من القواعد المقررة أن مقصد رفع الحرج من أعظم المقاصد الشرعية الثابتة بالاستقراء التام؛ وهو من آكد ما يجب تفعيله والعمل به كلما أصبحت الأمة كلها أو أغلبها أو بعض أفرادها أو فرد واحد منها في حالة من الضيق أو المشاق التي لا تطاق؛ رحمة من الله بها وتخفيفا عليها في جميع التكاليف؛ الاعتقادية أو التعبدية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية وغيرها. وفيما يلي مقاربة هذا المقصد الهام بشيء من البيان؛ بدء بماهيته.
1 – ماهية مقصد رفع الحرج
فأما ” المقصد “؛ فمن معانيه في لغة العرب؛ الاعتزام والتوجه والاعتدال والعدل والتوسط، وطلب الأسدٍّ، وعدم مجاوزة الحد، وهو ضد الإفراط والإسراف.[1]وجمعه مقاصد؛ وهي بمعنى: المراشد،[2] والمهمات المقصودة.[3]
وأما ” المقصد ” في الاصطلاح الشرعي؛ فهو: ” ما دلت الدلائل الشرعية على وجوب تحصيله، والسعي في رعايته، والاعتناء بحفظه… وذلك كمصلحة حفظ النفوس والعقول والأموال والأعراض.”[4]
وأما الرفع لغة، فهو نقيض الخفض وضد الوضع. ورُفِعَ الشيءُ؛ إذا أزيل من موضعه.[5] وهو ما يفيد بأن إزالة الشيء وتنحيته عن موضعه؛ هو المعنى المناسب لما نحن فيه.
وأما الحرج في لسان العرب؛ فهو الضيق الذي لا منفذ فيه.[6] قال ابن فارس:” الحاء والراء والجيم أصلٌ واحد … وذلك تجمُّع الشيء وضِيقُه … ومن ذلك؛ الحرَجَ الإثم، والحَرَج الضِّيق. قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً.﴾( الأنعام:125).”[7]
و الحرج في الاصطلاح؛ فقد عرفه الأنصاري بقوله:” الحرج ما يتعسر على العبد الخروج عما وقع فيه.”[8] والعسير؛ هو ما يعجز الإنسان عن القيام به كليا أو جزئيا. وإذا وضح المراد بمقصد رفع الحرج؛ فإلى النظر فيه بشيء من التفصيل فيما يلي:
2 – لا حرج في قوانين الشريعة
هذه القاعدة من كبريات القواعد المقاصدية المنهجية الكلية التي تجد تأصيلها في قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.﴾( الحج:78 ). وهي تنتظم جميع القوانين الإلهية دون استثناء. مما يقطع بأن شريعة الله يسر كلها، ورحمة كلها، وما جعل الله على المكلفين فيها من حرج؛ سواء تعلق الأمر بأحكام العقيدة؛ كمن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا حرج عليه إذا تلفظ به دون اعتقاده. أو بأحكام العبادات؛ كمن عجز عن القيام بفريضة ما؛ فما عليه إلا أن يؤدي ما استطاع منها. كالصلاة مثلا في بيته متى تعذرت عليه إقامتها في المسجد لسبب من الأسباب كخوف العدوى بمرض ما؛ كما هو واقع الحال اليوم. أو بأحكام المعاملات؛ كمن لم يتيسر له أداء ما في ذمته من حقوق؛ فليؤدها متى أمكنه. ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.﴾ ( البقرة:280 ).
وقس على ذلك كل ما من شأنه أن يعود على الإنسان بتعطيل مصالحه الخاصة أو العامة؛ كما هو المستفاد من قول الشاطبي:” فاعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف خوفا من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله. ( والأصابة بدعوى الوباء مما يدخل الفساد على الناس في جميع مصالحهم الضرورية والحاجية والتحسينية. ).”[9]
وبهذا يتبين أن ما من حكم شرعي وقع على المكلف به حرج لا يطاق، أو مشقة غير طبيعية، أو عائق غير مألوف من أمراض مرهقة، أو إكراهات غير محتملة، أو موانع غير منتظرة؛ مثل ما أصبحنا نعيشه من خوف من العدوى بوباء كورونا المميت وقد عم خوفه البشرية جمعاء؛ إلا جعل الشرع له منها مخرجا سهلا ميسورا. وأمده بما يرفع عنه كل ذلك في يسر ورفق ولين. ومن نظر في جميع التكاليف الشرعية أدرك هذا بأيسر تأمل، فإذا كان كذلك؛ فالمكلف مأمور بطلب التخفيف من وجهه المشروع… ومن طلب التخفيف من غير طريق الشرع لا مخرج له.”[10]
وهكذا؛ كلما كان الحرج شديدا ومشاقه غير معهودة في التكاليف؛ فهو منفي عن الشريعة ومرفوع عن المكلفين. وهو ما يعبَّر عنه تارة؛ بقاعدة:” لا تكليف بما لا يطاق.” وتارة بقاعدة: ” الحرج الشديد منفيٌّ عن الأمة.” وفيما يلي مزيد بيان لما يندرج في مسمى الحرج المرفوع عن الأمة من المشاق غير المعتادة.
3– المشاق غير المألوفة غير مشروعة
ومن الحرج المرفوع عن الأمة؛ كل المشاق غير المألوفة، وهي التي ليست من طبيعة الأفعال البشرية، نظرا لخروجها عن المعتاد، ومعلوم أن كل ما خرج عن المعتاد؛ أدخل على صاحبه من الفساد ما لا يطيقه طبعا وشرعا؛ سواء في جسمه أو عقله أو نسله أو ماله، أو حال من أحواله المعنوية أو المادية. وعاد على أعماله بالنقض والإبطال الكلي أو الجزئي. وهذا النوع من المشاق ليس من مقاصد الشارع في التكليف مطلقا. وهو مضاد لمقاصد الشارع ومصالح الإنسان؛ كما هو مقرر في الكتاب، ومفصل في السنة، ومسلّم باتفاق العقلاء. ولذلك جاءت الشريعة بما لا حصر له من قواعد التخفيف والتيسير ورفع الحرج والضيق والمشقة عن الحياة الإنسانـية، وكل ذلك حتى يحيى الناس في رغد من العيش ماديا ومعنويا. وأدلة رفع الحرج والتيسير، والرفق والتخفيف، ومراعاة حالات الاضطرار، ومشروعية الرخص، والسماحة والرحمة ما شرعت إلا لرفعها والتخفيق عن المكلفين من آثارها. [11]
وعليه؛ فكلما كانت المشاق في الدرجة العليا؛ كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع الضرورية، فالواجب دفعها بالتخفيف منها إلى الحد الذي يطاق؛ لأن حفظ المصالح الضرورية هو سبب مصالح الدنـيا والآخرة، وهي أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات؛ كتقديم إنقاذ غريق أو حريق أو مستهدف في نفسه بالقتل، أو في عرضه بالفجور، أو في أعضائه بالبتر، أو في ماله بالسطو؛ متى تزامن التدخل لدفع هذه الجرائم مع وقت صلاة، أوصوم يوم من رمضان؛ إذا لم يمكن دفع تلك المفاسد إلا بتأخيرهما إلى وقت لاحق. وما يعيشه العالم اليوم من بلاء بالخوف من الإصابة بوباء كورونا هو من قبيل المشاق التي لا تطاق. ولذلك وجبت الوقاية منه بالحجر الصحي، والمنع من التجمعات؛ بما في ذلك صلاة الجماعة والجمعة والتراويح والأعياد والحج والعمرة؛ درء للمفاسد المتوقعة بقدر الإمكان.[12] وهو ما سنتبينه فيما يلي:
4- إقامة الصلاة بقدر الإمكان وقت عموم البلوى بالوباء
إذا تقرر بالاستقراء؛ ” أن لا حرج علينا في الدين مطلقا.” [13] فخير ما نمثل به عمليا للدلالة على انتفاء الحرج في ديننا هو ما تعيشه الأمة من تساؤلات بشأن إقامة الصلاة في هذا الوقت الذي عمت فيه البلوى بالوباء المميت.
