Share
  • Link copied

معذبو الأرض.. شهادة فرانز فانون عن الاستعمار والبورجوازية الوطنية

نورالدين لشهب

مؤلف كتاب “معذبو الأرض” هو فرانز فانون، مواطن زنجي من مستعمرة المارتينيك التي يحمل سكانها الجنسية الفرنسية، عانى في بلده شعور المهانة والمذلة من وجود الاستعمار الفرنسي، ولذلك ساعده أفقه الواسع وثقافته الإنسانية ألا يحقد على الاستعمار والمُستعمر في وطنه وحسب، بل في العالم كله.

جاء إلى فرنسا لدراسة الطب في مدينة ليون، وكان طالبا مرموقا بين زملائه وأساتذته، كما كان نشيطا سياسيا زمن الجامعة، يشارك في أعمال طلبة المستعمرات ويتصل بالمناضلين السياسيين، وحين تخرج متخصصا في الطب النفسي تم تعيينه بمدينة البليدة بالجزائر، وهناك عمق شعوره الثوري وأدرك أن الاستعمار مصيبة ومرض، وعرف من خلال دراسة مرضاه الجزائريين أن الاستعمار يشوه الطبيعة الإنسانية، يضيع الإنسان،

 ومن مراقبته للثورة في الجزائر رأى كيف تحمل هذه الثورة البرء والطهارة إلى النفوس، وكيف تغسل المجتمع الجزائري الثائر من أدران الجمود والتأخر، فثبت في الحياة اندفاعة جديدة، وتحمل إلى الثائرين قيما جديدة، وتعتقهم من قيود العادات البالية التي كان تمسكهم بها قبل ذلك صورة من صور المقاومة للاستعمار وقيمه وحضارته.

رافق فانون ثورة الجزائر منذ بدايتها، وآمن بأنها ثورة جدرية، ثورة إنسانية أصيلة لن تنحصر في أرضها، وشعبها، بل ستتردد اصداؤها في أفريقيا كلها، وفي جميع البلاد المستعمرة المتخلفة، وستكون نداء وإهابة، مثالا وقدوة. وآمن فانون بأن الثورة هي الطريق الوحيدة إلى تحرير الإنسان، وبأن العمل الثوري هو السبيل إلى أن يتجاوز الإنسان وضعه، وإلى أن ينتقل من العبودية والضياع إلى الوجود الحر والكريم.

وقرر فانون أن ينضم إلى صفوف الثائرين، أن يشاركهم الكفاح مشاركة فعالة، أن يخوض هذه المعركة التي تخوضها الجزائر بكل ما اوتي من قوة، حقق فانون في نفسه وفي سلوكه الاسنجام بين القول والعمل، وأدرك هذا المثقف المستعمر رسالة المثقف المستعمَر، وهكذا قدم فانون استقالته من منصبه كرئيس لمستشفى الأمراض العقلية، في رسالة تصف جريمة الاستعمار الغربي الذي يضيع الإنسان ويقتل إنسانيته.

 لقد رأى فانون أن استمراره في العمل الطبي العلمي والعملي يصرفه عن الواجب الأكبر الذي تصغر إزاءه كل الواجبات الأخرى، فاستقال من وظيفته، وانخرط في ثورة الجزائر انخراطا كاملا، واستقبلته الثورة وبسطت له ذراعها، وأسندت لها مهمات شتى، منها تمثيل الثورة الجزائرية في الكثير من الملتقيات والمؤتمرات الدولية رئيسا لوفودها، فكان في هذه المؤتمرات فكرا ناصعا وحركة لا تهدأ، واشتهر بالخطاب الذي ألقاه في مؤتمر تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية الذي عقد بمدينة أكرا، وفيه يعبر فانون عن إيمانه بأن العنف هو السبيل الوحيد الذي يجب أن يسلكه المستعمرون للتحرر من السادة المضطهدين المستغلين الذين يتشدقون بالكلام على الحرية وعلى الإنسان وهم يذبحونها حيثما وجدوا.

لقد أدرك فرانز فانون المثقف الكوني أن على المثقف الذي يعيش تحت نير الاستعمار عليه أن يقاتل مع شعبه بعضلاته أولا وقبل كل شيء، وقد حارب فانون بعضلاته فعلا أولا قبل كل شيء، حارب بجسمه مثلما حارب بفكره وقلمه، ولكن جسم فانون لم يسعفه إلى آخر الشوط، بل تداعى في منتصف الطريق، انسحب من المعركة بعضلاته واستمر بفكره النير الذي تخصبه ثورة باسلة، وتغذيه ثقافة قوية، وترفده قدرة فذة على الملاحظة والتتبع والاستدلال، وفي هذه المرحلة من حياته وضع كتابه “معذبو الأرض” بينما المرض الخبيث يأكل دمه.

 كان فانون الطبيب يعرف أن الموت يهم به في أية لحظه وحين، وأن سرطان الدم لن يهمله إلا بضعة أشهر في أكثر تقدير، فأخذ يسرع خطاه ليفرغ من وضع كتابه قبل أن يستقبل الموت راقدا في فراشه لا واقفا على قدميه، استفحل المرض ونقل إلى مستشفى في واشنطن، وهناك أنجز كتابه “معذبو الأرض”.

انتهى فانز فانون من كتابه “معذبو الأرض” داخل المستشفى بواشنطن، حيث لفظ الرجل هناك آخر أنفاسه ولما يتم سن الأربعين من عمره !!. حملت الطائرة جثمانه إلى تونس، ومن هناك اخترق المجاهدون بنعشه الحدود مكفنا بالعلم الجزائري ليدفنوه في تراب الجزائر عند مرابض المقاتلين كما تمنى وأراد.

مات فراز فانون المارتينكي الأصل الجزائري النضال، الإنساني التفكير، تاركا في جسم المستعمر آثارا من خدش أظافره، وتاركا أيضا في ربوع الوطن الجزائري أنوارا من دفق عقله وقلبه، حتى قال عنه أحمد بن بلة، الرئيس الجزائري الأسبق: “لم يكن فانون رفيقا في المعركة وحسب، بل كان مرشدا وموجها، لأنه ترك لنا من إنتاجه الفكري والسياسي ما هو ضمانة للثورة الجزائرية”.

 إن الفكرة الرئيسة التي يدور عليها كتاب “معذبو الأرض” هي أن العنف هو السبيل الوحيد للقضاء على الاستعمار، وأن هذا العالم الاستعماري الذي قام على العنف لا يمكن الخلاص منه إلا بالعنف، والجماهير المستبعدة تشعر بهذه الحقيقة شعورا قويا، ولكن شعورها هذا لا يصير إلى كفاح مصلح فورا.

 واعتبر فانون في كتابه أن الأحزاب السياسية البورجوازية تستبعد فكرة العنف بل تخشى العنف، هي عنيفة في أقوالها معتدلة في مواقفها، لا يزيد نشاطها على مقالات وخطب تتحدث عن حقوق الإنسان وتقرير المصير، ولذا فهذه الأحزاب لا تدعو إلى العنف لأنها لا تهدف إلى قلب الأوضاع التي أنشأها الاستعمار رأسا على عقب، ولا تطمع في أكثر من استلام مقاليد الحكم من يد المستعمر، كل ما تريده هو أن تفاوض المستعمر وتنتهي معه إلى تسوية.

 إن البورجوازية الوطنية، يقول فانون، تخشى النتائج التي يمكن أن تنجم عن لجوء الشعب إلى العنف، تخشى النتائج التي يمكن أن تنجم على هذا الإعصار الجبار، تخشى أن تكنسها هذه الريح العاصفة فلا تفتأ تقول للمستعمرين “مازلنا قادرين على أن نوقف المذبحة، فالجماهير ما تزال تثق بنا، فأسرعوا إذا كنتم لا تريدون أن تعرضوا للمخاطر كل شيء”.

هكذا تصبح الأحزاب البورجوازية، حسب فانون، وسيطا بين المُستعمر والمتسعمر، وسيطا بين الطرفين يعرض عليهما المصالحة وينصحهما باللاعنف، ويقول: “إن الأحزاب البورجوازية ما إن ترى الشعب يتحرك لمواجهة الاستعمار بالعنف، حتى تهرع إلى المستعمرين قائلة: “الأمر خطير جدا، وليس يدري المرء كيف يمكن أن ينتهي هذا كله، فلا بد من غيجاد حل، لابد من غيجاد حل تسوية” وبهذا تصبح البورجوازية التي تسمى وطنية، كما يقول فرانز فانون، “لا تزيد عن الواقع على أن تتواطأ على الشعب مع جلاديه في مرحلة كفاح التحرير، حتى لكأن مهمتها هي أن تحول دون سير الكفاح إلى آخر مداه، وتجعله ينهض في منتصف الطريق بتسوية تحقق مصالح فريقين أحدهما الاستعمار والثاني هو البورجوازية الوطنية، وعلى حساب الشعب إنما تضمن مصالح الفريقين، وذلك على حساب السيادة الوطنية والاستقلال الحقيقي”.

ويقيم فرانز فانون تمييزا بين البورجوازية الوطنية في الدول المتقدمة التي تتجه نحو الانتاج والإقدام والابتكار والبناء والعمل، وبين البورجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة التي تعتمد في نشاطها كله على الوساطة والسمسرة، إنها تكفي أن تكون وكيلة، وهكذا لا تكون رسالتها رسالة تغيير أحوال الناس بل جعل نفسها وسيطا بين البلاد وبين راسمالية متخفية تضع اليوم على وجهها قناع الاستعمار.

وهذه الفكرة التي عبر عنها فرانز فانون في كتابه، هو ما جل الفيسلسوف جون بول سارتر في تقديم كتاب “معذبو الأرض”  يؤكد على أن نسبة قليلة من سكان الأرض هي من لها “الكلمة” في مقابل ذلك تجد “الأغلبية الساحقة” تقوم بدور استعارة “الكلمة” من الفئة القليلة المتحكمة، وذلك عبر قنوات الوسطاء من “ملوك صغار مشترين وإقطاعيين وبورجوازية زائفة ملفقة تلفيقا”.

ويمضي سارتر في تقديم كتاب “معذبوا الأرض” بالقول: “وخلاصة القول إن العالم الثالث يكشف نفسه ويخاطب نفسه بهذا الصوت، ويعلم الناس أن هذا العالم غير متجانس، فلا نزال نجد فيه شعوبا مستعبدة، وأخرى نالت استقلالا كاذبا، وأخرى تقاتل من أجل أن تحصل على سيادتها، وأخرى فازت بحياة كاملة ولكنها تحيا مهددة بعدوان استعماري تهديدا دائما”.

Share
  • Link copied
المقال التالي