Share
  • Link copied

نحو مصالحة ممكنة بين الواقع والمتخيل

مهما تعددت طبيعة المواقف الفكرية، والحالات السيكولوجية التي تشحننا بها آليات الواقع، إلا أنها تظل مختلفة عن تلك المقترحة علينا من قبل الكتابة. ويتمثل هذا الاختلاف، في كون ردود أفعالنا تجاه القضايا المعيشة، هي محكومة سلفا بالقبول، أو الرفض. فيما تكون الردود ذاتها، تجاه ما تمدنا به التجارب الإبداعية، متحررة تماما من صرامة هذه الثنائية وقسوتها، حيث تتسع الهوة بين واقع معيش يهددك باحتمال تمريغك في جمر نوائبه، وآخر جمالي يعد بإمتاعك بالنوائب ذاتها، بدون أن تطالك عدواها ولسعات جمرها، ذلك أن تجربة الكتابة، تمارس عليك غوايتها، من خلال ردمها للهوة الفاصلة بين حد القبول وحد الرفض. والحدان معا يندرجان ضمن الاختيارات الحتمية التي تزجنا فيها تجارب المعيش.

من هذا المنطلق، سنعتبر أن التخييل الفني يتيح لنا إمكانية الاستمتاع بمعايشة الأضداد والتناقضات، بدون أن نتورط فعليا في تداعياتها، باعتبار أن مجال معايشتنا، يظل محصورا في دائرة التفاعل التخييلي. وهي دائرة تشتغل بقوانينها الخاصة بها، أي باستقلالية تامة عن قوانين الواقع المعيش. كما أنها /الدائرة تسعف كلا من المبدع والمتلقي، في التحرر من التعاقدات المجتمعية، المتحكمة عادة في مصائر الأفراد والجماعات ككل. فضلا عن إغرائهم باقتراف أخطاء التورط في المقالب التي يتحاشى الواقع اصطدامه بها، حتى ليكاد الأمر، يوحي بحضور نزوع مازوشي لدى المتلقي، كي يقوم بتحريض كوابيس التخييل الفني عليه، خاصة أن تداعياتها تظل محصورة في رقعة آمنة، هي رقعة الكتابة والقراءة، علما بأن التقنيات السمعية البصرية الحديثة، حققت نجاحات منقطعة النظير، في عملية تصعيدها لحالة التفاعل القائمة بين العمل الفني، والمتلقي، حيث تجعله يعيش جمالية وقائع تتجاوز البعد الافتراضي إلى آخر، يكاد يكون مغرقا في واقعيته، بصرف النظر عما يمكن أن يتخلله من سوداوية وقسوة.

إن الكائن يتلذذ عادة بالتخييل المتمحور حول محن الآخرين. كما أنه يستمتع بتعقب تفاصيلها عن بعد، خاصة حينما يكون مطمئنا تماما إلى تواجده خارج محيط المحنة، انسجاما مع خصوصية الطقس، الذي تضعه فيه تجارب التخييل الإبداعي.

وهو الموقف المضاد لعلاقته بالواقع الذي يلزمه أولا وأخيرا بمعايشته ضمن معادلة القبول، أو الرفض، حيث تكون لحظات السعادة عرضة باستمرار للإجهاض، بفعل ديمومة التناحر القائم بين الأضداد، ما يؤدي إلى حضور الحس المأساوي في خلفية كل متعة طارئة، نتيجة ذلك الإحساس الدفين، باحتمال تعرضها العاجل للتلاشي، تحت حوافر المعيش. هنا تحديدا، يكمن السر في جاذبية المتعة المنتمية إلى فضاء التخييل، فهي تمتلك قابليتها للاستمرار، على ضوء قابلية القراءة للتكرار، بما هي متعة واقع محتمل الحدوث، كأي حالة كامنة تتحين فرصة الإعلان عن حضورها. ربما بسبب ذلك، يعتبر المتخيل المجال الأكثر قربا وحميمية لدى المبدع.. أولا بحكم تملكه له. وثانيا، بحكم قدرته على إطلاق شرارة تكوينه وهندسة تفاصيله، بوصفه واقعا بديلا، أو بالأحرى، بوصفه واقعا محتملا،

إذ في قلب المحتمل، يلتئم شمل الاستحالات القابلة للتحيين الجمالي، وما نعنيه بالاستحالة هنا، هو التعارض الكبير القائم بين الرغبة، وموانعها المجتمعية، حيث تتدخل الكتابة في حسم التعارض، بقوة الحرية المتاحة لها. هكذا يجد المتلقي سعادة لامتناهية في التواجد داخل الأجواء التخييلية، حيث تمارس لعبة تفكيك الثوابت، من أجل خلق أوضاع مغايرة، كفيلة بإحداث اختلالات، قد تكون لها إيجابياتها الملموسة على صعيد التحولات المستقبلية، وهي الاختلالات التي تمارس دورها الخفي، وغير المباشر، في تصالح الكائن مع ذاته، كما مع الآخر.

والقول بالتصالح، يفيد ضمنيا الوعي بمقوماته المعبر عنها أولا بالقدرة على ضبط ميكانيزمات الرقابات الممارسة على الذات. وثانيا القدرة على تملك آليات مواجهتها، وهي إحدى المهام المركزية المطروحة على عاتق التخييل الإبداعي. فمن خلال استثماره الاستعاري والترميزي للحرية التعبيرية، يقوم بنمذجة الذهنيات، «الأعراف، والسلوكات»، كي يتلذذ بوضعها تحت مجهر التشريح الجمالي والنقدي. وهي البؤرة المضيئة والمشتركة، التي يتفاعل فيها كل من المتلقي والعمل التخييلي، من أجل تصفية حسابهما المشترك، مع مختلف أصناف الردع الذاتي أو الخارجي. فالتصالح، يظل مؤجلا إزاء غموض مكمن الأعطاب. كما أن عدم تبين مصادرها، يؤدي إلى إنتاج علاقات غير سوية، ومفرغة من أي تبرير موضوعي وعقلاني.

تلك كانت الوجهة التي استنتها الأديان لرسائلها، وستظل، أي السعي إلى ترسيخ شرط التصالح، ولكن ضمن قوانينها الحاسمة «قبول في صيغة إذعان»، تلافيا لأي قطيعة من شأنها توثيق سيرة الأعطاب، تلك التي يتم بموجبها اندلاع «شرارات الفوضى»، بوصفها قيامات صغيرة، تفقد فيها الأوضاع الطبيعية توازناتها. هنا تحديدا تتناسل الفخاخ، ولن يكون بوسع الكائن سوى الامتثال لقدر السقوط، لكن

وفور حضور واقع التخييل، وفور التفافه على ما هو أدهى من هذه القيامات، سوف يرتفع شرط القبول، كما سوف يرتفع قدر الاستسلام لنداء الهاوية، أيضا سوف يحتجب الاقتناع بحتمية الخضوع والانسحاق، كي يشع ضوء الملاحقة السعيدة لشبح الخطر، لكن، على أرضية واقع تخييلي، تحتمي الذات فيه من نيران المعيش، ذاك المجسد في نص أدبي، تشكيلي، أو موسيقي، نص مقبل حتما من زمن معلوم، كي ينبعث تخييليا في فضاء اللازمن، أي في تلك اللحظة التي لا رابط بينها وبين أي مرجعية سياقية، ذات بعد مجتمعي أو تاريخي، وهي لحظة تخييلية، متحررة من السياق الثابت، قدر ما هي قابلة لممارسة حضورها في كل الأزمنة التي تستدعيها القراءة.

ومن الواضح، أن مصدر المتعة الجمالية، يكمن في هذا التحرر، حيث تنتقل الكائنات من إطارها الواقعي، إلى الإطار الرمزي، تماما ضمن تفاعل تخييلي لا تطاله طلقات الأعداء، هناك، حيث لا أثر لسياق تاريخي أو مجتمعي ثابت يهدد الذات بتوريطها في زوابعه ودواماته.

إن السياق المركزي الذي يندرج ضمن اهتمامات التخييل، يتمثل أساسا، في اكتشاف العلاقات اللامرئية القائمة بين مكونات الواقع المعيش. فمن خلال هذا الاكتشاف، يتم استحداث نماذج تخييلية أكثر دينامية، غايتها بناء واقع قائم الذات، أكثر إقناعا مما نتوهمه واقعا معيشا. ذلك، أن الإلمام بالمقومات الموضوعية للواقع، لا تتحقق إلا بقوة توافر الشروط الكفيلة بذلك، أعني، تملك ما يكفي من العمق الفكري والجمالي، فالحديث عن الواقع، يقتضي التعرف على قوانينه والقدرة على التفاعل معها، وهي بالمناسبة تتسم بحركيتها الدائمة، وبتحولاتها المتتالية، ما يجعلها عصية على المقاربات التبسيطية، التي يحار علماء الاجتماع، والفلاسفة، والشعراء الأساسيون في تفسير ما قل من ظواهرها. ونلمح في هذا السياق، الكتابات التسطيحية التي تنظر إلى الواقع بوصفه جماع فضاءات «مبتذلة»، لا ترقى إلى مستوى التساؤل الجمالي. فيما يعود الابتذال الفعلي إلى عجز هذه الكتابات، عن ضبط العلاقات القائمة بين مكوناته. وهي المهمة التي يضطلع بها التخييل العالي، من خلال إعادة تركيبه لمكونات الصورة، كي تضيء بمكنون واقعها، بمعنى أن تجاهر وتبوح بخصائصها المغيبة، وهي الحالة التي يصبح فيها التخييل شريكا للواقع، وجديرا بتقاسم أسراره المنسية، واستثمار ما في ودائعه من كنوز.

ذلك هو التجسيد الرمزي للمصالحة المطلوبة بين التخييل والواقع، مصالحة يتحقق من خلالها مبدأ التكامل الخلاق، بين حدين كثيرا ما ينظر إليهما باعتبارهما شديدي التنافر والتنابذ، وعلى أرضية هذا التكامل تتوافر شروط تصالح الكائن مع ذاته، ومع الآخر. وعلى الأرضية ذاتها، يمكن تمثل منهجية محتملة للتعامل مع المعيش، بمختلف مستوياته وأبعاده، مادية كانت أو رمزية.

Share
  • Link copied
المقال التالي