نحن أمام كتاب مكون من تسعة فصول ومقدمة وخاتمة.
مع الصفحات الأولى من قراءة هذا الكتاب المؤلف من تسعة فصول ومقدمة وخاتمة، ندرك أن الكاتب مسكون بهاجس الابتكار الذي يرجوه للعقل المغاربي “فمن لا ابتكار له يعيش في الاتباعية، والاتباعية هي الدفع من الخلف ضدا على الجذب من الأمام.”
و لأن غايته هي الوصول إلى تقييم لهذا العقل يكون أقرب إلى الصحة، يختار الإدريسي الغوص في الماضي البعيد ينقب عن انجازاته و يتتبع بصماته، ثم يأتي إلى مرحلة ظهور الإسلام و ماتلاها وصولا إلى العصر الحديث.
يمر القارىء بالمراحل واحدة تلو الأخرى ويطلع على الأحداث والمشاهد الممتدة، يقلب التفاصيل في بعضها و يكتفي بالعموميات في بعضها الآخر، فيرسخ في الذهن مدى حرص الكاتب على إيجاد إشارات دالة على أصالة نشاط هذا العقل.
سؤال الكاتب المركزي الذي يبدأ به هو: ما لجانب الأكثر اعتمادا لدى العقل المغاربي هل هو الجانب الإبداعي الأصيل أم الجانب الاقتباسي الاتباعي أم الجانب التوفيقي التلفيقي.
في الفصل الأول يشرع الإدريسي في البحث عن طبيعة العقل الجماعي المغاربي في غابر أزمانه، فيعود بنا إلى الحقبة الفينيقية والرومانية والبيزنطية لنلاحظ فقرا في الآثار المدونة، وسيحول هذا الفقر بيننا وبين إمكانية التعرف على تفاصيل نشاط العقل في تلك الفترة.
لكننا نعثر على رواية الحمار الذهبي كمؤشر على نتاج فكري كان موجودا.
فهذه الرواية هي منارة للإبداع ومعلم من معالم الذهنية المغاربية التي تميل إلى السحر والشعوذة، وفي هذا إشارة إلى أن الطقوس السحرية كانت جوهر المعتقدات عند البربر.
في مرحلة ما قبل الإسلام لم يلجأ هذا العقل إلى التدوين واكتفى بالسرد الشفوي، لكننا نستشف بأنه كان عقلا عمليا يهتم بتحسين ظروف الحياة، كشق الطرق والاهتمام بالزراعة وتوزيع المياه بعدالة..
نأتي إلى الزمن الإسلامي الأول لنلاحظ أن الناس قد ارتاحوا لقيم الحرية والعدالة التي جاء بها الاسلام فهم لم يكتفوا بالتمسك بها، إنما دافعوا عنها ببسالة وقوة. وهذا بعض مايبرر الثورات المتكررة على بعض الولاة العرب.
لكن هذا التمرد على بعض الولاة لم يجعلهم يتخلون عن روح التسامح، فصاروا قبلة لأصحاب الفرق الذين نالت منهم قسوة الحكام في المشرق، كالخوارج الذين أسسوا الدولة الصفرية في المغرب والإباضية في الجزائر.
و من الحسن هنا ملاحظة أن الذهنية المغاربية لا تميل إلى الآراء الكلامية فهي استقبلت تلك الفرق لكنها لم تشجع طروحاتها التي حاولت نشر التشيع مثلا، بل فرضت الطبيعة المغاربية نفسها على بعض أصحاب تلك الفرق، و حملتهم على أن يخاطبوها بنفس جنس ميولها كي ينجحوا في إقامة دولهم.
في زمن نشأة الدول الإسلامية الأولى يستمر العقل المغاربي في خطه العملي من حيث تحويل الكلام إلى دول. فتقل مساهمات المغاربة في مقالات الإسلاميين، ويفضلون اقتباس المذاهب الفقهية والفلسفات من المشرق بواسطة العديد من الشخصيات التي كانت تأتي حاملة معها الانتاج الفكري. فكانوا مستوردين ولم يكونوا منتجين.
ويستشهد الكاتب هنا بما ذكره عبد الواحد بن عاشر ملخصا المرجعيات المكونة للجسم الثقافي المغاربي :
في عقد الأشعري وفقه مالك ….. وفي طريقة الجنيد السالك
ويغيب كما يتضح أي مرجع مغاربي.
و يتفق المغاربة في هذه المرحلة على مذهب واحد هو المذهب المالكي، لموافقته ذهنيتهم العنيدة، وتقديرا منهم لأهل المدينة واعتبارها الأصل في التشريع.
في القيروان يسجل الكاتب اختلافا في الواقع الفكري إذ تحدث الكثير من المصادمات الفكرية بين أصحاب المذاهب الاسلامية، والكثير من المناظرات التي تدرجت بمراحلها، فأخذت طابعا لينا في البداية ثم تحولت إلى محنة وخصومة تؤدي إلى الانتقام بالسجن أو التعذيب حتى الموت.
وكانت الصراعات بين الأحناف والمالكية من جهة، وبين المالكية والشيعة الإسماعيلية من جهة أخرى.
ثم ينتقل الكاتب إلى انشغالات العقل المغربي زمن المرابطين والموحدين، حيث يسود المذهب المالكي ولكن بتعصب شديد، على قاعدة “من قبل واليته ومن تولى أرديته” التي صرح بها عبدالله بن ياسين.
ومن المهم التذكير هنا بأن عبد الله بن ياسين كان قد أرسل إلى المنطقة داعية، ثم دعا إلى الجهاد وأقام دولته.
بعد أن ينعم القوم بالرفاه وتستقر لهم الأمور يبدأ التنافس على الزعامة، وتظهر الصراعات التي تتزامن مع اختلال الميزان الاقتصادي، وتتدخل النساء في الحكم على غير المعتاد، يسوء الوضع السياسي وتفتقد العدالة في دولة المرابطين، وتصير للفقهاء سطوة على الناس بينما يتقربون من الحاكم. تموت العلوم ولا يتبقى إلا شيء من الحديث، فإن جدت قضية لم يجدوها في الحديث تاهوا.
و توظف كل هذه السلبيات من قبل بن تومرت كي يقيم دولته دولة الموحدين. فتكون بذلك الدولة الثانية التي تربط الدعوة الدينية بإقامة الدولة، وسيصبح هذا الربط تقليدا تتبعه مختلف التيارات والمذاهب، كون المغاربة اهتموا بتهيئة الأذهان لتأسيس دول بدل الخوض في الجدليات الكلامية كالمشارقة.
رسخ الموحدون التوحيد مع نفي التجسيم الذي اتهموا به المرابطين، و نفي التشبيه والتكييف و رسخوا الإمامة وكفروا من لايؤمن بها و غرسوا العقيدة المهدوية.
وفتحوا المجال للخوض في علم الاعتقاد، وعملوا على جلب العلماء، ومما يحسب لهم كفاءتهم في تحقيق تآلف بين اللسان العربي واللسان الأمازيغي، وتهيئتهم البيئة المناسبة لإحداث تحولات ثقافية وفكرية هامة.
يسهب الكاتب هنا في وصف طبيعة شخصية بن تومرت وأسلوبه الذي استخدم فيه المسائل الفقهية والدينية و وظفها لغايات سياسية واجتماعية.
العقل المغربي في عصر مابعد الموحدين والدولة المرينية، هو عنوان الفصل الرابع وهنا سنجد انتقال المجتمع من ثقافة الانفتاح الموحدي إلى ثقافة التقليد وعلوم المختصرات.
كما أن الأفق سيضيق أمام العقل نتيجة لمناهج قائمة على التلقين لا على الحوار والنقاش، وتنتشر ثقافة المريد وعلم اليقين بلا براهين.
