يعد التمييز بين غث الأمر وسمينه، أحد الفروقات البارزة بين الإنسان وسائر المخلوقات، إذ يستطيع أن يختار بين البدائل المتاحة، بل أن هذا التمييز هو الحد الفاصل بين الأخذ بتصرفات وأحكام الإنسان على محمل الجد من عدمها، فكيف نعتبر بسلوك طفل دون سن “التمييز”؟
وبالوقوف على أسلوب واتجاه اختيار الإنسان المميز لحكم دون غيره، أو اتخاذ قرار على حساب إهمال آخر، يحيد الإنسان ليدير دفة ذلك المسار بحيث يخدم هدف معين، أو يشبع حاجة تميل لها نفسه، وهنا يقع الصراع بين ثنائية لا تكاد تنفصل بين العقل والهوى، فإما يشعر الفرد بتقدير ومكانة العقل كنعمة يقع فيها لب الإرادة الخيرة، أو السليمة، وإما أن يتمزق هذا المعنى، ويغشى بضبابية الفعل الخارج عن “حلبة التفكير”، والمتسلل وراء رداء العقل، ولكنه بالأساس لا يرتجي إلا تطبيق الفعل أياً كانت نتائجه.
العقل من وجهة نظر الفلسفة اليونانية
إن التعامل مع العقل كما فسره أرسطو، على أنه جزء من الروح، ذات قدرة معرفية وتحليلية تخلص لإنتاج “فهم”، يبتعد عن اعتباره نزعة “طائشة” في اختيارها، فبالرغم من اعتقاده بانفصال العقل عن الجسد، واعتباره كيان مستقل بحد ذاته، إلا أن ما يقوم به من خطوات بناء المعرفة تلاشي احتمالات كونه قد ينعكس بآثار سلوكية “ناقصة”.
ومع ذلك فإن تقدم وتطور العملية الفلسفية، لم يزعزع من التصور المحيط بالعقل، وهالته “المقدسة” في نسبه المتصل مباشرةً مع المعرفة، بل تخطى ذلك في توصيل امتداد ذلك العقل مع الوجدان ومكامنه الإيمانية.
وفي النظر للاختلاف الممكن على فهم ماهية وطبيعة العقل لاحقاً في العصر الحديث، نجد أن التركيز لم يتمحور حول الفصل بينهما، ولم يبرز أي اعتبار أو اهتمام لإثبات ذلك، بل التفريق في وظيفة كل منهما، أو الطبيعة والميزات، إذ يتميز العقل بسكونه وتمحور وظيفته في التفكير، على عكس الجسد الذي يتحرك ولا علاقة له بالعملية التوليدية الفكرية، كما أن العقل خاضع لبعض التطويعات المنطبقة على باقي “مكونات الإنسان” من حيث إلزامية تهذيبه، وأما فيما يتعلق بصورة إنتاجه الأخيرة، فهي متفاوتة لاختلاف “نسبة استثماره”، بالرغم من تساويه لدى كافة البشر من حيث وجود “المادة الخام”.
إن استخدام الإنسان لعقله، يفسر معنى أن يكون عاقلاً، ويحدد في الوقت ذاته الجدوى من تلك العقلانية، إذ تتمثل نعمة العقل في اتكائها على أساس تكويني سيكولوجي ومعرفي، وتنقلب لدوافع موجهة ل “نقمة الفعل”، إذا ما تجردت، أو انتزع منها “مخ الإرادة والتدبير”. ففي حين عرف العقل من “عقل الدابة” أي ربطها بإحكام خشية هروبها، أو تفرقها عن القطيع، لا يبدو من المناسب تطويع وجود العقل لخدمة الهوى بعيداً عن احترام “تقييده المشروع” ضمن نطاق المقبول، وهذا تفسير صورة الرفض المطبوعة في أذهاننا عند التفكير في أمور خارجة عن إمكاناتنا العاطفية، أو الحسية، أو الأخلاقية، أو الدينية، وغيرها.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
تعليقات الزوار ( 0 )