ا يمكن لأي منتم للحركة الإسلامية أو متعاطف معها أو لأي دارس لتاريخها ومختص في شؤونها أن يتجاهل اسم سيد قطب الذي يعتبر أحد أبرز منظري ومفكري التيار الإسلامي، فقد حظيت كتاباته طيلة العقود الماضية بإشعاع وانتشار لم يسبقه أحد له في أوساط التوجه الذي ينتسب إليه، هذا فضلا عن سيرته الشخصية وتجربته الحركية التي كانت بمثابة مغناطيس جاذب للآلاف من الشباب لما رأوا فيها من معاني الثبات والصبر على المحن والابتلاءات التي بلغت ذروتها بإعدامه، الشيء الذي أضفى على كل كلمة خطها في كتبه، في مقالاته وفي أشعاره تأثيرا بالغا في نفوس من يتلقاها لأنها صدرت من رجل صدقت أفعاله أقواله.
هذه الصورة التي مثلها سيد قطب وظفت من طرف الحركات الإسلامية فيما مضى لإثبات مظلوميتها بتقديمها له شهيدا للدعوة الإسلامية وشهيدا لكلمة الحق، أما اليوم فالوضع قد بدأ يتغير وانتقل سيد من الرمز الذي كان يحتفى به إلى شخص متنازع حوله، حيث تناغم جزء من الطيف الإسلامي مع الحملة التي تشن على سيد قطب من طرف دوائر معادية للحركة الإسلامية التي أعادت أفكاره إلى المحاكمة مرة ثانية وقررت أن تضعه في مقصلة الإعدام من جديد. فبعد أحداث 11 سبتمبر وفي إطار البحث عن دوافع الإرهاب وتتبع جذوره تم اعتبار أفكار سيد قطب الملهم الأبرز لكل جماعات “العنف الإسلامي”، حيث حمل وزر ما يموج به العالم من عنف دام، وذلك بالنظر إلى المكانة التي يحظى بها عند هذا التيار الذي يستند إلى عدد من النصوص التي قام بتأليفها من أجل تبرير ممارساته.
قد نفهم مواقف من يرمي الكرة إلى الملعب الإسلامي بتحميله له المسؤولية عن كل ما يحدث من أزمات، فهو يتناول الموضوع بسطحية متعمدة لأنه يسعى إلى إبعاد تهمة المسؤولية عن تفشي ظاهرة الإرهاب عنه وإلصاقها بغيره. ذلك أن المستبدين والقوى الخارجية الداعمة لهم، هم من جعل الشباب فريسة سهلة لأفكار العنف بشتى أشكاله بسبب ظلمهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي مما أدى إلى انسداد الأوضاع واختناقها وإحباط الشباب وتيئيسهم وتحطيم مستقبلهم. لكننا لا نستوعب موقف فئة من الإسلاميين الدفاعي واستجابتهم السريعة لتلك الحملات الذي جعلهم يتبرؤون من واحد من كبار رموزهم في تعبير عن روح انهزامية تسري في أوساطهم تجعلهم يفقدون زمام أمرهم ويسايرون الموجة العالية التي تنال منهم وتسعى إلى هدم مشروعهم من الأساس.
تلك الروح الانهزامية لم تأت من فراغ، فهي نتاج سلسلة من التغيرات طرأت على الإسلاميين وأدخلت بعضهم في متاهات الحسابات البراغماتية ضيقة الأفق، حيث أضحت فكرة التصالح مع واقع الفساد والاستبداد والبحث عن تسويات مع السلطة الشغل الشاغل لبعضهم تجنبا لبطش الأنظمة من جهة وحتى يكسب مشروعهم الإصلاحي بعض المساحات في أجهزة الدولة ومؤسساتها. طبعا لا حاجة للتذكير بمآلات هذه التجارب وكيف انتكس هذا المشروع وتقزم إلى مستوى حماية مصالح بعض شخوصه الذاتية وامتيازاتهم.
لكن مشكلتهم أن سيرهم هذا يصطدم بصخرة سيد قطب الذي يشكل عائقا أساسيا في تحولهم، فما يمثله سيد من شموخ وعنفوان في مواجهة الطغيان لا يناسب المرحلة التي تتطلب قدرا من المرونة أو الروغان بتعبير أصح. الأسوء أن التعاطي مع سيد لم يقتصر حول انتقاد فكره فقد كان القصد من الحملة عليه ضرب رمزيته وإسقاط مصداقيته، وهذا أمر غريب حيث أن مختلف التوجهات السياسية التي سبقت التوجه الإسلامي في مراجعاتها حرصت على أن تحافظ على مكانة زعاماتها التاريخية وهيبتهم حتى وهي تختلف معهم وتراجع بعضا من أفكارهم ومواقفهم، بخلاف الإسلاميين التنويريين الذين أصبحوا يتحدثون بلسان غيرهم، فزعموا أن سيد قطب يدعو إلى الكراهية كما حذر بعضهم الشباب من قراءة كتبه وغيرهم تمادى أكثر في الهجوم عليه.
سيد قطب ضحية تلك النظرة الانتقائية لفكره التي اختزلت كل إنتاجه في مؤلف أو مؤلفين، وهذا ليس من الإنصاف في شيء، لا سيما أن تلك الكتب كتبت تحت سياط الجلاد وقهره، كما أن أسلوبه الذي تعتريه مسحة أدبية شاعرية لا يحتمل القراءة التعسفية التي يقرأ بها اليوم، وحتى إن وظفت مجموعات السلفية الجهادية بعض أفكاره، فإنه لا يعني أنه أصبح ملكها فهو لا يشبههم ولا يشبهونه، هم كانوا يبحثون فقط عن قامة كبيرة حتى يستظلوا تحتها ويبرروا كل ممارساتهم عبرها، بدليل أن ليس كل من تأثر بسيد قطب، أضحى إرهابيا.
ذلك أن مساحة تأثيره كانت أوسع من أن تختزل في تيار السلفية الجهادية، فبالإضافة إلى مكانته عند تيار الإخوان المسلمين والاحترام الذي كان يحظى به من طرف حزب التحرير الإسلامي، فهو يعد كذلك من الرموز السنية النادرة التي تمكنت من التأثير في التيار الإسلامي الشيعي حتى إن صوره استخدمت كطوابع بريدية ما بعد الثورة الإيرانية بل إن كتابه “معالم في الطريق” ترجم من طرف علي خامنئي مرشد الجمهورية الإيرانية إلى اللغة الفارسية. وهو ما عجز عنه من لا يزال يرميه بالتطرف، ممن لم يتمكنوا من مغادرة طائفيتهم لحد الساعة رغم كل المسوح التنويرية الخادعة التي يصبغون بها قناعاتهم.
حري بنا هنا أن ننبه إلى أننا لا ندعو إلى استصنام فكر سيد قطب، غير أننا نميز بين النقد اللازم لفكره الذي يقوم مسار التيار الإسلامي ويبني على ما أسهم فيه الشهيد مع المحافظة على مكانته والإعلاء من قدره وبين من يمارس عملية تصفية ممنهجة لتراث سيد قطب مع قدر كبير من التجريح والافتراء بهدف اغتياله معنويا. بالنيل من سيد قطب وغيره من الرموز التي بذلت أرواحها وحريتها وأغلى ما تملك فداء لقناعات التيار الإسلامي فإن الأرضية الصلبة لمبادئ الحركة الإسلامية تهتز حتى تعدو رخوة، لأن الحركة التي تبخس من رموزها ومناضليها وتسخر من جدوى تضحياتهم يسهل على الاتجاه الانتهازي اختراقها والانتعاش في صفوفها، وهو ما يعني فقدانها على المدى البعيد هويتها ومبرر وجودها، فتتحول إلى جسد دون روح وإلى مجرد رقم من الأرقام يؤثت المشهد السلطوي في بلدها.
تعليقات الزوار ( 0 )