هل تقام في البيوت أو لا ؟ وهل يجوز أو لا يجوز أن تقام خلف إمام عبر التلفاز أو الإذاعة لتحصيل فضل الجماعة؛ سواء كان الإمام من أهل البلد أو من بلد آخر في الداخل أو الخاج ؟ وكذلك صلاة التراويح هل تجوز أو لا تجوز خلف إمام عبر مكبر الصوت والناس في بيوتهم حتى لا تفوتهم فضائلها خلال شهر رمضان ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي ما كان لها أن تثار أصلا.
لكن للأسف الشديد؛ فكثير من الناس لا يعلمون، أو يعلمون ويتجاهلون أن ديننا دين يسر، وما جعل الله علينا فيه من حرج ولا مشقة؛ ولا عسر ولا ضيق، كلما كان لنا من الأعذار الشرعية ما يقتضي منا العمل برخص الشريعة. وتخفيفاتها في جميع التكاليف؛ وهو ما يقطع بأن واجب الوقت اليوم، وقد عمت البلوى بالوباء القاتل أن نعمل برخصه، ولسنا مكلفين بغير ذلك. وبذلك نكون من العاملين بالدين كله، بعزائمه في وقت العزائم. وبرخصه وقت الرخص. والغريب أنه ما زال فينا من يحسبون أنفسهم من العلماء ومن أبناء الحركة الإسلامية ولا يدرون أنهم يكلفون أنفسهم وربما غيرهم أيضا بما لم يكلفهم به الله في الفرائض فضلا عن النوافل؛ وكأنهم ما قرأوا ولا فهموا يوما قول نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم:” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ؛ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ.”[14]
وبالجملة؛
فليس من البر السؤال عما لسنا مكلفين به ابتداء في أي مجال كان، وخاصة مجال العبادات،
لأن الأصل فيها التوقيف التعبدي. بخلاف العادات أو المعاملات؛ فالأصل فيها التعليل
بمعقول المعنى، لمن تأمله فيما سطرناه بهذه الورقات، وإنما الأعمال بالمقاصد
الموافقة لقصد الشارع، والحمد لله رب العالمين.
[1]. تاج العروس. م س. مادة. قصد. مرتضى الزبيدي. تحقيق مجموعة من المحققين. دار الهداية. د، ط. و لا ت. ج 1 ص 32
[2]. قال ابن منظور. ” والمَراشِدُ. المقاصد “. لسان العرب. دار صادر. بيروت: ط1. د. ت.م س. ج 3 ص 175
[3]. قال مرتضى الزبيدي.” المقاصد. جمع مَقْصَد كمقْعَد. أَي. المهمات المَقصودة.” تاج العروس. ج 1 ص 66
[4]. محمد بن عمر بن الحسين الرازي. الكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل. تحقيق أحمد حجازي السقا. دار الجيل. بيروت. ط1. 1413 ھ/1992 م. ص 52. 53.
الآمدي. الإحكام في أصول الأحكام. تحقيق. سيد الجميلي. دار الكتاب العربي. بيروت. ط1. 1404ﻫ. ج 3 ص 296.
[5] – معجم مقاييس اللغة، مادة رفع لابن فارس، تحقيق عبد السلام محمد هارون. دار الجيل. بيروت: 1420ﻫ/1991م. 2/423.
لسان العرب. 8/87، 129.
[6]– معجم الفروق اللغوية.لأبي هلال العسكري. مؤسسة النشر الإسلامي. قم. ط 1. 1412ﻫ. ص 126.
[7]– معجم مقاييس اللغة. وس. 2/50.
[8]– الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة. لزكريا بن محمد الأنصاري. تحقيق. مازن المبارك. دار الفكر المعاصر. بيروت. ط1. 1411ه. ص70.
[9]– الموافقات. للشاطبي، تحقيق الموافقات. أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. ط1. 1421ﻫ. 2/233.
[10]– الموافقات. م س. 1/532.
[11]– الموافقات. م س. 2/210.
[12]– قواعد الأحكام. لعز الدين بن عبد السلام. تقديم وتحقيق د. نزيه كمال حماد، ود. عثمان جمعة ضميرية. دار القلم، دمشق: والدار الشامية، بيروت: ط1، 1421ﻫ/2000م. 2/14.
[13]– الموافقات، م س. 3/306.
[14] – المعجم الكبير. للطبراني. تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي. مكتبة ابن تيمية – القاهرة. ط2. 10/84.
تعليقات الزوار ( 0 )