أزمة كورونا التي اجتاحت العالم، كشفت أن ثلاثة فاعلين هم من يتصرف اليوم في مصائر العالم، علماء الفيروسات الذين ينصحون بشكل مواجهة الوباء، وأجهزة الأمن بكل أطيافها، التي تصرف المعلومة، وتضبط إيقاع الشارع، وصانع القرار الذي يوجه الحد الأدنى من السياسات الاقتصادية، ويستدر التضامن من المجتمع.
لست مختصا في علم الأوبئة حتى اقتحم النقاش في أي الاستراتيجيات الأنسب لمواجهة هذا الوباء، وليس كل الدول تملك زمام أمرها في تحكيم الاستشارة الوبائية الداخلية، ثم إن اعتبارات الأمن تغلب أحيانا الاعتبارات الفنية، والأمن يختار دائما الاحتمال الأسوأ، وهذا ما يفسر لجوء أغلب الدول إلى الحجر الصحي، ولزوم المجتمعات البيوت بالقوة الناعمة والخشنة وسلطة قانون الطوارئ.
المفكرون والفلاسفة تواروا إلى الخلف، والبعض منهم تحرك في أربع جبهات، جبهة نقد الرأسمالية الغربية المتوحشة التي تقايض حياة الناس بتوقف حركية السلع، وجبهة التفكير الرومانسي في القيم التقليدية، الضائعة والأوبة إلى البيت والأسرة والتضامن والحميمية، وجبهة نقد هشاشة الحداثة، بسبب تراجع يقينيتها إلى أبعد الحدود، وضعف قوانينها، وعجزها عن التوقع ومواجهة الأخطار، وجبهة أخرى أنطولوجية، تستعيد فكرة ضعف الخلق أمام الخالق، والحاجة لمدد السماء لمواجهة وباء عجزت إمكانات الإنسان عن تطويقه.
الاستراتيجيون، وربما حتى الاستخباراتيون، لا يزيلون من الاعتبار مقولة الحرب البيولوجية. ومع عدم وجود أي دليل يمكن به أن يسلموا بأن بصناعة جهة ما للفيروس مختبريا، إلا أنهم، يطلقون العنان، لتفكيرهم للجواب عن المستفيد من انتشار هذا الوباء، ومن تهاوي أسعار النفط، وتراجع الاقتصاد العالمي، واحتمال حصول كارثة اقتصادية قوية في أوروبا وأمريكا.
علماء السياسية، والمختصون في العلاقات الدولية، باشروا الحديث بشكل استباقي عن أثر هذا الوباء في تغيير النظام العالمي، وتشكل نظام جديد، وأن كورونا سيكون بمثابة الحد الفاصل بين نظام ونظام، وأن الصين ستتبوأ مكانتها في النظام المتشكل.
علماء الدين في العالم العربي، اختلفت بهم السبل، منهم من استرجع هدي الرسول الكريم في الحجر الصحي، ومنهم من استرجع مقولة الغضب الإلهي الذي ينزل بسبب كثرة المعاصي، ومنهم من حركته الفاعلية الاجتماعية لاستدعاء التضامن الاجتماعي وتوظيف النص الديني لإذكاء مشاعر الوحدة المجتمعية في مواجهة هذا الوباء والتزام التوجيهات الصحية.
الذين يفكرون من داخل الأزمة من هؤلاء، يهتمون بسؤالين، نقد الأسباب التي جعلت القدرة على مواجهة هذا الوباء محدودة، وجعلت مجرمي السياسة يفكرون في مصالح المتنفذين أكثر من تفكيرهم في حياة الناس، وسبل تأمين لقمة الخبز للصبر أطول مدة داخل البيت في ظل دفء الأسرة.
الذين يفكرون في مواجهة الأزمة، ينشغلون بثلاثة أسئلة، التزام إملاءات علماء الفيروسات، والتكيف مع اقتصاد الندرة، واستدرار التضامن.
أما الذين يفكرون فيما بعد الأزمة، فيهيمون في تصور شكل النظام العالمي الجديد، وأي القوة ستهمين فيه، وهل سينعكس ذلك على قواعد اللعب، ومنهم، من يفكر في مساءلة أساسيات النظام الرأسمالي، ودور الدولة، واستدعاء الصفة التدخلية فيها، وأنظمة الحماية الاجتماعية، ومراجعة منظومة القيم وغيرها من الأسئلة. الذين يفكرون من داخل الأزمة، والذين يفكرون من خارجها، يملؤون الدنيا بالثرثرة الفارغة، لسبب بسيط لأنهم يرون أن بالإمكان تغيير منطق صنع مسارا وتجربة دامت قرونا طويلة: منطق الحداثة، وسيرورة الاقتصاد الليبرالي المفتوح، وهيمنة حرية الفرد، فليست هذه هي المرة الأولى التي واجهت فيها أوروبا وأمريكا الأزمات، فقد واجهت الأزمة الاقتصادية لسنة 1929، والأزمة المالية لسنة 2008، ولم تحرك مثل هذه الثرثرات الحافزية لمراجعة شيء من النسق الذي قامت عليه الحداثة الغربية، وذلك لسبب بسيط، لأن المسار الذي قطعته الحداثة الغربية، لا يقبل أن تكون المراجعة من خارج نسقه، أو باستدعاء عناصر تشكك في مسلماته وأسسه، فذلك يهدم الحداثة ولا يصحح مسارها.
ما الممكن توقعه في هذه الأزمة؟ موت البسطاء ومعاناتهم، وربما موت غير البسطاء. جواب الحداثة، أو بعض تقليعاتها النيوليبرالية، أن التخلص من كبار السن يخدم الديمغرافيا، كما يخدم الاقتصاد ولو على المدى البعيد.
انهيار الاقتصاد أو انكماشه، وربما تنامي نزعات الانفصال بسبب عدم قدرة المناطق الغنية على تحمل توزيع بعض عائداتها على المناطق غير المدرة للثروة، كل شيء ممكن، لكن ثمة خيارات للعودة إلى نقطة الصفر. هناك عالم عربي، وعالم ثالث، يدفع الكلفة من عائداته ومقدراته، وهناك قدرة على شحذ الهمم للتضامن الأوروبي من جديد، رغم ما تحتفظ به الذاكرة من تمثلات سيئة عن الأنانيات الأوروبية، فالديمقراطية وتداول السلطة، تسمح بأن تلعن السلطة الجديدة السلطة القديمة وتمحو عارها، وتنتج من الشعبويات التضامنية ما ينسي الجراح.
نحتاج دراسة هذه النقاشات بترو، فالمشكلة المطروحة علينا عربيا ستكون الأسوأ، فهذه المنطقة عرفت زخما انتفاضيا قويا، وحالها الاقتصادي وقتها كان أفضل بكثير مما هي عليه الآن، أو من المتوقع أن تصير عليه، وهدوء المجتمعات ومكوثهم في البيوت، إنما يصنعه الخوف، والخوف وحده، لا يمكن أن يخلق الانقياد عند عدم القدرة على تحمل تداعيات الأزمة.
ستخسر أوروبا وأمريكا وظائف كثيرة، وسيتأثر الاقتصاد، وستندلع احتجاجات فئوية عارمة، لكن في المحصلة، سيتم احتواؤها، كما احتوت فرنسا حراكي السترات الصفراء وعمال قطاع النقل، فهذه الدول تملك خياراتها الاقتصادية، وتملك الديمقراطية التي تجعل الناس تنتقم من الحكومات إذا ملت منها أو رأت أنها سبب نكستها، أما بالنسبة إلى عالمنا العربي، فأي الخيارات نملك سوى تدمير ما تبقى من الاجتماع السياسي؟
أخشى أن يتوالى مسار سقوط الدولة في العالم العربي، فقط سقطت في العراق، وسوريا، واليمن، ثم في ليبيا، وانتهت هذه المناطق إلى حالة فوضى لا ندري متى تنكشف غمتها. أخشى أن يكون ثمن مواجهة تداعيات هذا الوباء، انهيار ما تبقى من الاجتماع السياسي العربي، والاستسلام إلى المصير الذي توقعته، أو تعمل عليه استراتيجيات دولية، تخلق حالة الفوضى الخلاقة في هذه المنطقة.
خياراتنا المطروحة لمواجهة هذا التحدي، هي نفس خيارتنا في مواجهة وباء كورونا: المصالحة ونسيان الماضي، ووحدة الدولة والشعب، واستعادة الثقة في المؤسسات، وتأسيس تجربة ديمقراطية تعاقدية جديدة ذات مصداقية، والقطع مع اقتصاد الريع، واستدعاء ثقافة التضامن لمواجهة اقتصاد الندرة.
لم أمل من قراءة المقال……………………………………