شارك المقال
  • تم النسخ

مهمة جيش التحرير المستحيلة في “أطار”  الخروج من فم ثعبان الجزء (9)

بعد مغرب يوم 18 فبراير 1957 (اليوم التالي للعملية).

كان قد مر النهار كله و أنا على نفس الوضعية، جالس هامد لا اتحرك، أسند ظهري الى جذع شجرة “تمات”، أرقب حركة الجنود الذين يمشطون الجبل من حولي، و بندقيتي جاهزة بين ساقيي الممدين منذ الصباح.

لم اتوقع ان تحل علي تلك الساعة من مغرب ذلك اليوم وأنا على قيد الحياة، لولا تقدير الله الذي أعمى الجنود عن رؤيتي، وكانوا يمرون بقربي ويروني كما لو أنهم رأوا حجرا. جسدي محطم من طول الجلوس، وحلقي جاف من العطش، وقواي منهارة بسبب الدماء التي فقدت والجوع وطول السهر. وعلي أن أكافح من أجل البقاء، وقد مضى الأسوأ، نجوت من الموت ومن الأسر، وها قد حل ظلام الليلة الثانية بعد القصف، وعلي مغادرة ذلك المكان والتحرك بالحال التي أنا عليها دون أن أنكشف. وكيف بي أن أتحرك برجل واحد في جبل صخري وعر، لا أعرف حتى موقعي فيه، و الجهد يكاد يبلغ منتهاه.

لم أسمح لعقلي بالاستغراق في التفكير فيثبط من عزيمتي. وقررت التحرك ولو حبوا.

وضعت “المزيط” (حقيبة الرصاص) على كتفي، ومددت يدي لاعلى جذع الشجرة أريد الوقوف، وحيثما تصل أشد بها بقوة على الجذع وأدفع بجسمي للأعلى مرتكزا على رجلي السليمة، ويدي الأخرى تقبض على البندقية وتضغط بها نحو الأسفل لمساعدة جسدي على الارتقاء، فما زلت لا أعرف وضع رجلي المصابة، وأتعامل معها كانها غير موجودة.

ولم تكن الإصابة مشكلتي الوحيدة، وبإمكاني أن أجد سبيلا للتعامل معها. مشكلتي الأكبر كانت في الإجهاد الكبير وضعف القوة. فمنذ  يومين كاملين لم أتناول طعاما ولا شرابا ، وفقدت الكثير من الدماء. فما إن استويت واقفا على رجل واحدة حتى انتابتني رعشة شديدة ودوار  كادت تخور معهما قواي وأسقط، لولا أني تمسكت بكلتا يدي بجذع الشجرة وأسندت جسدي كله إليها حتى استعدت توازني

بعد أن زال الدوار، عدت ورفعت بندقيتي أتكئ عليها، واعتدلت واقفا لأول مرة منذ زوال الأمس. وكصبي يخطو خطوته الأولى، وضعت البندقية أمامي، اتكأت عليها بكامل جسدي، ثم  قفزت برجلي السليمة قليلا إلى الأمام حتى أستويت. و في تلك الحركة البسيطة شعرت بدهشة كما لو اني أحمل أضعاف ثقلي.

وكان علي أن أعيدها مرات ومرات، أحيانا أتابع الخطوة والخطوتين وأقف أستريح بينهما، وأحيانا أزيد إن أسعفتني الصخور. ولما تتعب رجلي من القفز، أعود للزحف مستعينا بكلتا يدي حتى تستريح قوائمي.

أصعب ما مر بي في رحلة تلك الليلة هو لحظات التعثر حينما ينزلق حجر تحت رجلي ويتهاوي جسدي مرتطما بالصخور، وتصيب إحداها ساقي فأشعر كأنما سكين اخترق قلبي من شدة الألم، وأعض على أضراسي حتى لا أصرخ و أشي بنفسي. وكان الليل حالكا، وحجارة الجبل سوداء وبعضها غير ثابت ورجلي واحدة، وكلما تصادف وارتكزت بها أو بالبندقية على حجر غير مستقر أفقد توازني وأسقط.

بعد التقاط أنفاسي من كل عثرة أعود لمعركة محاولة الوقوف من جديد ، وقد أصبح مستحيلا، ففي الغالب لا أجد بقربي ما أتشبث به في الأعلى أو أسند ظهري إليه حتى أستوي واقفا على رجل واحدة. فأضطر للزحف حتى أجد صخرة كبيرة تعينني على الوقوف من جديد. فرجلي المصابة لا يمكنني حتى التفكير في لمسها، وأحرى أن أرتكز عليها. والبندقية لا فائدة منها ما لم أجد حيلة للاستواء واقفا. وما بين القفز على رجل واحدة، والزحف على ثلاث اطراف، والعثرات المؤلمة ومحاولات الوقوف الصعبة بعدها، استهلكت ما تبقى في من طاقة وجهد.

في وقت متأخر من الليل، خارت قواي تماما و تعبت لدرجة أن قائمتي صارت ترتعد بقوة عند كل خطوة اخطوها، ولم أعد أقوى على الاستمرار، فالتجأت إلى كومة صخور تشبه المغارة، اختبأت بين أحجارها بقية الليل. وكان الوقت باردا وملابسي قليلة، قميصين وسروال بالكاد يغطي الركبة و”طاكية” (غطاء رأس عسكري). فانكمشت بين الحجارة لعلي أستجمع ما في جسدي من حرارة و أطرد الجوع بالضغط على بطني الفارغة منذ يومين، ورجلي المصابة ممدودة على الأرضية الباردة.

كان يتغشاني النعاس بين الفينة والأخرى من شدة الإرهاق والتعب، وأجاهد كي لا أستغرق في النوم، فما زلت في فم الثعبان.

…يتبع….

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي