شارك المقال
  • تم النسخ

مغرب ولي العهد ومأسسة المخزن العميق.. المجلس الأعلى للأمن القومي المغربي.. دقّت الساعة! (1/3)

من المفيد جدا العودة إلى الخرجات الإعلامية المتعددة والمتزامنة لكل من مصطفى الرميد ولحسن الداودي (الوزيرين السابقين عن حزب العدالة والتنمية، الذي ترأس الحكومة لعشر سنوات كاملة)، لنفهم “الدور المحوري”، الذي يقولا إن رجالات “المخزن العميق” لعبوه لتسهيل ولوج حركاتهم الإسلامية، في عز الذروة، إلى الحياة السياسية المغربية من بابها الواسع، وأنهما ممتنان لهؤلاء لدرجة أن قال “وزير الدولة” مصطفى الرميد أن “المخزن العميق نعمة”!!

والواضح أن “الرسالة” هنا موجّهة لكل من ينتقدون النظام اليوم، وكأن عليهم أن يسلكوا نفس مسلك البيجيدي لدخول والتموقع في المشهد الحزبي أو السياسي ككل. كما تحمِل الرسالة، كذلك، ردا واضحا على الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، في شقّها المتعلق بالملكية البرلمانية، وانتخاب “هيئة دستور جديد”، حيث بعث الرميد “رسالة” إلى شباب الجماعة المنفتح على خوض غمار السياسة من داخل الحقل الحزبي المغربي، وإلى كل من يرى في دستور 2011 أنه ممنوح، مفادها أن عملية انتخاب هذه “الهيئة” ستكون، بالضرورة الديمقراطية “التأسيسية”، مفتوحة على الجميع، ولن تستطيع القلة، التي تشكّلها الفئة المعارضة ل”الحكم”، منع باقي الأحزاب والمكونات من تقديم مرشحيها وتحقيق هيمنتها وفرض رؤيتها…

كما قدّم الرميد شرحا مبطّنا لقضيتين: أولا، ما كان قد جرى لأحمد الريسوني، عندما دعا المخزن العميق، في بداياته الأولى، إلى الاجتماع مع أعضاء الأمانة العامة ببيت المؤسس عبد الكريم الخطيب، حضره مبعوث الملك وقتها فؤاد عالي الهمة، في أول ظهور له بهذه الصفة، وكان مصحوبا بأحمد التوفيق وزير الأوقاف، حيث سيتم اتخاذ قرار “إزاحة” الريسوني من على رأس حركة التوحيد والإصلاح، وطال هذا القرار إزاحة الرميد نفسه من رئاسة فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب… ثانيا، ما كان قد جرى لعبد الإله بنكيران، عندما استدعاه القصر، ليعينه الملك رئيسا للحكومة في نسختها البيجيدية الثانية، وتفاجأ بنكيران بوجود مصطفى الرميد بالقصر، ليحضر الجلسة مع الملك بعد التعيين، والتي لم تمر بسلام، فقد تلقّى فيها بنكيران اللوم الملكي…

ما تحفّظ مصطفى الرميد عن ذكره، خلال خرجته الإعلامية مع الزميل يونس مسكين، هو كون بنكيران، خلال الحملة الانتخابية لتشريعات 2011 على ضوء الدستور الجديد، بدا في أحيان كثيرة مندفعا، وراح يطلق تصريحات بعضها كانت متهوّرة، صوب مدفعيته وقتها نحو فؤاد عالي الهمة يطلب من الملك صراحة إبعاده من العمل الحزبي، وهو ما كان، لكن بنكيران بعد فوز حزبه في تلك الانتخابات، انقلب على دستور 2011، وفرض نفسه رئيسا للحكومة بدل سعد الدين العثماني، الذي كان يفاوض “الخارج” قبل الربيع العربي بسنوات، وأصدرت الأمانة العامة بلاغاً يقول لحسن الداودي إنه هو من تلاه، ويؤكّد بلاغُ “قطعِ الطريق” أن الأمانة العامة “قررت” أن يكون عبد الإله بنكيران رئيساً للحكومة، وهو أيضاً ما كان، لكن بنكيران ظل يثير جدلا متصاعدا عندما كان يصرّف “رسائله”، من خلال ثلاثة أذرع تتحدّث بلسانه “المستتر”، ذراع إعلامي (أخبار اليوم) وذراع سياسي (صقور الحزب) وذراع فكري (كُتّاب الحزب)، وكان أحيانا يتوجّه إلى قنوات أجنبية، وتركيزا فضائية “الجزيرة” القطرية، مثلما جرى لدى استضافته من طرف الصحافي الزميل أحمد منصور، فصار يطلق تصريحات “هوجاء” وصلت إلى حد توجيه ضربات صريحة للدستور المغربي، وتقديم الملك بصورة “الحاكم المستبد بكل شيء”! فالملك، كما صرّح بنكيران بصفته هذه المرة رئيسا للحكومة المغربية للفضائية القطرية، (الملك) هو المسيّر الفعلي للحكومة التي يترأسها، فيما هو، يقول بنكيران، فقط مجرد وزير بهذه الحكومة، وبالخصوص عندما يحضر للمجالس الوزارية، وكان لافتا أن بنكيران يطالب ضمنا بصلاحيات أكبر، وهذا ما فهمه مراقبون من الافتتاحيات التي كانت تدعو بنكيران إلى المطالبة بصلاحيات واسعة مؤطّرة بدستور يعتبره فضفاضا إن لم يتم تفعيله بطريقة توضح بجلاء “ما للملك وما لبنكيران”، كما تدعوه إلى شنّ حربٍ على من أسماهم بـ”حزب الاستوزار” داخل البيجيدي…

“رسائل” بنكيران ستصل إلى القصر، وسيجيب عليها الجالس على العرش، بعد كل ذلك، بكثير من الحزم والحدة وبثلاثة أجوبة: الجواب الأول كان باللوم المباشر، لدى تعيينه رئيسا للحكومة بحضور الرميد (10 أكتوبر 2016)، والثاني بقرار إبعاده عن رئاسة الحكومة (15 مارس 2017)، والثالث بتقريعه هو وباقي زعماء الأحزاب السياسية في خطاب للعرش (29 يوليوز 2017)، وكانت الرسالة واضحة في انتقاداتها السياسية، التي كانت شديدة اللهجة، تعكس غضب الملك من ممارسات النخبة المهيمنة والمستخلدة في الأحزاب، والتي “عندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون، إلى الواجهة، للاستفادة سياسيا وإعلاميا، من المكاسب المحققة.. أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه”، بتعبير الملك…

المقصود، هنا، هو التمهيد لموضوعنا بتقديم بعض الإشارات المعبّرة، على أساس أن أعود إليها للتفصيل في ملابساتها وبعض مساراتها، خصوصا أن جزءًا كبيرًا من معلومات ومعطيات المرحلة مازال مخفيا، وسيظل الحال على ما هو عليه، إن لم نستمر، كل من موقعه، في نبش ذاكرة مجموعة من الشخصيات التي كانت فاعلة ومؤثّرة بمواقع مختلفة، بغرض تشريح مرحلة مهمة من حياة المغرب، تبتدئ من بداية الإعداد لمرحلة المرور السلس لحكم الملك محمد السادس، لكي نستطيع فهم ما يجري اليوم من إعدادات للمرور إلى مغرب ولي العهد مولاي الحسن “الثالث”، وكذا فهم بعض ميكانيزمات اشتغال المخزن العميق، وعلى رأسه الملك محمد السادس…

في هذا الإطار العام، يمكن موضعة خرجة مصطفى الرميد، الذي خرج، في بادئ الأمر، من تلقاء نفسه، ليعرض وجهة نظره في ما جرى لحزبه، مستعيرًا أسلوب بنكيران في حكي بعض الأمور، التي جرت بينه وبين الملك وحوارييه، وكذا ليبعث لمن يعنيهم الأمر أن الرجل مستعد لمهمة خارج الحقل الحزبي، فكان أن كلّفه القصر بحل معضلة “الحملة ضد الاعتقال السياسي”، المشتعلة بالخارج، لتيسير مهمة ترؤس المغرب للجنة الأممية المكلفة بحقوق الإنسان، فكان أن أصدر الملك عفوه في لحظتين سياسيتين قويتين: العفو عن الصحافيين والنشطاء والمدونين (عيد العرش) والعفو عن مزارعي الكيف (ثورة الملك والشعب)، فيما ينتظر أن يلتقط البرلمان الإشارة لفتح النقاش داخل “قبّة التشريع” ليمتد العفو إلى معتقلي الريف وبعض معتقلي اگديم إزيك، الذين تم تدويل قضيتهم…

كل هذه القضايا سنعود إلى التفصيل فيها من خلال حلقات هذا المقال، للمساهمة في محاولة فهم تَشكّلات مرحلة سياسية دقيقة من حياة بلادنا، مرحلة كان الكتمان والغموض مقصودان، في أغلب أحيانها، من طرف “المخزن”، الذي لم يكن “عميقا” بعد، حيث رجالاته مروا من مراحل كانت أولى بداياتها مرحلة الراحل عبد الرحمان اليوسفي، التي قاد فيها الوزارة الأولى، وكان ينعتهم بـ”جيوب المقاومة”، بعد ذلك جاءت مرحلة الاستقلالي عباس الفاسي، حيث كانوا يوصفون بـ”حكومة الظل”، أمّا أبرز مرحلة فهي مرحلة عبد الإله بنكيران، الذي كان يُفرّق بين مستويات الجهة المخزنية “الغامضة”، التي يزعم أنها كانت تُناهضه، فكان عندما يريد استهداف أشخاص يدّعون قُربهم من النظام، يستعمل “التماسيح” (عزيز أخنوش) و”العفاريت” (إلياس العمري)، وعندما كان يريد أن يستهدف “الجهات العليا”، كما يقول، والتي يتهمها أنها هي من تُناهضه بتسخير تلك التماسيح والعفاريت، يستعير عبارة “الدولة العميقة” من الولايات المتحدة الأميركية، التي يسيّرها، في الأصل، المجلس الأعلى للأمن القومي… وهنا، نصل إلى بيت القصيد، إذ قد تكون هذه “الاستعارة” مدخلاً للخروج من “الغموض”، مقابل وضوح الرؤية المستقبلية لمغرب الغد، عبر شرعنة هذا الجانب “الغامض” من “الحكم”، ومن خلال تفعيل الفصل 54 من دستور 2011، الذي ينص على إحداث “المجلس الأعلى للأمن” القومي المغربي…

مسألة “وضوح الرؤية” أصبحت تطرح نفسها، بصفة ملحّة، باعتبار “المجلس الأعلى للأمن” يشكّل جزءا بنيويا من منظومة الحكم في المغرب، التي مازالت في حاجة إلى مراجعة هياكلها على ثلاثة مستويات: الأول استكمال البناء بتفعيل عدد من المؤسسات الدستورية، التي مازالت حبرا على دستور 2011 (المجلس الأعلى للأمن)، والثاني تجديد هياكل أخرى لمؤسسات باتت خارج القانون (المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان)، أما الثالث فهو إعادة النظر في مؤسسات دستورية قائمة (البرلمان بالخصوص، إضافة إلى المجالس العليا من حسابات ومنافسة وتعليم واقتصاد واجتماع وبيئة… إلخ)، حيث لا غنى عن خوض ثورة داخلية حقيقية تعيد العديد من المجالس والمؤسسات الدستورية والعمومية إلى سكة البناء والتطور والتغيير، لتتحمّل مسؤولياتها كاملة في تدبير مختلف جوانب الأمن المجتمعي لكل المغرب ولعموم المغاربة… ويمكن الوقوف عند نماذج من المؤسسات المذكورة، بمختلف مستوياتها، لتكون الصورة أوضح حول أعطاب الماضي وإشكالات الحاضر وتحديات المستقبل، لأن السؤال الأساس يبقى دائما: إلى أين يسير القصر بالمغرب؟

أبرز نموذج لهيئات المستوى الأول، تظهر في الواجهة مؤسسة المجلس الأعلى للأمن “القومي المغربي”، التي باتت ساعة ميلادها تدق بقوّة، لمواجهة المخاطر والتهديدات المحدّقة ببلادنا، وللمساهمة في تدبير التحديات والرهانات، التي يرفعها مغرب محمد السادس، لبناء أسس صلبة لمغرب الغد، مغرب جيل ولي العهد…

هذه المؤسسة الدستورية محكومة بدستور 2011، الذي أفرد لها نصا مرجعيا مفصّلا، من خلال الفصل 54، الذي أطّر هيكلة واختصاصات المجلس الأعلى للأمن بصفته “هيئة للتشاور بشأن استراتجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات، والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة”.

وعلى غرار التجارب المشهودة في العالم، فإن الملك، باعتباره رئيس الدولة، هو الذي يرأس المجلس الأعلى للأمن القومي وفق الفصل 54 دائما، وله أن يفوّض لرئيس الحكومة صلاحية رئاسة اجتماع لهذا المجلس، على أساس جدول أعمال محدد.

وبخصوص تركيبة المجلس الأعلى للأمن، يحددها الفصل 54 من الدستور في رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، والرئيس المنتدب للسلطة القضائية، والوزراء المكلفين بالداخلية والشؤون الخارجية والعدل وإدارة الدفاع الوطني، وكذا المسؤولين عن الإدارات الأمنية، وضباط سامين بالقوات المسلحة الملكية، وكل شخصية أخرى يعتبر حضورها مفيدا لأشغال المجلس، طبقا للفصل إياه…

قد يطرح البعض إشكال “الدونية”، إن صحّت التسمية، في تنظيم العمل بالمجلس، بمقتضى “نظام داخلي” وليس بمقتضى “قانون تنظيمي”، الذي هو أكثر قوّة، كما هو الحال في عدد من المؤسسات الدستورية، فقد نصّ الفصل 54 على أنه “يُحدِّد نظامٌ داخلي للمجلس قواعدَ تنظيمه وتسييره”… لكنني أعتقد أن هذه مسألة ستكون واردة في مراجعة مرتقبة للدستور، ولذلك فإن الأهم، اليوم، هو الضرورة القصوى لتفعيل المجلس الأعلى للأمن، الذي يعتبر أول مؤسسة أمنية ينصّ عليها الدستور الجديد، وهي غائبة منذ 13 سنة على وضع أول دستور في عهد محمد السادس، بعد 5 دساتير في عهد الحسن الثاني، وهي ضرورة ملكية وشعبية وديمقراطية ودستورية واجتماعية، في محيط وطني وإقليمي ودولي متغيّر ويحبل بالكثير من التحديات والمخاطر، التي تجعل أمن المغاربة في صدارة كل الأجندات…

ومن الطبيعي أن أمن المغاربة موزّع على مختلف المجالات والقطاعات، لكن، إذا أخذنا بالاعتبار رهانات المرحلة الحالية وتخطيطات المرحلة المقبلة، فإن صدارة تلك القطاعات تقع على عاتق السياسة الأمنية، التي قطع فيها المغرب أشواطا ملحوظة، منها ما هو تطوّري، ومنها ما هو مشدود إلى أزمنة ماضية نحلم أن تصبح بائدة إلى الأبد، وهذا يصبّ في مطلب “الحكامة الأمنية”، حيث يصبح التنسيق منظما ومنتظما وممنهجاً بين الأجهزة الأمنية المتنوّعة، وحيث تتمّ مأسسة السياسة الأمنية وتتلاقح تصوّرات المتدخّلين الأمنيين بالمتدخلين المدنيين في بوتقة يكون مبتدأها وخبرها هو الاجتهاد والابتكار في تدبير حالات الأزمات، التي قد تشكل مخاطر على الأمن القومي للدولة المغربية، بما في ذلك دمج البعد الأمني في بناء التصورات والتحاليل الاستراتيجية للقضايا السيادية، سواء منها المحورية أو البنيوية ذات الصلة بالأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي والأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن الطاقي…

الجالس على العرش يعي دقّة الظرفية ودقة هذا التحدّي، كما أنه لا يكفّ عن الحديث عن ضرورة احترام الدستور والانكباب على إخراج المؤسسات الدستورية إلى حيّز الوجود، وهذا ما أشار إليه غير ما مرة في أكثر من خطاب، إذ أكد بالحرف، في أحد خطبه أمام البرلمان، على أن التحديات المطروحة على بلادنا “تتطلب العمل الجاد والتحلي بروح الوطنية الصادقة لاستكمال إقامة المؤسسات الوطنية”، وزاد الملك مشدّدا على أن هذه “المؤسسات لا تهمّ الأغلبية وحدها أو المعارضة، وإنما هي مؤسسات يجب أن تكون في خدمة المواطنين دون أي اعتبارات أخرى. لذا ندعو إلى اعتماد التوافق الإيجابي في كل القضايا الكبرى للأمة. غير أننا نرفض التوافقات السلبية، التي تحاول إرضاء الرغبات الشخصية والأغراض الفئوية على حساب مصالح الوطن والمواطنين، فالوطن يجب أن يظل فوق الجميع”…

فهل تكون استمرارية “التوافقات السلبية” في المشهد السياسي المغربي هي التي وراء تعطّل إخراج مؤسسة “المجلس الأعلى للأمن” إلى النور؟!

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي