شارك المقال
  • تم النسخ

وسط مدينة الدار البيضاء بين التسيب الأمني وتدهور البنيات التحتية

تشهد مدينة الدارالبيضاء، في الأونة الأخيرة عدة أوراش تهدف إلى إعادة تأهيل هذه المدينة ، حيث تم الشروع في إعادة تصميم بعض الشوارع الكبرى ( كشارع أنفا ، وشارع المسيرة ،وشارع مولاي يوسف، وشارع الجيش الملكي…) وإعادة بناء المحطة السككية للميناء ، وتشغيل نفق الموحدين ، و إنجاز مشروع المارينا والانتهاء من إعادة بناء نفق ما يسميه البيضاويون بالكرة الأرضية إلى غير ذلك من الاوراش . لكن في الوقت الذي يتم فيه الاهتمام بإنجاز هذه المشاريع ، هناك إهمال شبه تام لوسط المدينة بشوارعها ومحلاتها التجارية ومقاهيها و فنادقها …، إذ على الرغم من تبليط ساحة الأمير مولاي عبدالله ، وإن كان قد ظهرت عيوب هذا التبليط فيما بعد ، و إصلاح بعض الممرات  التي تخترق وسط المدينة ( كممرالكلاوي ، وممر التازي …) و تبييض العمارات المتواجدة بشارع محمد الخامس  وتفويت مناطق وقوف السيارات لإحدى الشركات الأجنبية ، فعادة ما يلاحظ البيضاوي بذهول شديد التهالك المريع الذي أصاب أقدم وأعرق وأكبر وسط للعاصمة الاقتصادية : فدور السينما التي كانت تنشط هذا المجال قد أقفل جلها أبوابه ( كسينما لوكس، و الحرية ، وأب س و أوبرا …) في الوقت الذي تم هدم أخرى لتحويلها إلى تجمعات إسمنتية كما حدث بالنسبة لسينما النصر ،  ولم تتبق إلا بعض الدور التي مازالت صامدة ضد تيار الهدم مذكرة بعهد زاهر كان فيه وسط المدينة قطب استقطاب لساكني المدينة الذين كانوا يقصدونه ، خاصة في نهاية الأسبوع وهم يرتدون أحسن ثيابهم وواضعين أغلى عطورهم ، يجوبون شارع محمد الخامس وفق طقوس خاصة تقوم على الاحترام المتبادل ، والانتماء المشترك لنفس المدينة.

       أما المقاهي فقد فقد جلها الخصوصية التي كانت تميز كل مقهى عن مقهى آخر، فمقهى إكسلسيور ، التي ما زالت لحد الآن مغلقة ، فقدت طابعها الشعبي و روحها الثقافية و الفنية والسياسية التي كانت تستمدها من نوعية الزبائن التي كانت ترتادها من مثقفين ، ونقاببين ، ومتحزبين ، بالإضافة إلى العديد من العاملين في المرسى من سكان المدينة القديمة. أما مقهى فرنسا ، التي كانت تعتبر لفترة طويلة قبلة للمثقفين والسياسيين والفنانين  وباقي الفئات المتعلمة  ، فقد أضحت فضاء يستقبل على مدار 24  ساعة عينات من الزبائن لاهم لها إلا قتل الوقت في الثرثرة والتدخين ، وأشياء أخرى .في حين أن مقهى لاشوب التي فتحت منذ 1928 حيث تعد من أقدم مقاهي وسط المدينة ، أدبر عنها الزمن الذي كان يجلس فيها محامو الدار البيضاء بما فيهم المعطي بوعبيد والسملالي وآخرون وكانت ملتقى الفنانين  من عازفين كالحاج يونس و ملحنين  كلحلو ومطربين كمحمد الادريسي ومسرحيين كسعيد عفيفي والسنوسي بالإضافة إلى نخبة من الصحفايين والمثقفين وغيرهم من نخب العاصمة الاقتصادية.

       كما شهد وسط المدينة الذي كان يعج بالمحلات التجارية بواجهاتها المتلألئة التي كانت تعرض، الألبسة الجاهزة من بنطلونات  وقمصان ، ومواد التجميل ، إغلاقا للعديد من هذه المحلات التي توجه أصحابها لفتح محلات جديدة بالمعاريف الذي أصبح المكان المفضل للبيضاويين والبيضاويات لاقتناء مستلزماتهم وحاجياتهم . ولعل السبب الذي يكمن وراء هذه الوضعية المتردية التي يعرفها وسط المدينة هو الإهمال الذي يعاني منه هذا الفضاء البيضاوي العريق سواء على الصعيد الأمني أو على  مستوى تهالك بنياته التحتية.

  • التسيب الأمني 

      إن قرب هذا الفضاء ، من ساكنة المدينة القديمة التي تعرضت لهجرات من الوافدين الجدد بمنظوماتهم الثقافية ووسلوكياتهم القروية ، والاكتظاظ الذي تعاني منه أحياء هذه المدينة من جراء ذلك ، واستفحال ظاهرة المتاجرة وتناول المخدرات داخل دروبها ، بالإضافة إلى القرب من المرسى يجعل هذا الفضاء يستقبل العديد من المهمشين من أطفال الشوارع ، والحمقى ، الذين يكتسحون مختلف الفراغات والمساحات غير المأهولة ، والتسكع بين دروبه . كما يجعل هذا الفضاء قبلة للعديد من المجرمين بدراجاتهم النارية الذين يتحينون أية فرصة لسرقة وسلب مرتادي ومرتدات هذا الفضاء من حليهم أو هواتفهم النقالة أو نقودهم .  كما أن اختراق شبكة الترامواي لوسط المدينة وتوقفه ببعض محطاته بها أدى إلى نزول العديد من ساكنة الأحياء الطرفية  في وسط المدينة  بكل ما ينجم عن ذلك من سلوكيات مختلفة وعقليات خاصة تؤثر بلا شك في الحركية الهجينة التي يعرفها هذا الفضاء يوميا.

      كما أن ضم هذا الفضاء للعديد من الحانات والكاباريهات ، و فتح محلات تجارية لبيع المشروبات الكحولية ، عادة ما يؤدي  إلى خروج  العديد من السكارى والمخمورين للعربدة والتبول في مختلف جنبات وأزقة هذا الفضاء مما جعل العديد من العائلات ترحل من هذا الفضاء رغم قربه ورخص أثمنة السكن فيه  إلى أحياء أخرى رغم بعدها  وغلاء ثمن السكن فيها حفاظا على أمنها وخوفا على سلامتها    ولعل هذا العامل هو الذي سمح للعديد من الوافدين الجدد بالاستقرار ببعض أسطح العمارات القديمة أوالسكن ببعض سراديبها الأرضية مما جعل هذا الفضاء يعرف مجموعة من الجرائم المروعة و التي من أبرزها تلك التي تم فيها تقطيع أوصال فتاة من طرف أحد حراس هذه العمارات . فعمارات هذا الفضاء أصبح الكثير منها عبارة عن سكن عشوائي يخل بالجمالية العمرانية لهذه العمارات و الهندسة الفنية التي صممت بها هذه التجمعات السكنية العصرية.

    ومما زاد أيضا من التسيب الأمني داخل هذا الفضاء ، اختراقه من طرف العديد من سيارات الأجرة الكبيرة التي تنقل العديد من سكان الأحياء الطرفية كالبرنوصي ، و سيدي عثمان ، وحي الفلاح ، وحي عادل … لتحط بهم الرحال داخل ساحة الأمير مولاي عبدالله  ، أو بين أزقة شارع محمد الخامس ، أو قرب  فندق ريجنسي بما يرافق ذلك من اكتظاظ ، واحتكاك ، وتسيب.

    ولعل كل هذه العوامل قد ساهمت في جعل وسط المدينة يعاني من الكثير من مظاهر التسيب والتي تتمثل في  المعاكسات المتكررة للفتيات اللواتي يقصدن الفضاء للتسوق أوارتياد المقاهي  ، أو الإزعاج اليومي  الذي يتعرض له رواد المقاهي من طرف المتسولين و الباعة المتجولين ، والمختلين عقليا وسلوكيا… فوسط المدينة رغم اتساع أحيائه ، وكبر حجمه ،واستقطابه اليومي لمختلف الشرائح من سكان الدارالبيضاء وزوارها والوافدين عليها ، فإنه يفتقد لأي مرفق أمني . إذ باستثناء مركز الأمن التابع لبنك المغرب ، فلا وجود لأي مقاطعة أمنية أو مخفر للشرطة  . إذ يقتصر الأمن في هذا الفضاء على بعض الدوريات التي تقوم بها  بعض سيارات الأمن الوطني التي ترابض أمام الحانات وبعض المراقص في ساعات معينة من الليل ، أو تلك التي تقوم بها بعض السيارات التابعة للمقاطعة الحضرية ، والتي يقتصر دورها في الغالب على ملاحقة الباعة المتجولين أو الاكتفاء بابتزازهم . في حين لا وجود لدوريات أمنية منتظمة  كما في السابق ، مما شجع على اقتحام سائقي الدراجات النارية لوسط المدينة والتحرك بين أزقته بكل تسيب وبمطلق الحرية.

  • تهالك البنيات التحتية

      رغم التوسع الكبير الذي عرفه وسط المدينة ،  حيث  أصبحت  تخترقه عدة  شوارع  كبرى (  شارع المقاومة  ، و شارع باريس ، وشارع الجيش الملكي  و شارع الموحدين ) ، و ترتفع فيه عدة مؤسسات فندقية عالمية ( إبيس ، ريجنسي ، شيراتون ، رويال المنصور…  ) ومؤسسات بنكية ،  بالإضافة إلى برج الأطلس الذي يحتضن مقر عدة مؤسسات إعلامية ، وخدماتية ، … ويطل على أهم المراكز التجارية للعاصمة الاقتصادية كالميناء و ( درب عمر ) ، فما زال هذا الفضاء يعاني من نقص كبير في التجهيزات والبنى التحتية : فالإنارة العمومية ما زال لم يتم تجديدها ، ولم يتم تغييرها بشكل يتلاءم والطبيعة العمرانية والهندسية والوظيفية لهذا الفضاء . فوسط المدينة يجب أن يجهز بإنارة عمومية ذات مواصفات خاصة تعتمد على إضاءة جيدة وكاشفة تساعد على ضمان أمن مكونات هذا الفضاء ، وفي نفس الوقت تضفي عليه جمالية خاصة. كما وجب في هذا الإطار أن يتم  تأهيل الممر الأرضي لدرب الكبير أو ما يعرف لدى البيضاويين بالكرة الأرضية بفتح محلاته التجارية  التي علاها الغبار والتفكير في إعادة بناء بركته المائية  و تنميق واجهته الفوقية بإضاءات تجذب إليها الأنظار ، وتضفي على وسط المدينة رونقا خاصا في ليالي الدارالبيضاء الصاخبة . كما ينبغي الاتفاق مع المؤسسات الفندقية الكبرى المتواجدة في هذا الفضاء أن تهتم بوضع إضاءة  بألوان خاصة لبنياتها ستساهم بلا شك في إكساب هذا الفضاء مزيدا من الضوء والتألق .  فعلى الرغم من أن بعض الفنادق ، كفندقي ريجنسي وإبيس ،قد شرعا منذ فترة غير قصيرة في تنفيذ هذه العملية ، إلا أن الأمر يتطلب أن تحذو كل المؤسسات الفندقية حذو هذين الفندقين .

ولضمان تجول آمن ومطمئن لمرتادي هذا الفضاء يسمح لهم بالتحرك بكل حرية واطمئنان بين جنباته ومحلاته ، فمن الضروري أن يتم توسيع رصيف وسط المدينة  من خلال منع مرور السيارات الخاصة و سيارات الأجرة ( خاصة ما يسمى بالكبرى ) في أزقة  هذا الفضاء في مرحلة أولى ، ليتم العمل في مرحلة ثانية على تبليط كل الأزقة التي تخترق ساحة الأمير مولاي عبدالله ، وشارع إدريس الحريزي ، وكذا الأزقة المؤدية إلى شارع محمد الخامس ، مما سيسمح بأن يتوفر وسط أكبر مدينة في المغرب على رصيف يليق بحجمه وذلك على غرار بعض المدن العملاقة كاسطنبول ، أو شنغاي      ولعل توسيع مثل هذا الرصيف سيسمح بتدشين حركة تجارية واقتصادية وترفيهية في هذا الفضاء ، إذ أن هذا التوسيع  ، سيسمح بفتح عدة محلات تجارية ومؤسسات مالية وبنكية ، كما سيحول هذا الفضاء إلى قبلة سياحية وترفيهية من خلال فتح العديد  من المقاهي أوالمطاعم وأماكن ترفيهية أخرى.

  بالإضافة إلى ذلك ، فينبغي العمل على استكمال تأهيل كل الشوارع المؤدية إلى وسط المدينة ، كشارع باريس ، وشارع للاياقوت وذلك على غرار ما تم إنجازه بالنسبة لشارعي  الجيش الملكي  والموحدين  …… مع إعطاء أولوية خاصة على إعادة تأهيل شارع  محمد الخامس ، بوصفه إحدى المكونات الرئيسية لوسط المدينة ، حيث ينبغي تبيض واجهة بناياته وعماراته سنويا ، والعمل على الإسراع في بناء كل الساحات الفارغة فيه من خلال إنجاز بنايات تحترم الخصوصية الهندسية والعمرانية لهذا الفضاء ، بما في ذلك إعادة بناء فندق لنكولن بعدما تم مؤخرا تفويته إلى مجلس المدينة مع الحفاظ على خصوصيته الهندسية والمعمارية . كما آن الأوان لتجهيز هذا الفضاء بمتاحف تحفظ ذاكرة المدينة الوطنية والمحلية ، حيث يمكن تحويل مقر بنك المغرب إلى متحف يضم كل الفترات التاريخية للمدينة سواء تلك التي همت تاريخ تشييدها أو فترة المقاومة …  من خلال الصور والأفلام والأشرطة والمجسمات التي تؤرخ  لمختلف هذه الفترات.

    وإجمالا ، فقد حان الوقت للإسراع في إعادة تأهيل وسط المدينة كمجال تاريخي ، ومعماري ، واقتصادي ، وترفيهي وإدماجه في إطار الحركية التي تعرفها العاصمة الاقتصادية سواء على مستوى إعادة تأهيل كورنيشها ، وشوارعها ومينائها ، ومحطاتها السككية والطرقية ، وتوسيع مناطقها الصناعية والمالية ، وتجهيزه بكل البنيات التحتية الضرورية ، من إنارة ، وتزفيت ، وتبليط ، وتبييض ، مع توفير كل الشروط الأمنية التي يتطلبها تسيير وتنظيم هذا الفضاء البيضاوي العريق.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي