شارك المقال
  • تم النسخ

نظرية ما بعد الاستعمارية في العلاقات الدولية والخطاب الغربي حول ظاهرة “الإرهاب”

لعل أهم ما يميز حقل العلاقات الدولية في هذا العصر هو التعدد النظري والنقاشات التي لا تنتهي بين النماذج والاتجاهات النظريات، إذ لم يبقى الأمر مرتبطا بما كان يسمى بالنظريات المهيمنة بالحقل أو النظريات الكبرى كالمثالية والواقعية والسلوكية والانجليزية.. بما في ذلك الاتجاهات النظرية التي ستتطور إلى توليفات جديدة، كالليبرالية المؤسساتية الجديدة والواقعية الجديدة والواقعية الكلاسيكية الجديدة ونظرية السلام الديمقراطي، بل أن حقل العلاقات الدولية صار متأثرا بالحقول المعرفية الأخرى، وذلك منذ الجدال السلوكي التقليدي في الستينيات أو ما يعرف بالجدل الثاني؛ إذ بدأ الحقل – بشكل تدريجي – يتأثر بالتطورات الحديثة وما ينتج في باقي العلوم وحتى الآداب..

إن ما يجعل أهمية انفتاح حقل العلاقات الدولية على حقول معرفية متعددة هو محددان، أولهما مرتبط بالتطور النظري جراء النقاشات النظرية الكبرى وعدم الحسم النهائي في القضايا المنهجية والأنطولوجية والاببستيمولوجية المختلف حولها بين معظم النظريات؛ إلى درجة انه أضحى الحديث اليوم عن “أفول” “النقاش الراهن” ما بين الوضعية وما بعد الوضعية أو حول الصعوبات التي واجهت النظرية البنائية في إيجاد أرضية وسطى بين الأطراف المتناظرة (الوضعية/مابعد الوضعية) ، وهو الأمر الذي أدى إلى “بوادر” ظهور نقاش نظري جديد في العلاقات الدولية حسب بعض الكتابات، من خلال استفادة العلاقات الدولية من التطورات الحديثة في العلوم..

أما المحدد الثاني، هو المرتبط بتعقيدات السياسة الدولية والمتغيرات السريعة التي يعرفها العالم، خصوصا بعد انهيار المعسكر الشرقي ونهاية ما عرف بنظام الثنائية القطبية، الذي نتج عنه ظهور ظواهر دولية جديدة أو بروز قضايا كانت هامشية في سلم الأولويات عند المهتمين بحقل العلاقات الدولية، فصارت موضوعا للبحث والدراسة من طرف المتخصصين، ومنها ظاهرة “الإرهاب”، بمعنى أخر، الحرب الدولية ضد الإرهاب الذي وسم بداية الألفية، وهو الصراع الذي حل بديلا عن ما عرفه النظام الدولي خلال مرحلة الحرب الباردة (صراع بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية).

إن هذه المواضيع وغيرها ستشكل مادة علمية للمعالجة النظرية من طرف العديد من النظريات، ونخص بالذكر هنا النظريات الوضعية وما بعد الوضعية، وضمنها النظرية ما بعد الاستعمارية التي تصنف ضمن ما بعد الوضعية.. حيث تعيد هذه النظرية قراءة واقع السياسة الدولية بمنظور ومنهج مغاير، فتحدت ما تسميه “تحيزا وتوظيفا معرفيا للروايات والمفاهيم والمصطلحات السائدة التي تعتمد على التجارب الغربية غير القادرة على تفسير واستيعاب التجارب الأخرى”، بل أنها اتهمت النظريات الأخرى بالعلاقات الدولية بعدم موضوعيتها في مقاربتها للسياسة الدولية، ناهيك عن اتهامها القوى الكبرى بمحاولاتها بسط الهيمنة والاستعمار بآليات وأساليب جديدة، نموذج، توظيف “ظاهرة الإرهاب” أو محاولة إحياء الدراسات الاستشراقية الغربية من خلال استغلال فوبيا “التطرف الإسلامي”..

إذ رغم التسليم الأولي بأن “الإرهاب” هو ظاهرة العصر وسلوك همجي منبوذ لكونه يستهدف الإنسانية، إلا أن الخطاب الغربي حول “الإرهاب” لم يسلم من العجرفة والعنصرية والنوايا العدائية تجاه المجتمعات غير الغربية.. فالكيفية التي تم بها تسويق الحرب على الإرهاب – مع بداية الألفية – تبين بأنه تم تكييف هذه الحرب الجديدة مع كتابات المستشرقين الغربيين الذين شكلت كتاباتهم منطلقا وأساسا لاستعمار الشعوب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين؛ بما يعني أنه كان لمراكز الفكر دورا محوريا في صناعة تمثلات وأحكام جاهزة حول “الإرهاب..”

والواضح بأن هذا الخطاب ينجلي من خلال التقسيم الثنائي غير المتكافئ بين الأنا/ الأخر؛ الغرب/ الشرق؛ حضارة الازدهار والتقدم/ حضارة الهمجية والتخلف.. الغرب المتحضر والمتقدم العقلاني الذي يهدده الشرق المتطرف.. فكان الغاية من ذلك هو ربط الغرب بكل ما له صلة بالحضارة والإنسانية، مقابل وصم المجتمعات الإسلامية أو الشرقية أو حتى الشعوب الأصلية بكل ما له علاقة بالتطرف العنيف والهمجية.. هذا الخطاب شرعن حق المجتمعات الغربية في محاربة الإرهاب بعنف وفق تعبير أحد رواد ما بعد الاستعمارية سيبا غروفوغوي، حيث أضحى “لديها الحق في قتل الإرهابيين، مستخدمة كل الوسائل المتاحة، بغض النظر عن الأعراف والمعايير الدولية”.

نتج عن ذلك، بروز خطاب عنصري قائم على العرقيات والأديان والانتماءات الجغرافية، وكان من أثاره انتهاكات على نطاق واسع بالمجتمعات الغربية وغير الغربية، ناهيك عن ارتفاع في العداء تجاه الجاليات المسلمة أو التي تنتمي إلى الدول الإسلامية بالمجتمعات الغربية، وازاه عداء معاكس للشعوب تجاه الأنظمة الغربية.. وصار كل من يدين بدين الإسلام أو ينتمي جغرافيا للشرق أو العالم العربي والإسلامي هو مشروع “إرهابي” إلى أن يثبت العكس.. كما تم تنميط العقليات على فهم وتأويل واحد للإرهاب (المسلم المتطرف الذي يلبس اللباس الأفغاني ويعيش في الكهوف).. والأخطر أنه تم نسيان بأن أبشع أعمال إرهابية عرفها القرن العشرين هي التي حدثت بالحضارة الغربية ذاتها خلال الحربين العالميتين (الأولى والثانية).. وبأن النازية والفاشية هما نتاج هذا العقل الغربي المتحضر.. بما يعني أن الإرهاب لا دين ولا موطن له..

بالمحصلة النهائية فقد تم تبرير الاستعمار الجديد وحملات الغزو بالمبالغة في الخطر الإرهابي؛ فحتى الحرب على العراق كانت نتاج أكذوبتان وفق تعبير رائد الواقعية الهجومية جون ميرشايمر، الأولى هي امتلاك صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل؛ أما الثانية، صلة صدام بتنظيم القاعدة الإرهابي؛ والأكذوبتين يرتبطان معا بعلاقة سببية، أي بما أنه يمتلك أسلحة فتاكة، فمن الممكن أن يسلمها للإرهابيين لاستهداف المصالح الغربية.. فقد روجت إدارة بوش في غزوها للعراق لهذه الأكاذيب على نطاق واسع مدعومة بإعلامها المؤثر والمصطف مع سياسة بوش.. وحاول صقورها من الحافظين الجدد إقناع العالم بأن أمريكا تواجه دولة تهدد القيم الديمقراطية الغربية.. هؤلاء الصقور هم بالنهاية خريجين أو لهم ارتباط بمراكز التفكير كمعهد هوفر للدراسات الإستراتيجية (كونداليزا رايس؛ دونالد رامسفيلد..) ومركز مشروع القرن الأمريكي الجديد (ديك تشيني)؛

والواضح بأن هذا الخطاب استطاع أن يلج إلى عقول حتى الشعوب غير الغربية، من دون الوعي بأسسه ومنطلقاته النظرية، لهذا يحاول ما بعد الاستعماريون الخوض في مثل هذا النقاش.. إذ لم يعد الأمر مقتصرا فقط على الفلسفة أو التاريخ أو الأدب وفق كتابات المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، المتعلقة بدحض أسس الاستشراق الغربي، خاصة كتابه الصادر في السبعينات بعنوان “الاستشراق”، بل أن هذا النقاش اقتحم حقول معرفية أخرى، ومنها العلاقات الدولية والعلوم السياسية.. خصوصا في دراسة المؤسسات العالمية والسياسات الدولية في القرن الواحد والعشرين..

لذالك، تتبوأ ما بعد الاستعمارية مكانة مهمة في حقل التنظير بالعلاقات الدولية، وهي مدرسة لا تنفي مزايا التقدم الغربي وإسهامات الغرب في الحضارة الإنسانية، لكنها تنتقد الطموح الأحادي في الهيمنة على الإنسانية والنزعة الإقصائية المتأصلة في الخطاب الغربي، على سبيل المثال، تحاجج هذه النظرية – وفق سيبا غروفوغوي – بأن القوى الكبرى فشلت في دمج القوى التي “تحررت من الاستعمار في عملية صنع القرار بالمنظومة الدولية”، كما أنها تنتقد المحاولات الحثيثة للهيمنة من طرف القوى الكبرى على المؤسسات، خاصة “القيام منفردة بالفصل منفردة في المخرجات الدولية”، لهذا تطالب ما بعد الاستعمارية بعالم تعددي يحترم جميع القوى الدولية، ثم أنها تقدم نفسها كنظرية لبقية العالم بديلة عن النظريات الوضعية بالعلاقات الدولية التي ركزت على سلوك القوى الكبرى الغربية..

باحث في سلك الدكتوراه، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي