ما فائدة قراءة المغاربة لتاريخهم وماضيهم وذاكرتهم الوطنية، خاصة القراءة المقرونةٌ باستخلاص ما ينبغي من عِبَر ودروس فهماً لحاضِر البلاد واستشرافاً لمستقبلها، وفق ما يقتضيه الأمر من مسؤولية وتقدير وعناية، ضمن سياق وتوجه بات فيه التاريخ ليس مجردَ سرد ولا أرشفة وتدوين وتقييد، انما أداة عبرة من أجل غد أفضل تفعيلا لأثر ماض في حاضر. ولعل الباحث في تاريخ المغرب التزامني المعاصر يجد نفسه مُثقلا بجدل جملة أسئلة من قبيل، كيف يمكن جعل التاريخ حافزا مُلهِماُ باعثا، وكيف يمكن قراءة زمن الاستعمار والمقاومة باعتباره زمنا تاريخيا مليئا بما هو جريح، لجعله مصدرَ إلهامٍ وليس مطيةَ استبداد بتاريخ ولا فرض قراءة أُحادية له. وإلى أي حد يمكن قراءة تاريخ المقاومة المغربية للاستعمار وفق مقاربة ورؤية هادئة،- إدراك الاستعمار في حقل فكر متخلصٍ من الاستعمار- والحالة أننا نحيى مخلفات هذه الفترة، وكيف يمكن أيضا القفز عما هناك من أسئلة محرجة من قبيل: كم عدد ضحايا الغزو الاستعماري للمغرب من قتلى وجرحى ومعطوبين ومرضى نفسيين ومعوِزين ومهجرين وغيرهم، وماذا عما صُودِرَ من وثائق وتراث وما حجم ما تسبَّب فيه فعل الاستعمار من هوة وتأخر ونكوص تاريخي وتشويهٍ وتضييع حدود، وماذا طور المستعمر وهل كما دخل خرج أم زيَّف وغيَّر وحرَّف، ثم إلى أي حَدٍّ يمكن للمؤرخين المغاربة والباحثين قراءة تاريخ المقاومة المغربية للاستعمار قراءة هادئة بعيداً عن كل تفاعل.
اشارات بجدل معرفي تاريخي وغيرها، استهل به سمير بوزويتة الأستاذ الباحث في تاريخ المغرب المعاصر وعميد كلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس، تصديرا لكتاب موسوم بـ”أعالي ايناون في المشروع الاستعماري الفرنسي بالمغرب خلال فترة الحماية” لمؤلفه عبد السلام انويكًة، والصادر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط في طبعة أولى بأزيد من أربعمائة صفحة، ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير. مضيفا أن من أسئلة ما تمت الإشارة اليه، هو ما تفاعل معه هذا المؤلف برصانة وحنكة باحثٍ نجح بوضعِهِ القارئِ في قلب هذه الإشكالات. مضيفاً أن ما يستبطنه المؤلَّف أبرز كون الجغرافيا هي الذاتُ ذَاتُها بهذه الأعالي حيث ممر تازة، ومن هنا فالكتابُ هو بقيمة مضافة رفيعة في حقل تاريخ المقاومة المغربية عموماً ومقاومة قبائل تازة تحديداً، ينضاف له ما تميز به من قوة أسلوبٍ ودقة تعبير وعمق منهج ورؤية وتصور، أضفى عليه طابع التميز والجِدَّة.
وفي تصدير ثان للمؤلف أثثه جمال الحيمر الأستاذ الباحث في التاريخ بكلية الآداب والعلوم الانسانية بمكناس، أورد أن كتاب “أعالي ايناون في المشروع الاستعماري الفرنسي بالمغرب”، يدخل ضمن التاريخ المحلي الجامعي وضمن توجه استوغرافي كمقاربة تعود بداياتها لمنتصف سبعينيات القرن الماضي، تأسيساً على قناعة أهمية التاريخ المحلي الجزئي كبوابة ناجعة للإحاطة والتبصر بمختلف قضايا تاريخ المغرب. وأنه مع الاقرار بما طبع هذا الورش التاريخي من تفاوت ملحوظ بين مستويات الأبحاث المنتمية لهذا التيار، من حيث التصور والمقاربة والتوثيق والتحليل والربط بين الخاص والعام. فإنه من المؤكد أن هذه المدرسة التاريخية المغربية، كانت بمساهمة هامة من موقعها في تحقيق تراكم نسبي كمّاً وكيفاً في حركة التأليف التاريخي الجامعي. وهو ما تجلى في استغلالها المكثف لإمكانات مصدرية متعددة الأصول، وتناولها لوقائع تاريخية مغربية من منطلقات نابعة من واقعها من جهة، وفي قدرتها على الدحض العلمي لأطروحات الأستوغرافيا الاستعمارية التي أولت ظواهر وتنظيمات المجتمع المغربي تأويلا يتماشى والأهداف الاستعمارية من جهة أخرى. ومن هنا- يضيف الدكتور جمال الحيمر- تأتي أهمية هذا الكتاب وقيمته العلمية، والذي يحق اعتباره لبنة من لبِنَاتِ ورش تاريخ البادية المغربية. إذ أبان صاحبه من خلال ما أنجزه حول تازة وأعاليها عن طموح علمي هادف وسعي حثيث، إسهاماً منه في رد الاعتبار لتاريخ الهامش وإبراز هوية الكيانات المحلية وصيانة ذاكرتها ضمن رباط وطني جامع. ولا شك أن ما ورد في الكتاب منهجاً وإشكالا يضفي عليه كامل المشروعية العلمية والتاريخية. وأنه إذا كانت الجِدَّة والأصالة أهم ما اتسم به هذا العمل التاريخي العلمي الجامعي، فإن هاتين الميزتين تجلتا فيما أسفر عنه من قيمة مضافة على مستويين إثنين. أولهما إسهامه في إغناء حقل التاريخ العسكري للمغرب على عهد الحماية، وثانيهما رصده الرصين وتحليله الدقيق لكيانات ومكونات أعالي حوض ايناون الطبيعية والبشرية، وهو ما يعتبر بحق إضافة نوعية في حقل تاريخ البوادي بالمغرب. ولعل ما جاء في الكتاب- بضيف- من دقة تخص ما تم الكشف عنه حول مجال تازة، الذي شكل هدفاً رئيسياً في استراتيجية التوغل الفرنسي بالمغرب، وما بُذل من جهدٍ كبيرٍ في سبيل توسيع وتنويع وحُسن توظيف المضَانِّ المعتمَدة، يجعل هذا العمل العلمي عملاً متميزاً بقيمة مضافة هامة لفائدة المكتبة التاريخية المغربية.
أما مصطفى الكثيري المندوب السامي لقدماء المقاومة واعضاء جيش التحرير، فقد أورد في تقديم له، أن كتاب “أعالي ايناون في المشروع الاستعماري الفرنسي بالمغرب” يكتسي أهمية كبرى وقيمة تاريخية، لكونه قارب موضوعا من مواضيع التاريخ الجزئي الذي يؤثث الذاكرة التاريخية المحلية، باعتبارها مكونا لذاكرة وطنية وجب ايلاءها ما هو جذير بها من مجهود البحث والتنقيب والتوثيق لمضامينه في غناها وتنوعها. مضيفا أنه لو جند كل واحد قلمه لدراسة الأحداث التي شهدتها مدينته أو جهته، لبلغنا حصيلة من شأنها توثيق الكثير من صور الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية وكذا الوطنية التاريخية، التي تظهر أن المغرب ظل يقظا صامدا أمام كل ما استهدفه من محاولات لنسف كيانه، ولا شك أن كل جهة من جهات المغرب هي بحاجة لهذه العناية، لأن كل بقعة من بقاع البلاد تتوفر فعلا على تراث وطني ضخم ومتنوع. مضيفا أن ما احتواه كتاب اعالي ايناون في المشروع الاستعماري من مضان تاريخية وطنية بقيمة عالية، هو ما جعل المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير تحتضنه دعما منها للبحث التاريخي الرصين، ولهذا الموضوع الذي حضي بدراسة وتحليل وجهة من المجال المغربي وفق المرجعية المونوغرافية، توسيعا للمعرفة التاريخية بهذه الجهة والمجال وتجاوز ما شاب الكتابة التاريخية التقليدية والكولونيالية من نواقص وهفوات. علما أن مثل هذه المقاربات من شأنها بلورة تاريخ شامل للبلاد من جهة والانخراط من جهة ثانية في ورش التاريخ المحلي الذي بات ورشا مفتوحا ينجذب اليه الباحثون، كمصدر لا غنى عنه لاثراء الرصيد التوثيقي للتاريخ الوطني العام للمغرب كما ونوعا.
ويذكر الدكتور مصطفى الكثيري في تقديمه هذا، أن الباحث عبد السلام انويكًة جسد بعمله البحثي نقلة نوعية ولجت فضاء البحث الميداني بعزم وإدراك لأهمية هذا التوجه في البحث التاريخي حول تازة وأعاليها، تلك التي سبر أغوارها وتمكن من اعادة تشكيل محطات ومراحل مؤثرة من تاريخها، لا سيما ما تعلق بدورها في معترك المقاومة المسلحة ضد الاستعمار. مشيرا الى أن الباحث سلك سلوك التروي والحذر عند قراءة وتقييم الكتابات الأجنبية حول تاريخ المغرب، من زوايا اهتماماتها المحصورة في ميولات استعمارية وطموحات استفرادية. ومن الواضح يضيف في ختام تقديمه أن الكتاب يعد ثمرة اجتهاد وبحث، ينضاف لرصيد المعرفة التاريخية الوطنية لإغنائها واثرائها، تلك التي تشكل مرجعا هاما من شأنها صيانة الذاكرة التاريخية الجمعية الوطنية والمحلية. وأن فرادة الكتاب وجِدته تتجلى في ابرازه روائع الكفاح الوطني لمنطقة هي من جغرافيا التاريخ النضالي للمغرب والمغاربة في وجه المستعمر، الذي راهن عليها لتثبيت نفوده وبسط سيطرته على البلاد عبر ممر تازة الاستراتيجي بين شرق البلاد وغربها.
وكتاب اعالي ايناون في المشروع الاستعماري بالمغرب، تحكمه كرونولوجيا منهجية بحدثين فاصلين مؤثرين في تاريخ مغرب مطلع القرن الماضي، حيث تطورات فترة دقيقة توزعتها وقائع إحكام سيطرة على تازة الممر والمدينة ووقائع وصدى ونهاية حرب الريف في علاقتها بالمنطقة. وهو بواجهة تتوسطها خريطة عن الأرشيف الفرنسي، تهم جزءا من مجال هذه الأعالي ذات الطبيعة الجبلية الفاصلة بين المغربين الشرقي والغربي. كتاب يتأسس على بيبليوغرافيا هامة باللغتين العربية والفرنسية وعلى سند وثائقي عن الأرشيف الفرنسي لمغرب الحماية، وهو يتوزع على محاور تبسط لِما هو فزيائي وبشري يخص تميز المنطقة من المجال المغربي، ويعرض لمحطات وأحداث وتطورات طبعت المغرب خلال هذه الفترة. مع تركيزه على موقع أعالي حوض ايناون الاستراتيجي في خريطة انشغالات الأطماع الاستعمارية الفرنسية، وعلى بعض سبل إعداد المنطقة لتحقيق التوغل في المغرب استكمالا لمشروع استعماري فرنسي في شمال افريقي تابع. هكذا خلص المؤلف الى أن تاريخ المغرب العسكري وتاريخ تازة خلال زمن الحماية، بحاجة لمزيد من الدراسة والمقاربة والسؤال بما يُسهم في معرفة تاريخية أكثر عمقا ودقة، لتجاوز ما هناك من قراءات استعمارية طبعتها أحكام غير سليمة ولا منصفة. وهكذا أبان الكتاب أيضا كعمل مقارن عما يكتسيه تاريخ المغرب العسكري من أهمية وما يحتويه من ملمح تفاعل عرفته البلاد، والذي بقراءة وقائعه العسكرية وتتبعها يمكن بناء جدلٍ بين ما كان عليه وضع المغرب الداخلي في علاقته بجوار جغرافي وسياسي، وبما كان عليه الشأن الخارجي خلال هذه الفترة الحرجة. وهكذا ختاما شكل مؤلف “أعالي ايناون في المشروع الاستعماري بالمغرب”، سبقا بحثيا في اطاره الجهوي الجامعي ونصا أكاديميا مرجعا بقيمة مضافة لفائدة خزانة تازة التاريخية ومن خلالها للخزانة التاريخية الوطنية،
تعليقات الزوار ( 0 )