شارك المقال
  • تم النسخ

نقدُ العقلِ التاريخيّ: قراءةٌ في كتابِ “التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر”

1/ الجابريُّ مؤرخا

في جلسَةٍ ثقافيّةٍ ومعرفيّةٍ خاصّة؛ فاجأني الباحثُ الصّديق الدكتور “خالد طحطح” بكونه يعمَلُ على تخريج ودراسةِ عملٍ غير معروف في أوساط الباحثين، للمفكر المغربيّ البارز “محمد عابد الجابري”. وإذا كان ظهورُ عملٍ غير منشور لمُفكّرٍ بمثابةِ ومكانةِ “الجابري”؛ يُعَدُّ مفاجأة سارّة للباحثين والقراء، فإنّ موضوعَ العمل شكّلَ بالنسبة لي مفاجأة ثانية، إذ يرتبط بحقلٍ معرفيٍّ لم نعهد “الجابري” يحرثُ في أرضه، ولم نعرف له اهتماما لاحقا بالموضوع، وإن كان لا يمكنُ فصلُهُ عن مَشروعهِ في “نقدِ العقل”. يتعلق الأمرُ بموضوع التاريخ والكتابةِ التاريخية، وتحديدا: نقد الكتابة التاريخية المغربيّة في مرحلتها المُبكّرة. وهكذا فإنّ أوّلَ كتابٍ كتبهُ المفكر المغربيُّ اللامع “محمد عابد الجابري” هو آخرُ كتابٍ يعرفُ طريقَهُ للنشر، وهو: “التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر”، الذي كتبهُ “الجابري” لنيلِ دبلوم الدراسات العليا بكلية الرباط تحت إشراف الفيلسوف المغربي الكبير “محمد عزيز الحبابي”.

 ولا شكّ أنّ البَحّاثة المُميَّزَ “خالد طحطح” أهدى جمهورَ الباحثين والقراء، لقيةً نفيسَةً وعِلقا ثمينا، مؤكدا جدارتَهُ بلقبِ “الباحث” الذي يترفّعُ عن “سَقطِ متاعِ” البحثِ العلميّ، وعن القضايا “المطروحة في الطريق” بتعبير “الجاحظ”، ليبحثَ في الدروبِ الخلفيّة، والمَناطقِ المُعتِمة، ويثُيرَ الإشكالات المُلتبَسة، ويسيرَ في حقل محفوف بالألغام. والعبارة الأخيرةُ ليست محضَ استعارةٍ أدبيّةٍ، فبعد معرفتي بحيثيّات العملِ وظروفهِ، والصُّورة المُزرية التي كانت عليها الأوراقُ المَرقونة، تبيّن لي أن الباحثَ بالفعل تقدّمَ في حقلٍ من الألغام، وتكبّدَ الكثيرَ من النّصَب والعناء، ليُخرج هذا الكتابَ في صورةٍ تُرضي القراء والنقاد، ولم تكن هذه المغامرة لتَمُرّ من غير أضرار جانبيّة كما سيتبيّنُ لاحقا.

2/ النقد والتاريخ

في كتابه الأهم “هل اعتقدَ الإغريقُ بأساطيرهم”؛ يجادلُ “بول فاين” بكون التّاريخ كما نتصوّرُهُ في وقتنا الراهن، بما هو مُمارسَةٌ نقديّةٌ للنصوص والمَواردِ والآثار، لم يكن بفعل اكتشافِ هذا المبدأ الفلسفيّ والمنهجي المركزيّ في تاريخ الفكر، أي مبدأ “النقد”. فالنّقدُ كان منذ القديم، وقد مارستهُ الحضاراتُ القديمة بلياقةٍ عاليةٍ، وإن كان بصُورٍ ومراتبَ مُتفاوتةٍ. غير أنّ الانعطافَ الأهمّ في تاريخِ “الفكر التاريخيّ”، هو توحُّدُ النّاقد والمُؤرّخ في شخصٍ واحدٍ، وفي إهابٍ وحيد. فلم يعد المؤرّخُ جمّاعةً للنصوص من غير تمحيصٍ، ولا ناقلا للأخبار من غير تدقيقٍ، ولا ساردا للحوادث والكوائنِ من غير نقد وتزييفٍ، بل أضحى المُؤرّخُ الناقدَ الأوّل لأخبارهِ، والفاحصَ الأوّل لمصادرهِ وموارده، والمُتأمّل الأول في سرودِه ونصوصهِ.

يَنطبقُ هذا التصوُّر بشكلٍ لافتٍ على كتابِ “محمد عابد الجابري”: “التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر”، فأهميّتُهُ الشّديدةُ تتأتى من هذا الوَعي المُزدوَج بالتاريخ والنقد كليهما. فالناقدُ الكبير الذي كانه “الجابري” رحمه الله، والذي تبدّى كأقوى ما يكونُ في أعظم مَشروعٍ نقديّ في الفكر العربيّ المعاصر، وهو مشروع “نقد العقل العربي”، يكشفُ في هذا الكتابِ المُبكّر عن هذا الاقتدار النقديّ الواسِع، وعن هذا النّظر المَنهجيّ العَميق، وعن هذا الأسلوبِ العلميّ الجديد في تاريخ الفكر العربيّ، والذي يجدُ أصولَهُ في أكبر النّظريات الإبستمولوجيّة الحديثة، وهذا يُغري بطرحِ الأسئلةِ الآتية: لماذا توجّهَ “الجابريُّ” إلى موضوعِ الكتابة التاريخيّةِ وهو المُنتسِب إلى حقلِ الفلسَفة؟ ولماذا هذا الاهتمام المُبكّر بمسالكِ الكتابةِ التاريخيّة بالمغرب في مرحلةٍ لم تُحقّق فيها هذه الكتابة تراكما كبيرا؛ يسمَحُ بالتّصنيفِ والتّمحيصِ والنّقد؟ ولماذا هذا “المرور العابر” على الموضوع، وعدم اعتباره جُزءا من نظريّةِ “نقد العقل العربي”؟ لماذا هذا الانعطافُ من “نقد العقل التاريخي” إلى نقد العقل العربيّ البياني والبرهاني والعرفانيّ؟ ولماذا غاب العقلُ التاريخيّ عن مشروع “الجابريّ”؟ هل اعتقدَ “لجابريُّ” أنّ مشروعَهُ في تظهير الفكر الخلدونيّ، يُغني عن التوسُّع في نقدِ منازع التفكير التاريخي في التراث العربي الإسلامي؟

السُّؤالُ الأخير يُحِيلنا على قضيّةٍ مركزيّةٍ في كتابِ “الجابريّ”: “التاريخ والمُؤرّخون في المَغرب المُعاصِر”، وهي قَضيّةُ “الخلدونيّة”، أو قضية “المنهج الخلدوني”. فالعنوانُ الفرعيُّ للكتابِ ذو أهميّةٍ خاصّة وجديرٌ بالنّظر والاعتِبَار: “دراسَة نقديّة على ضوءِ المَفهوم الخلدونيّ للتاريخِ والتأريخ”، وهو ما يطالعُنا باستمرار على طولِ صفحاتِ الدّراسَة، إذ تحضُرُ المَقولات الخلدونيّةُ في نقدِ الأخبار، وتمحيصِ الرّوايات، وقراءةِ الأحداثِ على ضوء الاجتماع الإنساني، واستنباطِ القوانين التاريخيّة من طبائعِ العُمران. لكنّ نقدَ “الجابري” كما يتبدّى للقارئِ الحَصيف، لا يقتصرُ كما يوحي العُنوان؛ على تبني المَنهج الخلدونيّ، بل نلحظُ انفتاحا واسعا على أهمّ المَنازع التاريخيّة الحديثة، وإن لم يحضُر أصحابها بالاسم والرّسم، ومن السُّهولةِ بمكان إلحاقُ بعض نقودِ “الجابري” اللامعة بأصولها لدى أصحابِ ما بات يعرف بالتاريخ الجديد.

كما يكشفُ العنوانُ الفرعي للدراسة أيضا، عن لقاءِ “الجابريّ” الأول والحميميّ بابن خلدون، وهو اللقاء الذي سيتحوّلُ إلى “قصّةِ حُبّ حقيقيّةٍ”، فقد صاحبَ “ابنُ خلدون” الجابريَّ في كل تاريخهِ العلميّ، وحضر في قلبِ مَشروعه الفلسفي والفكريّ، فقد كانت أطروحتُهُ للدكتوراه حول “علم العمران الخلدوني” وقد طُبعت لاحقا بعنوان “العصبيّة والدولة”، كما مثل ابنُ خلدون أحدَ أعمدةِ “المدرسة المغربية البرهانية”، في مشروعِ “الجابريّ” الأهمّ والأعظم “نقد العقل العربي” بأجزائه الأربعة. إذ يحضرُ الشامخُ “ابنُ خلدون” إلى جانبِ فلاسفةٍ ومُفكرين وأصوليّين عظام، من قبيل: ابن رشد، وابن باجة، وابن طفيل، وابن حزم، والشاطبي، وابن مضاء النحوي.. مُمثّلين لهذه المدرسَةِ ذات التوجه البرهاني في الممارسة الإبستمولوجية، تطويرا للممارسة البيانية، ونقدا للممارسة العرفانيّة.. فهل يمكن أن نربط بين هذا الاهتمام المبكر بالخلدونيّة وبين معالم المدرسة الفلسفية المغربية كما تصورها الجابري؟  فهل يمكنُ الحديث عن “نقدِ العقل التاريخيّ” عند الجابري سبقَ نقده للعقل العربي المعرفي والسياسي والأخلاقي؟؟

تفتحنا هذه الأسئلةُ على قضيّةٍ جديدةٍ وجديرةٍ بالاهتمام، تؤكّدُ ثانيةً على أهميّةِ الكتابِ وجدارتهِ بالنّشر والدراسة، وتتعلّقُ بالتطوُّر الفكريّ الذي عرفه “الجابريُّ”، فمثلِ هذه الأعمال المُبكّرة التي لم تعرف طريقَها للنشر، تسمحُ برصد هذا التطور، وتتبع محطاته وانعطافاته، لهذا يُعتبَرُ التنقيبُ في أرشيفاتِ الكتاب والمفكرين تقليدا راسخا في الأكاديميا الغربية. ومن حقنا أن نربط بين نقد العقل التاريخيّ العربي كما يتبدّى في هذا الكتاب، وبين مشروع “نقد العقل العربي” الذي طوّرهُ “الجابري” بدءا من “التكوين” إلى “البنية” إلى “نقد العقل السياسي” و”انتهاء بنقد العقل الأخلاقي”، ثم انعطافا إلى “نقدِ العقل التفسيري” إن صحّ التعبير. خاصّة وأنّ هذه الدراسَة عرفت امتدادَها وخصوبتها؛ في أطروحةِ الدكتوراه حول أسُس علم الاجتماع الخلدونيّ.

3/ حرفة المؤرخ

نستحضرُ هنا العنوانَ الشّهير لكتابِ “مارك بلوخ” مؤسّس مدرسَةِ الحوليات إلى جانب “لوسيان فيفر”، وهو الكتابُ الذي يُعتبَرُ بمثابةِ البَيان النظريّ/Manifest لمدرسَةِ الحوليات، التي حقّقت ثورةً في الفكر التاريخيّ مطلعَ القرن العشرين. فالجابريُّ قبل أن يشرعَ في قراءتهِ النقديّةِ لمتون المدونة التاريخية المغربية، قدم لنا عرضا نظريا مختصرا لكنه مفيدا، وقفَ فيه عند مفهوم كلمتيْ “التاريخ” و”التأريخ”، وخصائصِ الحادثةِ التاريخيّة (ما الذي يجعلُ من حدثٍ ما حدثا تاريخيا؟)، ومُهمّة المؤرخ المتمثلةِ في “إعادة بناء الماضي”، وقضية الذاتيّة والموضوعية، وعلاقة التاريخ ببعضِ العلوم المجاورة، وبصفة خاصة هذا التوتر المُستمر للتاريخ بين الأدب والعلم.

وإن كان هذا المبحث يتضمن أنظارا قيّمة تكشفُ عن وعي “الجابريّ” المبكر بحدود المنهج العلمي في التاريخ، فإن الثورات المتلاحقة التي عرفها البحث التاريخيّ في العقود الأخيرة، تجعل من هذا القسم بحثا في “تاريخ المنهج التاريخي” أكثر مما هو “بحث في منهج المؤرخ”. وإن كان “الجابري” في كل الكتاب يؤكد على تبنيه للمنهج الخلدوني في تقويم الكتابة التاريخية، فإن هذا القسم يكشف عن اطلاعه على بعض الرؤى الجديدة التي ظهرت منتصف القرن العشرين.

5/ نقد الكتابة التاريخية المغربية

أما القسمُ الثاني من الكتاب وهو جوهرُ الأطروحة، فقد وقفَ فيه “الجابريُّ” بإسهابٍ نسبيّ على منازع الكتابةِ في تاريخ المغرب كاشفا مَحدوديّةَ شرطِها التاريخي، وتواضُعَ نتائجِها المعرفية. وهي في مجملها تنقسم إلى (1) كتابة تقليديّة: برغم ما تتميّز به من تراكم كميّ، إلا أنها “لا تقدّمُ صورةً واضحةً عن تاريخ المغرب”، إذ هي “عبارةٌ عن سَردٍ زمنيّ لوقائعَ معزولةٍ، وأحداثٍ منفردة، في غير ما ترابط أو تماسك”، كما أنها تفتقرُ إلى المَنهجِ النقدي، الذي يعايرُ الأخبارَ على ضوء قوانين الاجتماع الإنساني، أو “طبائع العمران” كما عبر ابن خلدون.  (2) كتابات أجنبية: وهي على أهميّةِ تجديدِها المَنهجيّ، واستفادتها من الفتوحاتِ المعرفيّة الحديثة، فإنها كثيرا ما تنكّبَت طريقَ العلم، لتحكم بمُطلقِ الهوَى والتعصُّب، مَدفوعة بنزعةٍ عنصريّة واستعمارية بغيضة. (3) كتابات حديثة: وهي وإن كانت تطمحُ إلى “التجديدِ في طريقة الكتابة”، فإنها ظلت تعاني إجمالا من هُزالةِ في الإنتاج وضعف في المنهج، وإذ رامت تقديم خطابٍ تركيبي لتاريخ المغرب، استنادا على أعمالِ المُؤرّخين القدامى، وإسهاماتِ المحدثين (الأجانب) فإنها قدّمت تركيبا سطحيا هجينا لا يرقى إلى مستوى التاريخية الحديثة.

تتبع “الجابري” اتجاهات هذه الكتابة “الحديثة”، وحصرها في ستة اتجاهات أساسيّة: (1) الكتبُ المدرسيّةُ: وهي على قلتها من حيث الكم هزيلةٌ من حيثُ المضمون، وتعاني من إعاقاتٍ تكوينيّة، فهي مُشبَعةٌ بالروح الوطنيّة، بالقدر الذي يحيدُ بها عن الموضوعية، وتطغى عليها الأحكامُ العامّة المُتسَرّعة، ويغيبُ فيها التّحقيقُ التاريخي، فضلا عن كونها تحفلُ بالتناقضات والتخليطات بالقدر الذي يُشوّشُ على الطّالب، ويُضعِف لديه حاسّةَ النقد. (2) مؤلفات التحصيل والتجميع: وهي المُؤلفات الموسوعيّة التي اهتمت بمنطقةٍ من المناطق، أو مدينة من المدن (المعسول، تاريخ تطوان..)، وتتميز بالإسهاب والتوسُّع، ويختلط فيها الغث والسّمين، ولا تتقيّدُ غالبا بمنهج مُعيّن، لهذا فأهميتها فيما تقدّمُهُ من مواردَ ووثائقَ لا فيما تحاوله من تأريخ. (3) كتب الحضارةُ المَغربيّة: ويعرضُ ضمن هذا الاتجاه في الكتابة، لمؤلفات “عبد العزيز بنعبد الله”، وهي في مجملها تعاني من عيوبٍ نسقيّةٍ، إذ تبدو مُجرّد تجميع لموادّ متفرقة ومتنافرة، تفتقر للتماسك والانسجام، وتغيبُ فيها ذاتيّة المؤرخ وعطاؤه الشخصي، كما أنها أغفلت الجانب السّياسي للحضارة المتعلق بأشكالِ الحكم ونظم الدولة والمؤسسات. (4) في التاريخ الحضاري: وينطوي تحت هذا العنوان مشروع المؤرخ “إبراهيم حركات”، وهو وإن كان يُقدّمُ وعودا كبيرة بالتجديد على مستوى المضمون والمنهج، إلا أنه بدوره يعاني من عيوب أساسيّة منها: إرسالُ مُطلقِ الأحكام، والاحتماءُ بالعموميات عند غيابِ المُعطيَات الدقيقة، وتجاوز دورِ المؤرخ لإصدار الأحكام، والانتصار لهذا الطرف على حساب ذاك (الانتصار للمنصور الموحدي ضد صلاح الدين الأيوبي مثلا)، كما يعاني كتابه من تناقضات خطيرةٍ كأن يرفضَ سيطرةَ الفقهاء على مفاصل الدولة المرابطية في موضع، ثم يُصرّح في كثير من المواضع بما يفيد هذه السيطرة ويؤكدها.. (5) رسائل جامعية: وهي تتميز عن جميع ما سبق؛ بصرامَتِها العلمية وتجديدِها المنهجي. ويقف بصفة خاصة عند رسالة “محمد حجي” عن الزاوية الدلائية، ويُثمّنُ منهجَهُ الذي يجعلُ من بحثه “بحثا جامعيا جديرا بهذا الاسم”، إلا أنه يأخذُ عليه المبالغةَ في الحياد، والاكتفاء بالعرض والوصف، بحيث تغيبُ “البصمة الشخصية” للمؤرخ. والمفارقة أنه عندما يتدخل فإنه ينقلبُ على الضد من ذلك إلى واعظ يُسدي النصح للدلائيين، وينحرف عن حديث “ما كان” للحديث عن “ما يمكن أن يكون”.  (6) القسم الأخير: تعرض فيه الجابري لبعض المقالات التاريخيّة المتخصصة من قبيل مقالات عبد القادر الصحراوي، وأبحاث عبد الله العمراني كاشفا ما تتضمنه من تسرع في الأحكام وانعدام التمحيص، والنبرة الوطنية السجالية..

6/ نيرانٌ صديقة

قرأتُ الكتابَ فور صدوره، يُحركّني (وأنا مِن أخلص قرأة الجابري) شغفٌ جارفٌ، وفضولٌ فيّاض، ولقد أعجبتُ بالدّراسَة الغنيّة التي قدّم بها الباحثُ “خالد طحطح” لكتابِ الجابري، كما استمتعتُ وأنا أقرأ دراسة الجابريّ، وأتخيّلُ هذا الناقدَ الكبير، وهو ما يزالُ في ريعان شبابه، عاكفا على المدونة التاريخية المغربية، يستنطقُ مضمراتها، ويُمحّصُ أدواتها، ويختبرُ مناهجَها. وتساءلتُ: هل كان “الجابري” يَحدسُ حينها أن هذا التمرين النقديّ البديع، سيتحوّلُ إلى أعظمِ مشروعٍ فكريّ وفلسفيّ شهدَهُ العالمُ العربيُّ في القرن العشرين؟ هل كان يدور بخلده أن نقدَ العقل التاريخيّ العربي والمغربي سيؤولُ به إلى نقدِ العقل العربي في مختلف تجلياته؟

ولكن للأسفِ الشديد، لم تكتمل فرحةُ اللقاء بهذا المنجز البديع. فإنّ نشر الكتاب شابهُ الكثير من التسرع والعجلة، فوقفنا على أخطاء مطبعية، تمنينا تنزيه الكتاب عنها. ولقد اتصلتُ لحظتها بالصديق والباحث لأعلمه بمزالق الكتاب وهناته، فوجدته قد تنبّه لها، وأحسستُ به عبر الهاتف ساخطا متذمرا، فتكرار المراجعة، وكثرة الآراء، جعلت الباحثَ يدفعُ بإحدى النسخ غير المصححة للمطبعة، “وكان ما كان مما لست أذكره/ فظن خيرا ولا تسل عن الخبر” كما عبّر “الغزاليّ” عن تجربةِ الكشفِ الخاصّة. ثم كانت جلسَة مُطوّلة مع الكتاب وصاحبه، ووقفنا على مجمل ما في الكتاب من زلات لغوية، ولحسن الحظ أن الباحث استطاع التدارك في الطبعة المصرية؛ وفي انتظار السّحب الثاني بعد نفاذ الطبعة الأولى بالمغرب لتخرجَ للوجود النسخة المنقحة الجديدة.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي