تعتبر العنصرية مجموعة من الأفكار والقناعات والتصرفات التي ترفع من قيمة مجموعة معينة أو فئة معينة على حساب الفئات الأخرى، بناء على أمور موروثة مرتبطة بقدرات الناس أو طباعهم أو عاداتهم، وتعتمد في غالب الأحيان على لون البشرة، أو الثقافة أو مكان السكن أو العادات أو اللغة، والعرف أو المعتقدات[1].
فهي سلوك منتشر ومستشري في العالم وشائع في كل المجتمعات، وقد أصبح للأسف عاديا في بعض الدول لدرجة يمكن للعنصرية أن تعطي الحق للفئة التي تم الرفع من شأنها بالتحكم بالفئات الأخرى في مصائرهم وكينونتهم وسلب حقوقهم وازدرائهم بدون حق أو سبب جدي وواضح قد يكون من طرف أشخاص يمتلكون صفات فيزيائية وثقافية مختلفة عن الفئة الأخرى المحتقرة والمساء إليها.
وظهرت العنصرية منذ بداية خلق الله الحياة على هذه الأرض، وتعد أحد أسباب الفتنة والتفرقة، حيث إذا اطلعنا على الموروثات الثقافية لهذه البشرية لوجدنا نماذج صارخة للعنصرية.
فالحضارة الرومانية مثلا قد قسمت الناس إلى أشراف وبربر، وكذلك الاعتقاد اليهودي في البشر، فمعروف ومشهور ومسجل في بروتوكولاتهم، فهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار وغيرهم أميون لا قيمة لهم ولا وزن، ولا حق لهم حتى في الحياة.
إضافة إلى دولة اسبارطة في اليونان القديم التي تعد أحد الأنماط الشاذة عن المجتمعات البشرية غبر التاريخ، هذه الدويلة التي لم تترك لنا رصيدا ثقافيا مقارنة بقوتها العسكرية المتميزة، عكس عدوها اللذود، دويلة أثينا التي تمثل النسبة الأساسية للثقافة الغربية، وهو أمر لا يجب أن يكون محط استغراب لأن الثقافة والرقي لا يبنيان على قوة السلاح، بل قوة العقل وخصوبة أفكاره وسلامة المجتمع.
حيث كان لاتحاد فكرتي العسكرة والعنصرية داخل أي مجتمع إنذار خطر للإنسانية والاستعداء للمجتمع في إطار تغول الأقلية.
ولم يبتعد العرب قبل الإسلام عن هذه النعرة، بل كانت القبلية سائدة، والتقسيم الطبقي كذلك (الأوس والخزرج) (السادة والعبيد) وكانت الحروب والنزاعات تطول ولا تحط أوزارها وتعود لأسباب تافهة، حتى وصلت إلى حد الافتخار بهذه العصبية، وذلك حيث قال عمرو بن كلثوم في معلقته.
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما …. تخر له الجبابر ساجدينا
ومن هذا المنطلق، فحتى عالم الواحد والعشرون، ليس بمنأى عن هذه العصبية المقيتة والعنصرية القاتلة، والأحداث شاهدة على ذلك، ما يحدث في فلسطين وما يحدث في فرنسا وفي أمريكا وغيرهم من الدول…إلخ.
لأن العنصرية ملازمة للجنس البشري، وثقافة الأفراد، فهي تعتمد على اعتقاد مرضي لفروقات موروثة في طبائع الناس وقدراتهم، وانتماء البعض لعرق او دين، ويتجلى ذلك واضحا حتى في زمن الأوبئة والجوائح، وكورونا أحد تجلياتها والذي شهد زمانها آفة العنصرية بشتى طرقها وأبهى صورها.
ومن ثم يمكن أن نتساءل عن أسبابها وأضرارها؟ وكيف تتم معالجتها؟ وموقع منظومة حقوق الإنسان من هذه الآفة؟
وهل هي جزء من الجنس البشري؟ أم مرافقة للتكوين البشري منذ ظهور البشرية؟ وهل يمكن أنم نتحدث عن مأسسة العنصرية؟ أي أن تكون مؤسسة موجودة في أنظمة معينة؟
أولا-جائحة كورونا وآفة العنصرية
تعد العنصرية مرض يصيب العقل البشري، لا بشرة الإنسان أو جلده، حيث تعرفها جميعا الدول المتقدمة منها والمتخلفة، لأن البشرية لم تتخل عن آفة التمييز العنصري.
فمنذ ظهور فيروس كورونا في دجنبر 2019، في مدينة (واهان )الصينية أشارت ووثقت مجمل التقارير آنذاك للتحيز والتميز العنصري ضد الأجانب ذوي الأصول الأسيوية في جميع بقاع العالم، وانتشار الاعتداءات الجسدية ضدهم في المدارس والمواصلات العمومية والأماكن العمومية إلخ…والتهديد والتخويف في بريطانيا، إسبانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية ضد هؤلاء الأسيويين اعتقاد من الناس بأن هؤلاء مصدر المرض.
وحتى من جهات رسمية كالرئيس دونالد ترامب الذي أشار في أكثر من مناسبة إلى الفيروس بانه صيني الأصل وذلك لتعزيز مشاعر العداء للصين، ووصفه من طرف المسؤولين بالبيت الأبيض كذلك، إضافة إلى الإيطالي (سالفيني) الذي عبر بأن الوباء أسيوي، وعمل على تأجيج كراهية الإيطاليين للأجانب. وفي فرنسا، اقترح طبيبان، وهم مسؤولان رسميان، تجربة اقتراح لقاح كورونا في افريقيا لافتقارها إلى موارد ضرورية للتصدي للفيروس.
وفي الصين نفسها ظهرت حالات من التمييز العنصري ضد الأفارقة، بعد تسجيل عدد لا يستهان به من الإصابات في صفوف الجالية النيجيرية وطرد العديد من منازلهم.
كما تم في سيريلانكا نشر مقاطعة المسلمين بعد ادعاءات بنشر المسلمين للفيروس، إضافة إلى معاناة الفلسطينيون من التمييز في زمن كورونا بين التأخير في الفحوصات والمساعدات لأسبقية المجتمع اليهودي عليهم.
كما أشارت منظمة (هيومان رايس ووشت) إلى إهمال الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان جراء كورونا، إضافة إلى تقييد حرية اللاجئين السوريين.
زيادة على شعور الفرد تجاه المريض بكورونا بالخوف والهلع، فهو معرض للتميز العنصري حتى من أقرب أقربائه بسبب مرضه.
وهكذا فهذه السلوكيات العنصرية الكثيرة والمتعددة تعد غيض من فيض.
تعتبر آفة العنصرية خطرا يهدد الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان، وذلك راجع إلى حداثة فكرة المساواة بين البشر التي تعرف نوعا من الهشاشة تختلف باختلاف أنماط وقيم عيش وتفكير مختلفة , بسبب وجود بشرية معولمة لأن الإنسان لا طبيعة له، فهو الذي يختار طبيعته, فبإمكانه أن يطور هذه الطبيعة، فيبقى له الخيار ما بين التفعيل أو عدم التفعيل، فنحن من نختار أن نكون عنصريين، ونرى في الأخر هل هو مختلف أو دوني…فهذه مسألة ثقافة فكرية وقيمية، ليس لها أساس بيولوجي، تواجد مع البشر مرافقة للثقافة البشرية ,(كما قال المتنبي)
والظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفة فلعلة
رغم أن هناك تفسيرات بيولوجية لهاته الظاهرة، تتعلق بعوامل داخلية وذاتية كالخوف الغرائزي من الغريب، من التفوق الأجنبي (الفردانية …إلخ) لكن هذا لا يعطيها المشروعية ولا يصل إلى حد العنصرية.
فكورونا أظهرت كما من الممارسات العنصرية، وذلك راجع لتصاعد الغرائز الإنسانية كما سبقت الإشارة، والمترتبة عن العولمة خصوصا في العوالم المتقدمة التي تفرز ممارسات عنصرية، وجعل فكرة المصالح كمحدد للعنصرية التي يمكن أن ترتب واجبات والتزامات أخلاقية في حالة وجود الأجنبي في وضعية غير المنافس، والعكس صحيح في حالة وجود الأجنبي في وضعية العدوو المنافس.
فالإحساس بالتمايز الأنثروبولوجي في إطار التفاوت الطبقي كجزء من العنصرية وجعل هذه الأخيرة بمثابة ظلم كمقدمة للعنف تجاه الأدنى.
كل هذا ساهم في محاولة المأسسة الأمريكية للعنصرية، ومحاربتها كطابو نظري، أي منع التفكير والاعتراف بالتفاوت الفعلي أو الطبقات الكادحة والفقيرة.
وبالتالي حتى الدراسات والأبحاث التي تعنى (بالفقر مثلا) أو (مقاربة الجندرة على أساس النوع)، فهي تحمل في طياتها وتمثلاتها أفكار عنصرية تبنى على أساس التميز والتحديد بوجود تفاوت طبقي، التي تدفع إلى صدور تصرفات ناتجة عن الإحساس بالتميز أي جنون العظمة والتفوق.
ثانيا-نحو مأسسة العنصرية
حيث أن مقارنة العنصرية ومحاولة مأسستها لدى أنظمة معينة خصوصا أمريكا فهي تتعامل بازدواجية معيارية وسياسة الكيل بمكيالين، فترى خارج إطارها العنصرية هي خرق للوضع السياسي وعدم احترام منظومة حقوق الإنسان، أما داخل دائرتها فهي مشروعة وضرورية للتمييز بين الأجناس البشرية، بين أصليين ومتجنسين غير أصليين.
فمثلا النظرة إلى مريض كورونا في أمريكا لم تراعى فيه أدنى قواعد الإنسانية، وذلك باعتماد ميكانيزمات تحليلية مختلفة، تنبني على تمثلات اجتماعية صارخة تذهب إلى حد تخطئة الضحية (مريض كورونا) والتمييز بين الإصابة كثيرة في صفوف السود، والموت في صفوف البيض، واتهام السود بعدم الاهتمام والاستخفاف بالتدابير الوقائية وتوفرهم على مناعة قوية …وليس مقاربة المرض من وجهة اجتماعية مبنية على الفقر في صفوف السود والاكتظاظ والتفاوت الطبقي وعدم توفرهم على مستوى لا يليق بهم على غرار البيض)
مما أدى إلى ظهور مشاهد غير متساوية، بسبب الأفكار التي تولدت عن العنصرية جعلت موت الفقير لا أحد يشعر به، بينما موت الشعب الغني فهو معولم، يجعل من هذا الموت عالمي وفقدان العالم لشعب سامي. مما قد ينتج عنه عنصرية مخيفة يمكن أن نصطلح عليها بعنصرية الدولة على أساس تميز جندري بسبب تعابير عنصرية صادرة عن جهات رسمية تنسب الفيروس إلى الشخص أو الشعب مما يؤدي إلى شخصنة الفيروس.
ومرد ذلك إلى فشل سياسة الرعاية الصحية والنظام الصحي الأمريكي والتداعيات الاقتصادية التي أرخت بظلالها على اقتصاد أمريكا, مما ينتج عنه عجز وفشل في إدارة الأزمة الصحية ومحاولة تبرير الفشل عبر سلوكات عنصرية، أدت إلى عدم قدرة رؤية الغريب على أنه مساو في الحقوق والواجبات، وبالتالي محاولة إيذائه دون عقاب ولا متابعة، زيادة على الأزمة المؤسساتية التي عرفتها منظمة الأمم المتحدة في هذه الفترة، بالرغم من مطالبها بعدم التمييز واحترام حقوق الإنسان ومواكبة فرض هذه المنظومة في جميع دول العالم، إلا أنها خيبت الآمال في زمن كورونا، الذي عرف عنصرية مخيفة ومعولمة والتزامها الصمت تجاه السلوكات العنصرية والأزمات الناتجة عن انتهاك حريات وحقوق الإنسان. (مثلا مقتل جون فلوريد)
خلاصة، يمكن أن تكون كورونا فرصة لجعل النوع البشري والمساواة بين الأشخاص البشرية فكرة واقعية لأن مصير البشرية واحدة تربطها مصالح موحدة في إطار أفكار أممية الدولة الوطنية لتساهم في تنامي الشعور القومي، وبناء اقتصادات وطنية محلية تأخذ محلها داخل البناء العالمي بعيدا عن الانطواءات الشوفينية على الهويات بحجة المعتقدات والديانات والأعراف والإيديولوجيات المسمومة لأن هذا ليس له لا أساس علمي ولا قيمي.
زيادة على الإيمان الراسخ بأن الكرة الأرضية لا تحمل سوى جنس بشري واحد (الإنسان) يرتبط بمصير واحد مشترك، وهذا ما أنجزه فيروس كورونا، الذي رسخ لديمقراطية (كورونية) لا تفرق بين الغني والفقير، المتقدم والمتخلف، ووثقت لسلوكيات تضامنية بين جنس البشر، كما يقال (الأزمة تخلق الرجال والرجال يخلقون الرخاء)
إذ لا يمكن لدولة أن تتجاوز وحدها هذه الأزمة إلا في إطار المساواة والتضامن وهذا هو الترياق نفسه ضد العنصرية التي يمكن أن تكون قمامة العقل البشري.
لذلك سنترك الأمور تجري بشراعها لنرى كيف سيكون العالم الذي سيولد بعد أزمة جائحة كورونا.
“باحث بسلك الدكتوراه في القانون العام, كلية الحقوق مكناس
[1] – و حتى المستوى الاجتماعي أو الطبقي
تعليقات الزوار ( 0 )