استضاف مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني يوم الأربعاء الماضي، الدكتور إبراهيم البيومي غانم أستاذ العلوم السياسية ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، ليحاضر في المجلس الرابع ضمن سلسلة “مجالس مغارب” في محاضرةتحت عنوان: “نظام الوقف في ظل الدولة العربية الحديثة: جدلية الحرية والاستبداد”.
نظام الوقف فكر حر
اعتبر الدكتور إبراهيم البيومي أن نظام الوقف الإسلامي نظام عمل بكليته في خدمة الحرية وفي تأسيسها تأسيسا فلسفيا وإيمانيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، فالنظام بدأ من فكرته الأساسية ونواته الصلبة وهي فكرة “الصدقة الجارية”، التي جاءت في حديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث”، وذكر في أولها: صدقة جارية، كما أكد أستاذ العلوم السياسية أن هذه الفكرة في حد ذاتها هي فكرة حرة؛ ذلك بأنها كي تكون صدقة جارية لابد أن تتحرر من قيد الزمان،كما تحرر صاحبها من أسر شهوة التملك، أي أنه يتنازل طائعا مختارا عما يملك أو عن بعض ما يملك. ومن ثم فالوقف ينتمي إلى منظومة كاملة في الفكر الإسلامي، أطلق عليها المحاضر “المنظومة التحررية”، وهي منظومة معنوية ومادية في الوقت نفسه. وتوقف المحاضر مليا عند فكرة أن الوقف فعل تحرري بامتياز، إذإن فعل الوقف كما أنه يحرر الواقف يحرر الموقوف عليه من أسر الحاجة ومن ذل الاحتياج والخصاصة.
كما بين المحاضرأن نظام الوقف هو نظام استيعابي وليس استبعاديا، حيث إنه يستوعب ولا يستبعد. والاستيعاب فكر تحرري بينما الاستبعاد هو فكر استبدادي، موضحا تجليات الفعل التحرري للوقف على مستويات متعددة؛ فمن الناحية الاقتصادية فهو يحرر الشيء المملوك من أن يخضع لقواعد السوق، ومن الناحية السياسية فهو فعل تحرري لأنه يشارك فيه الحكام والمحكومون، ليخلص المحاضر إلى أنه نظام اجتماعي كان يعمل بكفاءة تزيد وتنقص على مر التاريخ في خدمة أطروحة الحرية، والحرية التي كان يؤسسها الوقف من هذا المنظور هي حرية أصيلة، أو بتعبيره هي:“حرية تتأسس أولا في داخل نفس الإنسان ولا تتأسس خارجه، تأسس وتبنى لبنة لبنة في النطاق الروحي للإنسان أولا عندما يتحرر من أسر كل القيود المذكورة سابقا”.
هذا بخلاف الحرية التي تتأسس من خارج الإنسان، إذ اعتبرها حرية وضعية ومحدودة، أما الحرية التي تتأسس من داخل الإنسان وتنطرح خارجه وتصبغ سلوكياته فهي حرية كاملة غير مقيدة وغير محدودة. أما الحرية الوضعية التي تبنتها الحضارة الغربية فهي حرية تقوم على ضبط موازين القوة المادية وتحدد حريات الأشخاص وحريات المجموعات والأفراد في ضوء موازين القوة.
الوقف في علاقته بالدولة: جدلية الاستبداد والحرية
وضح الأستاذ المحاضر أن موضوع الوقف يحمل بين ثناياه إشكاليات عدة من بينها جدلية نظام الوقف في علاقته بجدلية الفقر والغنى/ أو الثروة والسلطة/ أو الحاكم والمحكوم/ المجتمع والدولة …ثم إن هناك جدليات أكثر تجريدا نحو نظام الوقف في علاقته بالخير والشر / الظلم والعدل/ النظام والفوضى. ليتوقف إبراهيم البيومي في هذه المحاضرة عند نظام الوقف في علاقته بالدولة وجدلية الاستبداد والحرية، ويقصد بالدولة هنا ما سماه بالدولة في المجال العربي الإسلامي. مبينا أن الدولة العربية الحديثة نشأت عن فكرة الاستئثار الشمولي ليس بالمعنى السياسي فقط، ولكن أيضا بالمعنى الخدماتي والاجتماعي، فهي دولة أبوية تقدم كل شيء وتفعل كل شيء، فهي تقدم جميع الخدمات لتتقاضى مقابل ذلك الخضوع ، والإذعان، والامتثال والاستسلام.
وبالتالي فالدولة العربية الحديثة وجدت نفسها أمام مواجهة نظام يقدم الخدمات والمرافق العامة مجانا. هذا المعطى التاريخي الموروث من التاريخ الاجتماعي الإسلامي كان لابد أن تطيح به الدولة العربية الحديثة. لأنه مخالف لمنطقها. فمنطقه الحرية، ومنطقها الاستبداد وهو منشأ الصراع الذي لم ينته بين الدولة ونظام الأوقاف.
كما أشار الأستاذ المحاضر في نهاية المجلس إلى أن هناك موجة أخيرة –من حوالي عشرين سنة – من الكتابات والمبادرات والجهود التي تحاول أن تحيي ثقافة الوقف وتحدد تشريعاته، ليتساءل في الختام: هل هذه الجهود النظرية والتشريعية والقانونية والإدارية التي تريد أن تحدث إدارات الأوقاف ستعيد إليه وظيفته التاريخية لبناء الحرية ودعمها؟
تعليقات الزوار ( 0 )