ثلاث دعائم أساسية أولها الفلاحة، التي “تتسم بضعف المساهمة في ناتج الداخلي الخام مما يعطي العوامل المناخية أهمية قصوى في النمو السنوي للاقتصاد المغربي” فهي مرتبطة بتقلبات التساقطات المطرية مما يرخي بظلاله على فرضيات نسب النمو باعتبار الفلاحة محددا أساسيا يتحكم في باقي محددات النمو.
الدعامة الثانية التي علق عليها عبد اللطيف وهبي وهو ما سماه بدور الدولة القوي في تنشيط الاقتصاد. فالدولة المغربية من منظوره هي المشغل الأول وهي المستثمر الأول وهي كذلك المستهلك الأول، ولا يمكن لأي فاعل اقتصادي سواء كان خاصا أو عموميا أن ينمي مداخله دون تدخل الدولة. فالاقتصاد عندنا مرهون بقرارات الدولة واستراتيجياتها، وإليها يعود الجميع عندما نحتاج إلى تصحيح الاختلالات، أو محو الديون أو طلب إعفاءات، أو التمتع بامتيازات ضريبة أو الحصول على تراخيص ريعية ما”.
هذا الوضع في نظره يصعب عملية الارتقاء بالقطاع الخاص الذي يحمل هشاشة سوسيو اقتصادية منذ نشأته ويظل تابعا للدولة المحتكرة بقوة تنظيمية وإدارية عبر التاريخ، حسب تصوره.
الدعامة الثالثة للاقتصاد الوطني، هي الاعتماد على القطاع الخاص لخلق مناصب الشغل والنمو. هذا القطاع في قراءة وهبي، ورغم كل المجهودات، يظل متميزا باختلالات متعددة وبضعف على مستوى التنافسية والتصدير والرفع من مناصب الشغل.
واستشرافا للمستقبل فإن وهبي يتحدث من منظور سياسي عن ضرورة خلق ما أسماه باقتصاد الثقة. وهو يرى أن الثقة تعتبر عاملا أساسيا في النشاط الإقتصادي من خلال إدراك المغاربة لضرورة المساهمة في انعاش الإقتصاد، كل حسب إمكانياته وطاقته وموقعه.
ويشترط وهبي لذلك تجسيد قيمة العدالة في تقديم المساعدات للمغاربة، بناء على تقاسم مهمة انقاد الاقتصاد والشغيلة والمهن الاجتماعية الصغيرة، ولحماية القدرة الشرائية، بين موارد الدولة وبين مداخيل المقاولات الكبرى ذات الامكانات المهمة. و مرد ذلك أن الإعتماد فقط على الإمكانات العمومية سيؤدي إلى عمليات تضريب ستزيد من إضعاف الطبقة المتوسطة.
ومستشهدا بوصف أحد مساعدي الجنرال دوغول لمجتمع إعادة بناء اقتصاد فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، الذي اعتبره “مجتمع الريبة و الحذر لكونه مجتمعا هشا تسوده (معادلة) رابح-خاسر” وهو مجتمع متميز بضعف الحياة المشتركة، “مجتمع ملائم للنزاعات الاجتماعية، يسوده الانغلاق و عنف المراقبة المتبادلة”. في مقابله يفضل وهبي وضف مجتمع الثقة الذي هو “مجتمع النمو، مجتمع رابح –رابح، مجتمع التضامن و المشروع المشترك، مجتمع مفتوح على التبادلات و التواصل”. مستخلصا أنه في وضع المغرب “فإن أهم مقدمة لتشييد مجتمع الثقة، هي مقدمة عنصرين إثنين أساسيين : الأول هو التخلي عن اقتصاد الريع و الثاني هو محاربة الفساد”.
وبثقة في الدولة ختم وهبي ورقته التحليلية أنه و “إن كانت الدولة قبل الوباء عاجزة على خلق نمو اقتصادي مطرد، فإنها في مواجهة كوفيد 19، استطاعت امتصاص الصدمة و خلق شروط اقتصادية و اجتماعية و تنظيمية جعلت هذه المواجهة فعالة و ناجحة، و بناءا على هذا النجاح خلقت وحدة وطنية أساسها حماس حفاظ الأفراد لصحة غيرهم قبل صحتهم الخاصة، مما أنتج لحظة تاريخية ملئها التطلع لوطن أفضل”.
تعليقات الزوار ( 0 )