Share
  • Link copied

قراءة في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2532 بخصوص جائحة كوفيد-19

بعد صمت طويل وانتظار أطول، أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 2532 (يوليوز 2020) حول جائحة “كوفيد-19″، انطلاقا من مسؤوليته الأساسية في حفظ السلم والأمن الدوليين وفي إطار مقاصد الأمم المتحدة. وقد جاء هذا القرار محمّلاً بعبارات القلق والتخوف من أثر وباء كورونا المستجد على السلام العالمي، خاصة في الدول التي تشهد استفحال النزاعات المسلحة. كما شدد هذا القرار على ضرورة التعاون والتضامن الدوليين على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، في نطاق التنسيق الشامل والمتكامل. وقد نوّه المجلس بالجهود التي يبذلها الأمين العام للأمم المتحدة وبالخطة الإنسانية العالمية لمواجهة كوفيد-19 التي تضع الإنسان في صدارة أولويات الأمم المتحدة. 

كما طالب مجلس الأمن “بوقف عام وفوري للأعمال العدائية في جميع الحالات المدرجة في جدول أعماله” والدخول في هدنة إنسانية لمدة 90 يوما متتالية، انطلاقا من تخوفه من أن “النطاق غير المسبوق لجائحة كوفيد-19 من شأنه أن يعرض السلم والأمن الدوليين للخطر”، غير أنه استثنى من هذا الوقف الفوري للأعمال العدائية والهدنة الإنسانية “العمليات العسكرية التي تُنفّذ ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وتنظيم القاعدة وجبهة النصرة، وسائر الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطة بتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية، وغير ذلك من الجماعات الإرهابية التي حددها مجلس الأمن”. بالإضافة إلى ما تقدم فقد طالب بعثات الأمم المتحدة ببذل مزيد من الجهود من أجل التصدي للجائحة، وأوصى الأمين العام للأمم المتحدة بالتأكد من قيام جميع الجهات ذات الصلة في منظومة الأمم المتحدة، بتسريع عملها في التصدي لجائحة كوفيد-19.

تحرك مجلس الأمن هذا الذي جاء متأخرا في وقت كان فيه المجتمع الدول أحوج ما يكون إلى سلطة عليا تحوز سلطة القهر يبعث على أكثر من تساؤل بعضها مرتبط بأسباب هذا الصمت الطويل، وبعضها الأخر يتعلق بمضمون وأبعاد هذا القرار الذي يبقى إيجابيا في جميع الأحول.

لماذا تأخر مجلس الأمن في إصدار قرار حول الجائحة ؟

يعتبر صمت مجلس الأمن طويلا وتحركه متأخرا بالنظر إلى الكيفية التي تعاطى بها مجلس الأمن في سنة 2014 مع وباء إيبولا، حيث أصدر القرار 2177 (2014)، الذي صنّف وباء “إيبولا” كتهديد للسلم والأمن الدوليين، في وقت لم يكن فيه تدخل مجلس الأمن منتظرا، كما لم تكن الإشكاليات الصحية تدخل حتى ذلك الحين ضمن تهديدات السلم والأمن الدوليين. أمام هذه السابقة التاريخية  بات المجتمع الدولي ينتظر تدخلا مستعجلا من مجلس الأمن للتعامل مع الانتشار الواسع لجائحة “كورونا المستجد”.

 كما يرجع انتظار تدخل مجلس الأمن لحيازته للأدوات القانونية اللازمة لتنظيم استجابة شاملة وفرض تعاون دولي وتنظيم عمل مختلف المؤسسات الدولية عن طريق استصدار قرارات ملزمة التطبيق وخلق ممرات إيصال المعدات الطبية وغيرها من البدائل الممكنة، بما يساعد على توحيد الجهود الدولية لمكافحة وباء “كوفيد 19″، غير أن ما كان سائدا طيلة الفترة الماضية هو صمت في التصريحات وشلل في التحرك.

وبتحري الدوافع التي حالت دون اجتماع مجلس الأمن، نجد أن من بين ما تم تسريبه للصحافة، أن السبب وراء هذا التأخير هو تشبُّث ممثل روسيا الاتحادية بالإجراءات المسطرية، بقوله بأنّ ميثاق الأمم المتحدة لم ينص على تنظيم اجتماعات افتراضية واتخاذ قرارات عن بعد. فحسب التحجج الروسي فإن المادة 28 الفقرة 2 من الميثاق التي نصت على أنه “لمجلس الأمن أن يعقد اجتماعات في غير مقر الهيئة إذا رأى أن ذلك أدنى إلى تسهيل أعماله”، لا تتحدث إلا عن الاجتماعات الفعلية وليست هناك أية إشارة لإمكانية اتخاذ قرارات عن بعد، لاسيما وأن شكليات التصويت تقتضي رفع اليد في إطار اجتماع فعلي، غير أن هذه الذريعة الشكلية قد تصطدم بوقائع قانونية وممارسات سابقة لمجلس الأمن تكشف ضعفها. فالتشبث بالشكلية المسطرية ليس سمة مميزة لعمل مجلس الأمن الذي يظل جهازا سياسيا ملزما بالاستمرارية في عمله، حيث تنص المادة 28 الفقرة 1 من الميثاق على ما يلي : “ينظم مجلس الأمن على وجه يستطيع معه العمل باستمرار، ولهذا الغرض يمثل كل عضو من أعضائه تمثيلا دائما في مقر الهيئة”. كما تشير المادة الأولى من النظام الداخلي المؤقت لمجلس الأمن على عقد “اجتماعات مجلس الأمن، باستثناء الاجتماعات الدورية المشار إليها في المادة 4، بناء على دعوة من الرئيس في أي وقت يرى فيه ذلك ضروريا، على ألا تتجاوز الفترة التي تتخلل الاجتماعات أربعة عشر يوما.

هذا التحفظ الشكلي قد يبدو مفهوما ومبررا إذا تعلق الأمر ببعض أجهزة الإتحاد الأوروبي على سبيل المثال التي قد تتعرض قراراتها للإلغاء، عند الاقتضاء، من قبل محكمة  العدل للاتحاد الأوروبي وهو ما لا يتهدد عمل مجلس الأمن الذي لا يخضع لأي رقابة على قراراته. وقد كان مجلس الإتحاد الأوروبي قد أقدم في 23 مارس 2020 على تعليق مؤقت للعمل بنظامه الداخلي بالنظر إلى صعوبات التنقل، داخل الاتحاد الأوروبي، بسبب فيروس كورونا. لذلك يبدو التشبث الروسي بشكلية الاجتماع الفعلي غير واقعية، بل وتمثل خرقا للمادة الأولى من النظام الداخلي المؤقت لمجلس الأمن، غير أن إعلان مجلس الأمن في 30 مارس 2020، على شبكة التواصل الاجتماعي “تويتر”، بالتوافق على تبني أربع قرارات بالإجماع، يَجُبُّ ما سلف من ذكر عن الاعتراض الروسي. لقد اهتدى مجلس الأمن، في اجتماعه في 30 مارس 2020، إلى التوافق حول مسطرة لمعالجة القضايا الجارية، بتصويته على أربع قرارات، دون أن يطرح وباء “كوفيد 19” ضمن أولوياته. ومن تم يبدو أن التحجج الروسي الذي لم يحل دون انعقاد اجتماع تصريف الأعمال الجارية، كشف عن عدم وجود رغبة في الاجتماع بخصوص وباء “كورونا المستجد”، وهو ما أيدته الصين.

وفي أوج الأزمة الصحية، في بعدها العالمي، كان من الممكن التفكير بأن أعضاء مجلس الأمن، الدائمين منهم على وجه الخصوص، كانوا منهمكين في مكافحة “الوباء” في دولهم. هذا المنطق، إن كان التفكير فيه ممكنا، فهو يكشف عن خلل في منظومة الأمم المتحدة التي تبدو قائمة على فكرة “أنه لا يمكن للكوارث الطبيعية أن تمنع الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن عن تأمين استقرار العالم”. غير أن تطور الوضعية الوبائية كشف أن وراء الإثارة غير المقنعة للمانع الشكلي لاجتماع المجلس تجاوزا واضحا وبينّاً لنظام التعاون ألأممي المتعدد الأطراف التقليدي. فمنذ اكتشاف الحالات الأولى للوباء، كان التجاوب في البداية انفراديا من قبل الدول : استرجاع المواطنين، إعلان حالة الطوارئ، إغلاق الحدود….إلخ، وبعد ذلك أضحى تعاونا ثنائيا : إرسال الصين لمساعدات لايطاليا وفرنسا، تعاون فرنسي-إيطالي. وبعد حوالي سبعة أشهر من الصمت، أصدر مجلس الأمن القرار 2532 (2020) الذي حث على التعاون والتضامن الدوليين. فما هي أبعاد هذا القرار؟

ما هي أبعاد القرار 2532 (2020)؟

لقد استند مجلس الأمن في إصدار هذا القرار إلى مقتضيات ميثاق الأمم المتحدة، ولاسيما المادة 24 (الفقرة 1) التي يعهد من خلالها “أعضاء تلك الهيئة إلى مجلس الأمن بالتبعات الرئيسية في أمر حفظ السلم والأمن الدولي ويوافقون على أن هذا المجلس يعمل نائبا عنهم في قيامه بواجباته التي تفرضها هذه التبعات”، والمادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة التي تعتبر حفظ السلم والأمن الدوليين أول مقاصد الأمم المتحدة، كما تحث على تحقيق التعاون الدولي لحل الإشكالات الدولية، غير أن ما يثير الانتباه في هذا الصدد هو عدم إشارة القرار إلى الفصل الذي استند عليه مجلس الأمن في إصدار القرار: فهل يتعلق الأمر بالفصل السابع من الميثاق الذي يعطي لقرارات مجلس الأمن قوة إلزامية أم على الفصل السادس من الميثاق التي يوفر ميكانيزمات تقوم في أساسها على التراضي والتعاون؟

ما يمكن أن نستشفه من مضمون وفقرات القرار 2532 أن مجلس الأمن قد ارتكز على الفصل السادس من الميثاق، وآيةُ ذلك اعتباره أن النطاق غير المسبوق لجائحة كوفيد-19 “من شأنه أن يعرض صون السلم والأمن الدوليين للخطر”. فاستخدام تعبير “من شأنه أن يعرض…” يحيل مباشرة على المادة 34 من الفصل السادس من الميثاق. هذا التعبير يختلف عن الصياغة الواردة في المادة 39 من الفصل السابع من الميثاق التي تتحدث عن “وقوع تهديد للسلم والأمن الدوليين”، وليس عن إمكانية حدوثه. بالإضافة إلى ذلك حثّ مجلس الأمن بشكل متكرر على قيم “التعاون” و”التضامن” دون إشاراته إلى تبعات عدم التنسيق الدولي، ومعلوم أن التضامن يبقى فعلا تطوعيا وليس عملا إجباريا.

من جهة أخرى “أهاب” مجلس الأمن بجميع الأطراف في النزاعات المسلحة إلى الدخول فورا في هدنة إنسانية لمدة 90 يوما ليتسنى إيصال المساعدات الإنسانية وتنفيذ عمليات الإجلاء الطبي. واستثنى العمليات العسكرية التي تُنفّذ ضد المجموعات الإرهابية.

نتوقف هنا عند ملاحظتين : الأولى تتعلق باللغة المستخدمة من قِبَل مجلس الأمن الذي استعمل صيغة المناشدة (يهيب) لجميع الأطراف، ومعلوم أن المناشدة في اللغة العربية لا تبعث على الإكراه، وهي أقرب إلى الاستجداء منها إلى الأمر. وبتقصي اللغة المستخدمة في النصين الفرنسي والانجليزي نجد أن الترجمة العربية للنص لم تبتعد كثيرا عن مضمون النصين الأصلين (الإنجليزي والفرنسي)، حيث جاءت أفعال calls (ينادي)  demander (يطلب) في النصين الإنجليزي والفرنسي كمقابل لفعل “يهيب” في النص العربي، والمعاني المذكورة جميعها تخلو من لغة القسر التي يتحدث بها مجلس الأمن من منطلق الفصل السابع من الميثاق.

الملاحظة الثانية التي تسترعي الانتباه في هذا القرار تخص استثناء مجلس الأمن للعمليات العدائية المُنفّذة ضد تنظيم الدولة في العراق والشام وتنظيم القاعدة وجبهة النصرة وغير ذلك من الجماعات الإرهابية المُصنفة من قِبَل مجلس الأمن. لهذا المنطق ما يبرره بالتأكيد، وهو عدم السماح للمجموعات المسلحة المتطرفة باستجماع قواها وإعادة تنظيم صفوفها، لكن الرؤية المتبصّرة لخريطة النزاعات المسلحة الدولية تكشف عن أنّ في مجمل النزاعات الدولية في العالم نجد جماعة مسلحة متطرفة مرتبطة بشكل أو بأخر بالمجموعات المذكورة في القرار 2532 (2020)، أو المُصّنفة ضمن قائمة الإرهاب الدولي، سواء في إفريقيا (ليبيا، موريتانيا، تشاد، مالي، بوركينفاسو والنيجر) أو في منطقة الشرق الأوسط (تنظيم الدولي في العراق والشام، جبهة النصرة، القاعدة في اليمن، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين)، وأفغانستان (حركة طالبان)، وفي كشمير،  ما يعني أن أغلبية النزاعات المسلحة في العالم غير معنية بوقف إطلاق النار. فحتى عندما تشدد القرار في طلب وقف إطلاق النار أَفْرَغَ مجلس الأمن محتوى هذه المطالبة من مضمونها.

(*)أستاذ زائر بكلية الحقوق عين الشق-الدارالبيضاء وباحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي العام.

Share
  • Link copied
المقال التالي