وتتسبب الأقدار بنكسة كبرى تزيد الطين بلة، ألا وهي موت الكثير من العلماء بالطاعون، إضافة إلى غرق آخرين لتصل الخسارة إلى مايقرب من أربعمائة عالم.
تحاول الدولة المرينية تزيين بلاطها بالعلماء، تنتشر الربط والزوايا وتسجل مساهمتها في تشكيل العقل المغاربي، و تعطى مكانة خاصة للأشراف على المستوى السياسي والاجتماعي، ويتركز الاهتمام بتحفيظ القرآن واللسانيات والعلوم الشرعية وبعض جوانب الفلسفة في مستواها الذي يشحذ الذهن فقط في ترتيب الأدلة، فتضيق وتضعف.
تختفي الدراسات السياسية والاقتصادية، ويؤدي هذا إلى انحطاط في هذين الجانبين. كما تختفي أمهات الكتب، وتنتشر المختصرات والنقل بدون تمحيص، ويسود التلقين والخضوع للأولياء والشيوخ، وتتقهقر الثقافة العلمية، وتسود محلها ثقافة الخوارق والمشي على الهواء، والكرامات، ويؤدي هذا الوضع المتردي إلى البحث عن النجاة الفردية والهروب من الدنيا ومن أهلها ثم الانعزال، ومما يذكر هنا أن حتى ابن خلدون لم ينج من هذا إذ لم ينتقد التصوف في حين انتقد الفلسفة.
في تونس الحفصية نلاحظ ارتفاع الخط البياني في الساحة الثقافية، فيتحسن الدور الذي تؤديه المدارس، و يستقدم العلماء من الأندلس، كما يأتي آخرون من المشرق محملين بأساليب تعليمية مبتكرة فينعكس أثرها على الطلاب.
ويختلف دور الزوايا إذ صارت تقوم تهيئة الطالب للالتحاق بجامع الزيتونة، ويستقر الأمر للمذهب المالكي. ثم تصل أصول الفقه متأخرة قليلا مع عودة ابن زيتون من المشرق.
وتسجل هذه الفترة اهتماما كبيرا بالنحو، أما العلوم الفلكية فكانت حكرا على طبقة معينة.
واعتمدت مناهج التعليم التونسية الحفصية على الفهم والتفاوض عوضا عن الحفظ، لكنه في المجمل تميز بالاختصار كالزمن المريني ولم يعتمد الابتكار. و لم يسجل علم الكلام ازدهارا بارزا، وقد يكون هذا استجابة لتوصية ابن خلدون!
بعد هذه الدول تكاد المنطقة تختفي من المسار التاريخي الفاعل، وتأتي مرحلة الاستعمار الفرنسي للجزائر، لتبدأ معها مظاهر النهضة و الإصلاح السياسي وظهور بعض المصلحين الفاعلين بهدف حماية الهوية، والبدء في إظهار الوجه البشع للمستعمر من خلال طروحاته.
تتأسس المدارس وترسل الوفود إلى أوروبا للتحصيل العلمي. وتسجل بعض المحاولات لنهضة فكرية وعلمية.
الفصل السادس يتناول ثلاثة نماذج من أعلام النهضة الحديثة في كل دولة من دول المغرب العربي، ويفصل لنا الكاتب المسيرة الثقافية لكل منهم، على اعتبارهم روادا للانبعاث والتجديد والاصلاح، وقد كان هؤلاء يعبرون عن حركة الإحياء الاسلامي بالدرجة الاولى و علاقتها بأوروبا في الدرجة الثانية، وفقا لسياق عصرهم وثقافتهم ومرحلة التدرج التاريخي في استنهاض الامم.
فنجد في المغرب الأقصى ابراهيم التادلي، محمد عبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي.
وفي تونس نتعرف على نشاطات خير الدين التونسي، وسالم بوحاجب، وعبد العزيز الثعالبي.
اما في الجزائر فسيلقى الضوء على فعاليات عبد القادرالمجاوي، وعبد الحميد بن باديس، ومالك بن نبي.
في الفصل السابع يناقش الكاتب ظهور النزعات الفكرية المتاثرة بتيارات الفكر العربي والمتمثل في الانخراط في الحداثة والمعاصرة.
ويورد لنا مواقف المنبهرين بكل ما يأتي من أوروبا، وهي فئة واسعة رأت أنها مدينة لفرنسا لأنها نقلتهم من حالة الفوضى إلى مصاف المجتمعات المتحضرة، معتبرا هذا من تأثير الوجود الاستعماري.
وفي مقابل هؤلاء سنجد مواقف القوميين العرب الذين أثروا في بعض الأحزاب المغاربية، على الرغم من اختلاف البيئة بين المنطقتين.
ويرجع ذلك حسب الكاتب، إلى تبعية المغرب التاريخية للمشرق.
وسنلاحظ أن القاسم المشترك بين دعاة التغريب ودعاة القومية العربية، هو البحث عن الحلول خارج الذات، كما جمعهم عنصر آخر وهو ضعف تمددهم الشعبي مما تسبب قي فشلهم.
في هذه المعمعة يظهر مصطلح الاصالة والمعاصرة في محاولة للتوليف بين هذا وذاك، كما يظهر اتجاه “حتمية الحداثة”.
واللافت أمام كل هذا الصراع النخبوي أن الجماهير تظل وفية لخط سير خاص بها مكتفية بتجربتها المختزنة في الذاكرة.
الفصل الثامن هو فصل بالغ التشويق إذ يقدم لنا رؤية مغاربية للحضارة، ويفصل لنا في حمولات مصطلح الحضارة عند مالك بن نبي و ابن خلدون، مع الوقوف على نقاط التوافق والاختلاف بينهما. ليخلص إلى أن وظيفة الحضارة عند بن نبي هي أوسع مجالا وتعطي الأمل في المستقبل أما ابن خلدون فيعتبر الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره.
الفصل التاسع فصل شائك إذ يتحدث عن الهوية المغاربية بين الثابت والمتغير، ويخوض الكاتب في مشكلة الهوية بين الأمازيغية والعربية والتيارات التي تتجاذب هذه القضية الحساسة و التي تظل منفذا خطيرا قد يوظف لغايات غير شريفة من قبل جهات خارجية لاتخفي حماسها الذي يصل حد التحريض.
ونصل إلى الخاتمة التي يؤكد الكاتب من خلالها أن شعوب المنطقة المغاربية ليست عاجزة عن إنتاج فكر أصيل وما وجود العديد من النماذج المغاربية إلا دليل على الإمكان، لكن شيئا في ثقافتنا لم يكن على مايرام في موجات عقلنا المبدع وهذا مايحول دون أن يقوم المغاربة بكامل مسؤولياتهم .
ومن خلال هذه الرحلة البحثية سيصل الكاتب إلى أن حياة الفكر واحدة، فحيث يزدهر الديني يزدهر الفلسفي، حين تحترم حرية الفكر والعكس صحيح.
أما مايشاع عن اضطهاد الدين للعقل واضطهاد الفكر الفلسفي للدين فلا يستند إلا إلى مبررات أيديولوجية تفتقد النظرة المحايدة.
فما ازدهر الفكر الفلسفي في الزمن الإسلامي إلا في ظل ازدهار علم الأصول والأبحاث الكلامية والفقهية.
في المجمل هو كتاب يضم بين دفتيه الكثير من المعلومات والأحداث والتحليلات وبينما يبحث الكاتب عن جواب سؤاله، يكون القاريء قد حصل على أكثر من ذلك بكثير، الجهد المبذول واضح بجلاء وأنا على يقين بأن أي اختصار مهما كان بليغا لن يفيه حقه، وأن أية قراءة مهما كانت عميقة ستظل قاصرة.
*كاتبة سورية مقيمة بكندا
تعليقات الزوار ( 0 )