كثيرة هي المفاهيم والاعتقادات التي تزرع في عقول البشر ،رغم لا مصداقيتها ولا منطقيتها ولا صحتها،
بل حتى وإن كانت تناقض حقوق الناس والشعوب والامم، في السلام والسعادة و التقدم والازدهار.
فما هي حقيقة”مبدأ حق” الشعوب في تقرير مصيرها،الذي يداول في أعراف القانون الدولي ويعتبر قاعدة شرعية تعتمد عليها الحركات الانفصالية،وتستعملها القوى الدولية العظمى للضغط على الدول المستضعفة للتحكم فيها؟
وهل هذا المبدأ،يضمن فعلا السلام بين الشعوب والامم ،أم بالعكس يحفز على الصراعات والتناحر والعنصرية والحروب واللا توازن بين الدول؟
رغم تداول مفهوم “حق الشعوب في تقرير مصيرها”في الكتابات القانونية والفلسفية السياسية،منذ القرن التاسع عشر ،إلا أنه أخد شكله القانوني الإلزامي والسياسي ،الأكثر نضجا ،مع الرئيس الامريكي وودرو ويلسن ،الذي طرحه ، ضمن مبادئه الأربعة عشر،أمام الكونگرس الامريكي في يناير 1918،أي في بداية السنة التي ستنتهي الحرب العالمية الثانية بنهايتها.
لقد لعب مفهوم “حق الشعوب في تقرير مصيرها ” دورا جوهريا في بلورة القواعد التي اعتمدتها معاهدة ڤرساي (1919)،بمدينة ڤرساي الفرنسية،والتي كان الهدف الضمني والحقيقي منها هو تفكيك الإمبراطوريتين النمساوية-المجرية والتركية أو العثمانية،أي الإمبراطوريات المنهزمة في الحرب العالمية الاولى،وليس الهدف كما تم الترويج له :خلق شروط تثبيت السلام الدائم الذي تبنته عصبةالامم .
وبالمحصلة العكس هو الذي حصل ،حيث تعتبر معاهدة ڤرساي أحد أسباب صعود النزعات القومية الأوربية المتطرفة والحرب العالمية الثانية ،التي خلفت عشرات الملايين من القتلى ودمارا لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.
وفِي سياق آخر،لا يقل درامية وبشاعة عن الحرب، فقد تم اعتماد نفس المبدأ (اي حق الشعوب في تقرير مصيرها)لتأسيس الحركة الصهيونية والإعلان عليها رسميا في مؤتمر بال بسويسرا سنة 1898م، حيث طالبت بحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره وبناء دولته على أرض فلسطين ،رغم أن اليهود لا يشكلون فيها الا أقلية قليلة،وما ترتب على ذلك من تقتيل ووحشية و تشريد لشعب بكامله وحروب وصراعات لا تنتهي ومستقبل مجهول يهدد السلام العالمي.
ومن أكثر المفارقات الجيو-سياسية ،هناك العلاقات المغربية الجزائرية،فعلى الرغم من ما يجمع البلدين والشعبين ،من تاريخ وجغرافية ودين ومذهب ولغة وساكنة ،فإنها تعرف توترات منذ عقود،حول دور البلدين الطليعي في افريقيا ،و بما أن الجزائر تعلن تبنيها لنظرية” تصفية الاستعمار” وحق الشعوب في تقرير مصيرها ،فإنها تدعم وتحتضن جبهة البوليساريو الانفصالية،التي لا تتوفر بتاتا على الشروط المطلوبة للتمتع بالحق في تقرير المصير ،المتعارف عليها في القانون الدولي (شعب واحد ولغة وجغرافية) مادام أن سكان جهة الصحراء مثلهم مثل جهات المغرب الأخرى يتقاسمون نفس التاريخ والدين والمذهب واللغة ،و النتيجة هي صراعات ومناوشات وإغلاق للحدود وشلل في التبادل التجاري وإعاقة سبل التعاون الاقتصادي وبناء المغرب الكبير المنشود.
وعلى سبيل المثال لا الحصر :إقليم كاطلانيا الذي يحضى بشروط متعددة وكافية (تقدم صناعي و فلاحة جد متقدمة وغنية،و لغة حية وعلمية،و شعب متميز،و موانئ،و ثقافة،و فنون،وجامعات)ورغم كل هذا و رغم تواجدإقليم كاطلانيا في بلد ديمقراطي،والذي بدوره جزء من الاتحاد الأوربي ،الذي يعتبر أحد أكبر القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية في العالم،رغم كل هذه المؤهلات يستعصي على المطالبين بالاستقلال والانفصال على اسبانيا تحقيق أهدافه.
إن المتتبع النبيه،لأجندة ما يسمى ب”الفوضى الخلاقة “(creative chaos) وتدخل القوى الكبرى في كيانات الدول الوطنية،وكما عبرت على ذلك وزيرة الخارجية الامريكية كوندليزا رايس ،مؤكدة أن الولايات المتحدة الأمريكية عازمة على نشر الديمقراطية في العالم والبدء بتشكيل ” الشرق الأوسط الجديد”كل ذالك عبر نشر “الفوضى الخلاقة” ،في مقابلة أجراها معها صحفي (جريدة واشنطن بوست)،عام 2005ـ،يلاحظ أن هذا المشروع يحمل بين طياته اهتماما كبيرا “بحق الشعوب في تقرير مصيرها “وحقوق الأقليات الاثنية، مما لا يدع مجالا للشك ان الهدف من تقرير المصير هو تفكيك الكيانات الوطنية وتقسيم المقسم وتجزيئ المجزأ ،للهيمنة الكاملة على الاقتصاد العالمي وخيرات الشعوب.
تعليقات الزوار ( 0 )