كان الحوار سلوكا طبيعيا في حياة الراحل محمد سبيلا وخاصية من خصائص بنيته المعرفية والوجداية والوجودية. وبهذا فإن الحوار الثقافي في اهتمام سبيلا هو البعد المؤسس لتوجهه الفكري قاطبة، بل القاطرة ” التي تجر عربة فكره قاطبة.
وأول أنواع الحوار التي مارسها، رحمه الله، هي حواره مع ذاته وتحليه بقسط مهم من النقد الذاتي اتجاه نفسه والثقافة الجوانية والبرانية.
ومن تمظهرات هذا الأمر في شخصية سبيلا هو هذا النوع الراقي من التسامح واليقظة الذهنية لكي لا يصبح هذا الأخير “سذاجة” وقبول الرأي الآخر بسعة صدر ودعابة “ماكرة” وإصغاء نشيطا.
وسنهتم بالحوار البراني للراحل، لأن الحوار الجواني له درس بما فيه الكفاية من طرف زملائه في المهنة وطلبته العديدين، عمن قال مرة في نص له بعنوان: “ثقافة البوح والاعتراف” بمناسبة أول تكريم له من طرف الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، فرع فاس: “لابد من تقديم كلمة شكر للجميع … لكل الحاضرات وكل الحضور وللجهات التي نظمت هذا اللقاء ولكل الإخوان الدين جاءوا للتعبير عن حبهم وعن تقديرهم ولكل الأصدقاء والطلبة السابقين الذين ربطتني بهم دوما لا أوامر السلطة والتحكم والنهر والزجر وغير ذلك من المواقف السلطوية، بقدر ما جمعتني بهم المحبة، محبة الحكمة ومحبة الفلسفة ومحبة استعمال العقل … أعتقد أنه لابد من شكر ولابد من مبادلة المحبة بالمحبة … هذه التظاهرة تعبر عن أخلاقية عن ثقافة يجب أن نطورها ونغنيها: وهي ثقافة الإعتراف، لا ثقافة الجميل، بل ثقافة الإعتراف”.
“الحوار البراني” للمرحوم، الذي نعنيه هنا هو حواره مع دوائر ثقافية غير عربية. فقد اهتم بمثل هذا الحوار بترجمة العديد من المؤلفات الفلسفية من الفرنسية إلى العربية، ساهمت مباشرة في إغناء ثقافة الحوار بفتح نوافذ عديدة على فلاسفة ومفكرين غربيين كُثُر. ويبقى الجناح الجرماني في الثقافة الغربية من الأجنحة التي همت سبيلا بالخصوص، لإيمانه العميق بأن الإرث الفلسفي الجرماني (الألماني والنمساوي بالخصوص) وفر للغرب وللعالم برمته اتجاهات فكرية متعددة منذ النهضة الغربية، وبالخصوص ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي. والميزة الأساسية لحوار سبيلا مع هذا الجزء من الغرب يكمن في كونه كان حوارا مباشرا، بحضوره للعديد من اللقاءات الفكرية في ألمانيا والنمسا وإمارة الليكتنشطاين منذ أكثر من ربع قرن.
وينعكس اهتمام العالم الجرماني بمحاضرات سبيلا في الإهتمام الخاص لوسائل الإعلام به ونشره على نطاق واسع، حتى أصبح سبيلا صوت العرب الصادح والصداح في الساحة الثقافية الجرمانية. ميزة أخرى تنضاف إلى الميزة السابقة هو أن سبيلا لم “يغازل” الغرب، بل كانت محاضراته “نارا وبارودا” نقديا للغرب و”نرجسيته” ومركزيته وهدما لأحكامه المسبقة عن العرب والمسلمين عموما (على فكرة، قام بنفس الشيء فيما يخص الأحكام المسبقة للمسلمين اتجاه الغرب)، بلباقته اللغوية المعهودة وصراحته المباشرة.
كان جمهور المستمعين والقراء يتقبل مثل هذا النقد، لأنه يأتي من متخصص لم يرفض الحداثة الغربية و”حسناتها”، بل تفاعل معها وألف فيها وانتقدها وطور “مدرسة حداثية عربية” قائمة بذاتها، استفادت لا محالة من تجربة الحداثة الغربية. كانت اللقاءات الفكرية لسبيلا في العالم الجرماني بمثابة “فتوحات” فلسفية، أخذ منها بقدر ما قدم، وهذا الجانب هو بالضبط ما كان يبهر المثقف الجرماني في كل لقاء مع سبيلا.
لا يمكن أن نعمق الحديث عن سبيلا وحوار الثقافات أكثر من هذا، بسبب ضيق المجال، ما يجب التأكيد عليه هو أنه كان نموذج المفكر العربي الذي مد يدا للحوار الداخلي واليد الأخرى للحوار الخارجي، إيمانا منه بأن الحوار هو فضيلة فلسفية عريقة منذ البدايات الأولى للتفكير الفلسفي الإنساني مع سقراط وتلامذته من بعده. وأهم ما علمنا إياه سبيلا في هذا الإطار هو فن الإصغاء، والفهم، والتفسير، والتحرر الواعي من الأحكام المسبقة وأخذ المحاور محل الجد وقبول الإختلاف إلخ. وعلى هامش كل هذا التحلي بقدر موزون وبحذر بخفة الدم، والنكتة والسخرية الهادفة.
*أكاديمي مغربي مقيم في النمسا
تعليقات الزوار ( 0 )