Share
  • Link copied

هل يكسب المغرب الرهان في إدارة توتره الدبلوماسي مع اسبانيا؟

التوتر الدبلوماسي الذي نشب بين المغرب واسبانيا على خلفية استضافة مدريد زعيم الانفصاليين إبراهيم غالي على أراضيها، أظهر مفارقة كبيرة في الموقف. فبقدر ما كشف المغرب عن أدوات قوية في إدارة الصراع، بقدر ما أخفت أوراقه مقاصده، وماذا يريد على وجه التحديد. وبقدر ما تصر اسبانيا على التزام موقفها من قضية الصحراء، بقدر ما تفتقد الخيارات للخروج من الأزمة، التي وضعت فيها نفسها.

أدوات المغرب في إدارة الصراع كانت بلا شك قوية، لأنها اعتمدت المعلومة الاستخباراتية المتعلقة بوصول إبراهيم غالي إلى الأراضي الإسبانية بهوية وجواز سفر مزورين. تلك المعلومة الدقيقة التي أساءت حكومة مدريد التقدير، وظنت أن المغرب لن يتمكن من الحصول عليها، فظهرت اسبانيا كما ولو كانت تلعب من وراء ظهر شريك لها، وتطعنه من الخلف، من حيث هو يقدم كل الدعم والإسناد لها.

والمشكلة، أن اسبانيا وقعت في الخطأ مرتين، وذلك حينما بدأت تفكر بشكل سري، وبتنسيق مع الجزائر، في تهريب إبراهيم غالي خارج أراضيها، بالطريقة ذاتها التي أدخلته إليها، وأساءت التقدير مرة أخرى، حين ظنت أنه بالإمكان أن تقوم بهذه العملية، وتتخلص من هذا العبء الثقيل، وتضع المغرب أمام الأمر الواقع، فاستبقت أجهزة الاستخبارات المغربية الأمر، وحذرت اسبانيا، من هذه الخطوة، واعتبرت أن ثمنها هو قطع العلاقات الدبلوماسية. المغرب استعمل ورقتين، أولهما هو ما وفرته الكفاءة الاستخباراتية من معلومات دقيقة وضعت اسبانيا في حرج مع رأيها العام الإسباني، ومع جهازها القضائي وأيضا مع القوانين والقيم الأوروبية، بحيث تعذر على حكومة مدريد اللجوء إلى سياسة الإنكار. وثانيهما، هو التلويح بورقة الهجرة، من خلال إخلاء قوات الجيش والأمن لمواقعهم في الحدود المتاخمة لمدينة سبتة المحتلة، مما نتج عنه نزوح أكثر من 8000 شخص إليها في أقل من يومين، معرضة بذلك المدينة المحتلة لأزمة غير مسبوقة. اسبانيا، حاولت اللعب بورقتين مقابلتين، أولهما استغلال القاصرين والاشتغال على معاناتهم (تشويه صورة المغرب) وثانيتهما جر الاتحاد الأوروبي للمعركة مع المغرب، لكنها على ما يبدو فشلت في ذلك، فاضطرت إلى تخفيف لغة التصعيد بتصريحات تحاول التأكيد على أن المغرب شريك قوي، وأن المغرب لن يجد شريكا أقوى يدافع عن مصالحه من اسبانيا.

لحد الآن، المغرب لم يستعمل كل أوراقه، ولا يبدو أن اسبانيا التقطت بشكل جيد الإشارة من وصول 8000 شخص إلى سبتة، لا مضمونا ولا توقيتا.

أما المضمون، فمشحون بجملة إشارات غير مفهومة المغزى على وجه التحديد، وهل المقصود تحذير اسبانيا من إغراق أراضيها بالمهاجرين السريين، وعدم التزام المغرب بلعب دور دركي أوروبا، أم المقصود تنبيهها من مخاطر التهديدات الإرهابية التي قد تستهدفها في حال توقف المغرب عن التنسيق المعلوماتي والقضائي معها، أم المقصود، هو تتويج مسار من التخطيط المحكم لاسترجاع مديني سبتة ومليلية المحتلتين. وأما التوقيت، فهو الآخر ملغز، ومشحون بالدلالات الأمنية، فشهر مايو وتحديدا السادس عشر منه، يعيد إلى الأذهان حدث تفجيرات الدار البيضاء (2003) وهي إشارة ربما كانت مقصودة، أو على الأقل، كان يرجى التقاطها من صول 8000 شخص إلى سبتة عقب ذكرى السادس عشر من مايو، التي تذكر بمخاطر الإرهاب من جهة، وبالدور المركزي الذي تقوم به أجهزة الأمن المغربية لتفكيك الخلايا الإرهابية وتأمين حدود أوروبا وجارة المغرب الشمالية.

