إن فيروس كورونا لا يهدد صحة الإنسان فحسب، بل يقوض أيضًا مختلف الأنماط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، و يلقي بظلاله على السياسة وعلى الطرق العامة / العادية لممارستها، ومع السيطرة الكبيرة للوباء على عالمنا وإجبارنا جميعًا على الحجر المنزلي/الصحي، و فصل أنفسنا عن أقرب أصدقائنا ، هل تصبح السياسة مستحيلة أو يكون هناك شيء منها ؟ نعم هناك مشهدية واقعية دراماتيكية تتجسد كل يوم، تؤجل الانتخابات في مجموعة من الدول ،إذ لن يتمكن أي مرشح في هذه المرحلة على الأقل النظر في أعين الناخب الذي يقرع بابه، و تجمد أنشطة الكثير من المؤسسات بما فيها المؤسسات المنتخبة الوطنية والمحلية، أو تقزم أدوارها وسط إجراءات وقائية صارمة ،أو اشتغالها عن بعد ،حظر الاحتجاجات في كثير من الدول،مسؤولون بدءا من قادة الدول لا هم لهم إلا حماية أنفسهم وعائلاتهم،إننا أمام حقبة جديدة من السياسة بدون هيئات ، مظهرها القاعات المهجورة الفارغة والتصويت الافتراضي. كما أن الفيروس التاجي قام بإغلاق أشكال كثيرة من التنظيمات، لن يتمكن الناس بعد الآن من الجلوس جنبًا إلى جنب ،حيث لن تكون العديد من المنظمات قادرة على الاجتماع لاتخاذ قرارات أو لبناء مجتمع، مثل الأحزاب و النقابات العمالية ، ومجموعات المصالح ، والنقابات المهنية …الخ.
لم يقف الأمر عند هذا الحد فقط، وإنما خلق فيروس كورونا صراعا قائما بين المنطق التقليدي للسياسة، والذي يميز بين الأصدقاء والأعداء، والسياسة التقنية القائمة على الصحة. وهذا النزاع أثر في حد ذاته على ديناميكيات صنع القرارات الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بمستقبل أي دولة ، وجعلها تنصاع لنظم المعلومات الفنية الخاصة. إن ردود الفعل السياسية والاستجابات في مواجهة فيروس كورونا التي تم تقديمها في البداية شابها اختلال كبير ،ولكن كل شيء تغير بعد ذلك، وتم إفراز أسلوب جديد من السياسة حيث الأسبقية و الأرجحية تعطى للمعلومات التقنية. إنه واحد من أكثر الأمثلة اللافتة للنظر حول كيف أجبر تقرير علمي في بريطانيا قوة شعبية يمينية على اتخاذ موقف. في المملكة المتحدة ، اعتمدت حكومة بوريس جونسون في البداية سياسة “مناعة القطيع” ،وهي تشكل نوعا من المجازفة والمغامرة غير المحمودة وغير مضمونة النتائج ، لكنها سرعان ما تحولت إلى سياسة “مكافحة” الفيروس بناءً على تقرير جديد لعلماء من “إمبريال كوليدج”.مشاهد كثيرة على مستوى ندوات تلفزية أو لقاءات حوارية/نقاشية تناقلتها وسائل الإعلام التقليدية والجديدة تظهر إنصات القادة إلى خبراء الصحة ، تبين تواري السياسي خلف التقني/الخبراتي،وفي عز أزمة فيروس كورونا ،وفي ظل انتشار الأخبار الزائفة أصبح المواطن ينجذب أكثر نحو خبراء الصحة ،فلا مجال لاحتراف الكذب أو المناورات الفارغة.
ولا يمكن للمجتمع أن يجد طريقة أخرى سوى الاستسلام لهذه اللغة وسياسة الصحة ، التي تبرز كأداة أيديولوجية جديدة، هذا الشكل الجديد جذري ومضطرب، لأنه على عكس بعض الأجهزة الأيديولوجية الأخرى، لاسيما وان الأولوية تعطى للعزلة الاجتماعية نتيجة استبدال سياسات المجتمع المدني والتضامن في جميع أنحاء العالم بسياسات ضوابط صارمة ،و هذا أيضًا يعتبر تطور ا وثيق الصلة بالأسلوب السياسي. في الواقع ، إن إدخال السياسة في شكل تقني سياسي لا يدفع المواطن العادي إلى خارج السياسة المؤسسية فحسب ، بل يتحدى أيضًا الافتراضات الأولية حول عمل وطبيعة الدولة، هذا الشكل الجديد يجعل الدولة التي تحتفظ بأجهزة التحكم في الأنظمة الصحية التقنية أكثر فائدة للمجتمع الذي أضحى أكثر إرباكا ، والذي يحاول أن يجد طريقه بين الهيكل الاقتصادي المتعثر والممارسات السياسية المتقلبة .
وعليه سيتعين علينا تغيير ساحتنا العامة، هذا أمر مؤكد، لطالما أن الفيروس ينتشر دون رادع ، فإن أشكال الضغط السياسي القديمة اندحرت ،وعليه ألا يمكننا مقابل هذه الأزمة الانتقال للتنظيم عبر الإنترنت؟، قبل فترة طويلة من انتشار الفيروس التاجي ، أصبحت السياسة بالفعل أقل حشدًا وأكثر حضورا في العوالم الافتراضية. أدى ظهور تكنولوجيا الاتصال الجماهيري إلى عدم حصول معظم المواطنين على أخبارهم من مصادر مادية ، مثل الصحف والمجلات المطبوعة. بالنظر إلى المستقبل ، نحتاج إلى التفكير بشكل أكبر في كيفية “القيام” بالسياسة الافتراضية، ومحاولة إعادة توطين الوظائف السياسية القديمة في شكل أنماط رقمية على مواقع مثل Facebook و Twitter ، هناك الكثير من الناس الذين يعبرون عن أنفسهم ويتفاعلون مع الكثير من القضايا الدولية والوطنية ويجمعون أصواتهم حيث يتوافقون بالفعل. بالنسبة إلى الساحة العامة الرقمية في المستقبل ، نحتاج إلى أنظمة جديدة تمكننا من إدارة المطالب المتضاربة وتمكين الناس من إيجاد توافق مثمر في الآراء وبناء مختلف التصورات والمواقف.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نستثمر أخيرًا في بناء ساحة عامة رقمية حقيقية حيث يمكن للجميع ، وليس فقط أولئك الذين هم أفضل حالًا، المشاركة على قدم المساواة ومع حماية الخصوصية الأساسية، كجزء من التعبئة الوطنية الأكبر اللازمة لمواجهة الفيروس التاجي ، ينبغي مطالبة شركات الاتصالات بإتاحة صبيب الانترنت العريض والعالي السرعة مجانًا للجميع كشكل حيوي من البنية التحتية، ويجب أن يكون الجميع قادرين على استخدام شبكات التواصل الاجتماعي دون الحاجة إلى الخضوع للمراقبة في كل مكان،لأن المشكلة تكمن في أن التنظيم عبر الإنترنت لا يماثل التنظيم في الفضاء العمومي بشكله التقليدي المادي،خصوصا وان التنظيم عبر الانترنت يؤدي إلى تعزيز قوة رأسمالية المراقبة وعمالقة الشركات غير الخاضعة للمساءلة مثل Facebook و Google و Comcast وVerizon ، بالإضافة إلى ذلك هناك خطر الاستيلاء على بياناتنا الشخصية وعلى حياتنا المدنية.
*أستاذ جامعي
تعليقات الزوار ( 0 )