Share
  • Link copied

معضلة التوظيف بالتعاقد في مجال التعليم

إذا كان بقي للتعليم المغربي من قيمة وقدرة على المسايرة، فإن هذا البصيص من الأمل سيُقضى عليه نهائيا مع سياسة التوظيف بالتعاقد التي أقدمت عليها “الدولة” والمستمرة في الإصرار عليها ــ ليس بسبب طبيعة التكوين الذي يتلقاه المتعاقدون فهذا أمر مطروح لكن بحثه في موقع آخر ــ ولكن بسبب رمي المتعاقدين إلى مؤسسات العمل دون أدنى شروط أداء وظيفة هي من أنبل وأهم وأخطر الوظائف، وأيضا رمي آلاف التلاميذ بين أحضان نساء ورجال تعليم هم أنفسهم غير مرتاحين في أعمالهم، وعقولهم منقسمة بين ضرورة أداء المهمة والاهتمام بمن أودعتهم الأسر لديهم من أجل رعايتهم علميا وتربويا، وبين النضال من أجل تحسين ظروف العمل والحفاظ على الاستقرار المهني.

إن التعليم بالتعاقد لَهُو إعلان عن النفير العام نحو الهاوية بالنسبة للمدرسة العمومية، سيما في ظل غياب ثقافة التوظيف بالتعاقد بالنسبة للمسؤولين المحليين والإقليميين وحتى الوطنيين؛ فالشهادات الواردة من فئة المتعاقدين تعكس طبيعة المعاملة التي يتلقونها داخل إدارتهم المحلية والوطنية، حيث لا نبالغ إذا ما قلنا أن معاملتهم تقترب -على حد وصفهم – بـ “المأمورين”، في ظل أجورهم الزهيدة شأنهم في ذلك شأن باقي الأسرة التعليمية وخاصة المنتمية للقطاع الخاص، بينما تمنح الدول التي تهتم بمواردها البشرية وبمستقبل أبنائها أفضل الأجور لأعضاء هيئة التعليم.

إذا كانت “الدولة” بكل أجهزتها لم تستطع إرغام أقل من 10  آلاف “متدرب” على العودة إلى فصول التكوين ـ وليس التدريس ـ إلا بعد أن نالوا مطلبهم المتمثل في التوظيف العمومي (رغم محنة الـ 150 أستاذ الذين نجحوا في الاختبارات كلها وتم منعهم من التوظيف، في خرق واضح للمحاضر الموقعة)، فكيف سيتم التعامل مع أكثر من 90 ألف متعاقد (والعدد مرشح للزيادة) قد تحملوا فعلا مسؤولية القسم ويشرفون على تدريس عشرات الآلاف من التلاميذ؟ بل ما هو مصير هؤلاء التلاميذ -سيما في القرى – إن توقف المتعاقدون عن العمل؟ وما طبيعة هذا التعليم الذي يتلقاه التلاميذ في ظل الأجواء المشحونة؟يمكن أن نتفهم لجوء الدولة إلى التعاقد في قطاعات غير استراتجية، أو حتى التعاقد بخصوص بعض الوظائف غير الأساسية في المدرسة العمومية (مساعد مدير، أساتذة للدعم أو للتعويض، أعوان….).

لكن أن تتم المغامرة بمواقع حساسة مثل وظيفة التدريس، فهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على نوع من اللامبالاة التي أصبح يُنظر بها للمدرسة بشكل عام من قِبل المسؤولين عن السياسات العمومية.على “الدولة” أن تتوقف عن “الترقيع” وأن تلجأ إلى حلول ناجعة من أجل سد الفراغ في أطر التدريس بدل التعاقد أو إدماج أقسام مستوى الابتدائي بالمناطق القروية أو إصدار التكليفات التي تحرم المدارس من أطرها، لأن المدرسة هي الخزان الأهم لمستقبل أي بلد (لم تستطع ماليزيا مثلا أن تنهض لولا الصدفة التي جعلت تعليمها بين يدي وزير يعي جيدا أهمية التعليم)،  كما ينبغي البحث عن أسباب تسرّب أموال الخزينة العامة والكف عن اتهام الوظيفة العمومية بأنها مصدر استنزاف الثروة، لأن المغرب لا زال في حاجة ماسة للتوظيف العمومي (المغرب هو البلد الأقل توظيفا في البلدان المغاربية عدا موريتانيا.

يمكن مراجعة مقال سابق لنا بعنوان: “كتلة الأجور بين الأرقام الرسمية والوضعية الحقيقية”)، مع العلم أن 48 في المائة من العاطلين عن العمل هم من حملة الشواهد الجامعية وشواهد التكوين المهني حسب الاحصاءات الرسيمة. وربما لا يحتاج الأمر للتذكير بأن مسألة التعاقد والتعليم بشكل عام، لا تعني المتعاقدين فقط بل تَهُم جميع المغاربة لأنها مرتبطة بكل واحد منا سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

فإذا كان المغرب قد عرف أزمة حقيقية وواسعة في قضية “الأساتذة المتدربين”، الذين كان عددهم قليل مقارنة مع المتعاقدين، ولم تكن لديهم مسؤولية الأقسام، فيمكن أن نتوقع المستقبل مع عشرات الآلاف من المتعاقدين، حيث يخشى أن نعيش أزمة أكبر وشهورا أو حتى سنوات بيضاء! سيما إذا ارتفع عدد هذه الفئة داخل هيئة التدريس (العمومي أو الخصوصي) وفي ظل التأخر المعهود في “الدولة” من أجل التدخل لحل المشكلات، وإهدار الأزمنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية!

لقد راهنت الأمم على التعليم أكثر من رهانها على أي شيء آخر، لأن الدول تتعرض للخراب إن أهملت وظيفتها الأساسية المتمثلة في أن تقدم للمواطن تعليما جيدا يضمن تجانسها وينمي رأسمالها، وهذا أمر لا يمكن أن يتأتى إلا إذا اهتمت الدولة بالعنصر البشري الذي هو رسول المعرفة، فمنذ أكثر من 25 قرنا، نظَر أفلاطون للدولة على أنها منظمة تعلمية بامتياز، حيث وصفها بأنها “الشيء العظيم الأوحد”، وقد جاء كتاب “الجمهورية” زاخرا بالأفكار في هذا المجال، حتى أن ج ج روسو(أشهر المنظرين التربويين) لم يتحرّج في وصف هذا الكتاب بأنه “كتاب تعليم”، ألحّ فيه صاحبُه على أن الدولة لا يجوز لها أن تترك شؤون التعليم للحاجة الخاصة، أو أن يكون مصدرا للتجارة، بل عليها أن تسهر عليها بنفسها، وأن تتأكد بأن الأفراد ينالون التعليم الذي يُحقّق رفاهية الدولة، وأن الساهرين على التعليم ينالون الراحة اللازمة والتعويض المرفه الذي يجعلهم في وضع يتيح حرية التفكير، ويضمن راحة المعلمين، حتى لا ينشغلوا بأمور أخرى تلهيهم عن أداء مهمتهم.

Share
  • Link copied
المقال التالي