لن يسألك أحد الآن عن الدخول الثقافي، ولا حتى عن الدخول السياسي. فكورونا أعفت الجميع من التساؤل عنهما. فالعمل الثقافي متواصل، نسبيا، من خلال الوسائط المتفاعلة، والناشرون يعملون بدون أفق لما يمكن أن ينتظرهم، وهم يعولون كثيرا على المعارض، متسائلين عن إمكانات إقامتها. أما المجتمع السياسي فأبانت الجائحة أن حضوره مثل غيابه، وإن كانت تطفح بعض الممارسات التي تكشف الواقع الحقيقي الذي يعيشه. لكن التعليم يطرح سؤالا كبيرا: كيف نتعامل معه في ظل استمرار الجائحة، بل واستفحالها بعد رفع الحجر الصحي؟
هذا النوع من الأسئلة يفرض علينا نفسه بإلحاح كلما وجدنا أنفسنا أمام حكومة جديدة؟ أو ظرف استثنائي مثل ما وقع مع الجائحة. إن كل حكومة جديدة تحاول أن تكحِّل عين التعليم لتشفيه من الرمد المزمن، فتكحِّلها عليه بأن تعمي إحدى عينيه. كما أنه كلما حلت وضعية اقتصادية جديدة، تقدمت اقتراحات لتعيد النظر في ما جرى، فإذا هي أسوأ من اختها وسابقاتها. ومع كارثة كورونا، فرض علينا التعليم عن بعد، فتبين لنا أن فشلنا في «التعليم عن قرب» لا يمكن إلا أن يقدم صورة أفظع عن مزاولتنا «إياه عن بعد». وكان الرهان خلال الحجر الصحي، حيث تم اعتماد التعليم عن بعد، على أن الجائحة ستضع أوزارها، خلال الصيف أو بعده، وستعود حليمة إلى عادتها القديمة: التعليم الحضوري؟ لكن بدا لنا أن التوقعات مجانبة للصواب، وأن عدد الإصابات في يوم واحد، أحيانا، يكاد يوازي ما تم خلال أشهر الحجر الصحي بكاملها. ونقول الشيء نفسه تقريبا عن عدد الوفيات، وتعدد البؤر التي اتسعت، مع فروقات بسيطة، لتعم كامل التراب الوطني. فكيف يمكننا التعامل مع هذه التطورات الجديدة، ونحن على أبواب الموسم الدراسي والجامعي المرتقب يوم 7 سبتمبر 2020؟
وضعت الوزارة المسؤولة عدة سيناريوهات بعد أن ظهر أن كل ما كان يروَّج له عالميا، ويقال عن كون درجة الحرارة يمكن أن تذيب الفيروس، وتقضي عليه نهائيا؟ أن الحرارة المحلية بكل أنواعها: حرارة الطقس، وحرارة الخروج من الحجر الصحي، وحرارة عيد الأضحى، لم تزد على أن جعلت الجائحة أكثر انتشارا وأسرع فتكا، فهل جاءت السيناريوهات المقدمة لتراعي كل الاحتمالات الكائنة والممكنة؟
لن أناقش البلاغ الوزاري ولا التوضيحات التي جاءت، بعد أن كثرت التعليقات التي شغلت الرأي العام الوطني، ومعظمها يعبر عن الغموض والالتباس، ولاسيما بعد أن تم إلقاء المسؤولية على آباء وأولياء التلاميذ في الاختيار بين التعليم الحضوري أو عن بعد، أو «التعلم الذاتي» (لأول مرة أسمع عن هذا النوع من التعليم؟) لأن هذه المسؤولية ليست كما عبّر الجميع، سوى تملص من المسؤولية التي كان ينبغي أن يكون فيها الحسم الذي لا يدفع في اتجاه هذا الاختيار، أو ذاك لدى الآباء. إن مناقشة البلاغ الوزاري يطرح عدة جزئيات ظلت غائبة أو بالأحرى مغيبة، وتتعلق باختلاف الحيثيات التي تمارس فيها العملية التربوية في بلادنا.
كان الأحرى في رأيي بدل اتخاذ تصور لا يخلق إلا الالتباس والغموض والبلبلة، امتلاك نوع من الجرأة السياسية، رغم ما يمكن أن يثيره هذا التصور من ردود أفعال سلبية، إنه سيؤدي إلى إعادة الثقة في الخطاب السياسي المغربي، ويكشف بالملموس أننا أمام حقبة جديدة عرّت فيها الجائحة، ما كنا غاضين الطرف عليه بناء على رهانات لا أساس لها، وأننا مقبلون على التفكير في رؤية مختلفة لواقعنا التعليمي. ماذا كان سيحدث لو قيل: إننا أمام احتمالين اثنين: أولها التعليم الحضوري في المؤسسات التي لا تعاني من الاكتظاظ، ولا من قلة القاعات، ولا من قلة الأطر التربوية. والثاني للتعليم عن بعد للمؤسسات التي لا تتوفر على هذه المقومات؟
سيتحقق الاحتمال الأول مع المدارس الخاصة بشكل كبير، وببعض المؤسسات العمومية في الأحياء المسماة راقية، لأن بعض مقوماتها تختلف عما يوجد في أحياء أخرى، وكذلك في المؤسسات العمومية في القرى النائية. أما التعليم عن بعد فسيكون في المؤسسات العمومية في الأحياء الشعبية حيث اكتظاظ التلاميذ، وقلة القاعات، واستحالة التفويج الذي لا يمكن أن تغطيه الأطر التربوية، وكذلك في المدن والأحياء التي تعرف بؤرا للفيروس.
سيكون الاعتراض الأساس هو: إتاحة الفرصة للتعليم الخاص على حساب التعليم العمومي، وأن الفرص ستكون غير متكافئة بين متعلمينا. وسيكون الجواب: هذا واقع موجود منذ الاستقلال، وأن الجائحة كشفت لنا عن واقع أزمة تعليمنا البنيوية، في كيفية لم نكن نريد رؤيتها سابقا. واليوم، وأمام هذه الضرورة، سنفكر جديا في سياسة تعليمية جديدة لا نفرق فيها بين المقومات التي ينبغي أن تتوفر في أي مؤسسة تعليمية، ونردم الهوة بين التعليم الخصوصي والعام، وبين التعليم ما قبل الرقمي، والتعليم الرقمي، وبين الشغل والبحث العلمي. وأن التحضير لهذه السياسة الجديدة ينطلق من الآن. السؤال المركزي الذي علينا أن نفكر فيه هنا والآن هو: ماذا أعددنا لتعليم ما بعد الجائحة؟
تعليقات الزوار ( 0 )