المغرب نجح أيضا على مستويين آخرين، فمن جهة استطاع أن يحرك الرأي العام الإسباني ضد حكومته، فتعرى أمامه صورتها الأخلاقية والقانونية، وفضح تورطها وتواطئها في استقبال شخص رفعت ضده أمام المحاكم الإسبانية شكاوى من ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومن جهة ثانية، فالمغرب لحد الآن، لم يكشف عن طلباته وماذا يريد، فقد وجهت لوزير خارجيته أسئلة بهذا الخصوص، وماذا يطلب بلده من اسبانيا أن تفعل من أجل طي الملف، فكان دائما جوابه، أن اسبانيا التي افتعلت هذه الأزمة، هي التي عليها أن تجد طريقا لحلها. الرأي العام الإسباني، بما في ذلك الصحافة الإسبانية وبعض النخب السياسية، تفاعلت بشكل إيجابي مع منطق المغرب، ووضعت حكومة سانشيز في دائرة المساءلة والاتهام. ودول أوروبا، على ما يبدو، لا تريد أن تخوض مع اسبانيا معركة خاسرة، هي تعلم أن المغرب يملك فيها حججا منطقية، وأنه لم يسبق في سجله أن قام بما يطعن في مصداقيته في احترام التزاماته مع الاتحاد الأوربي. اسبانيا اليوم في مأزق كبير، ليس لأن أوراقها محدودة، وخياراتها غير مفتوحة، ولكن، لأن الخيارات التي تفكر فيها، لا تضمن أن المغرب سيتفاعل معها بشكل إيجابي، لاسيما، وأن الخبرة الدبلوماسية المحدودة، لحكومة سانشيز لم تساعدها في تجنب أي تصريح يسد الطريق على إمكانية مراجعة الموقف بخصوص الصحراء، فقد سارعت وزيرة الخارجية الإسبانية إلى التأكيد بأن موقف بلادها من الصحراء لن يتغير، وأنها لن تخضع في هذا الموضوع للضغط من قبل المغرب.

كان من الممكن لاسبانيا أن تُبْقي هذا الأمر مفتوحا، وتظهر من سلوك جهازها القضائي بعض التجاوب مع الطلب المغربي، وفي الوقت ذاته، تناور بأوراق أخرى، تتعلق بتعهدات بالضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل مزيد من الدعم، مع فتح نقاش جدي مع الرباط، حول الحد الأدنى من الدعم الإسباني للمغرب في ملف وحدته الترابية (أي التعهد بعدم القيام بأي دور يخدم مصالح خصوم الوحدة الترابية) لكن- على ما يبدو- فإن اسبانيا فقدت البوصلة تماما، وتعتقد أن الخيار الأمثل هو عودة غالي بطريقة سرية إلى الجزائر، والتخلص من وجع الرأس الذي تشكله هذه القضية. السيناريوهات القادمة تنبئ باتجاهين، الأول للتهدئة والاحتواء، وذلك بإتاحة الفرصة للجهاز القضائي الإسباني للقيام بدوره في هذه القضية ومتابعة إبراهيم غالي أمامه، مع تقديم اعتذار رسمي للمغرب عن سوء التعامل، وعدم تقدير مقتضيات الشراكة المغربية الإسبانية. والثاني، هو الدخول في موجة تصعيد آخر، قد تنتهي بقطع العلاقات الدبلوماسية، وهو الخيار الذي لوح به المغرب، وأظهر جديته في المضي فيه إلى أبعد مدى. اسبانيا تخشى بشكل جدي الاتجاه الثاني، لكنها لحد الآن لا تتخذ أي مسعى لتلافي الوصول إليه، بينما المغرب، يهدد بالمضي في الاتجاه الثاني، لكن سلوكه الدبلوماسي كله، يتجه لدفع اسبانيا إلى الاتجاه الأول. التقدير أن المغرب سيكسب الرهان في الأخير، وسيخرج بأكثر من نصف انتصار، على الأقل، سيتم الاستجابة لطلبه بتحريك المتابعة القضائية ضد إبراهيم غالي، وسيكون هذا الحدث بمثابة درس بليغ موجب لإعادة تعريف مفهوم اسبانيا للشراكة مع المغرب، والتدقيق في مصالحه المقابلة، بحيث سيكون من الصعب عليها أن تتخذ موقفا عدائيا من مصالح المغرب الحيوية، أو تصطف إلى جانب خصوم وحدته الترابية.

Share
  • Link copied
المقال التالي