د. حمزة الكتاني
ودع المغرب منذ أسبوعين، في صمت، إحدى بواكير المرأة المغربية المثقفة، التي ناضلت، وأعطت الكثير، من أجل تعليم المرأة، وتكوين جيل من المثقفات، ثقافة عصرية، غير منفصلة عن دينها وهويتها وتاريخها.
فقد توفيت ليلة الخميس 28 ذي القعدة الحرام عامه 1440هـ، الموافق لغرة شهر أوت/ أغسطس 2019 الجاري، في ضواحي مدينة تيفلت الأستاذة المربية؛ السيدة سعاد بنت العلامة محمد الزمزمي ابن الإمام محمد بن جعفر الكتاني الحسني، ونظرا لعدم اعتناء المنابر الإعلامية بالحديث عن هذه المرأة المجاهدة، فقد جمعت في هذه السطور القليلة مجموعة من الأخبار المتعلقة بها، رحمها الله تعالى، مما يجعلها حلقة مهمة في تاريخ وتراجم العالمات المغربيات في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، ويرد بعض الوفاء والجميل لهذه السيدة المحترمة.
فهي أستاذة مثقفة، من الجيل الأول من النساء اللواتي درَسنَ بجامعة القرويين بفاس، وممن ساهمن في الحركة العلمية في فترة من عمرها.
ولدت بمدينة فاس، أوائل ربيع الأول عام 1351هـ، ونشأت في بيئة علمية ووطنية، فإخوانها محمد الكامل ومحمد المنتصر بالله، ومحمد الناصر لدين الله، كلهم من العلماء، وكذلك أعمامها محمد المكي، وإدريس، ومحمد الطائع، وسعد الدين، وعز الدين، ويحيى، كلهم أساتذة علماء، وطنيون، مجاهدون من أجل استقلال البلاد، وازدهارها.
ووالدتها من بيت العراقي الأشراف الحسينيين، جمعت مع شرف الأصل، وعراقة البيت، كون أمها؛ السيدة كنزة الحلو، من نساء الأعمال الكبيرات في وقتها، كانت شركاتها منتشرة بين المغرب وبريطانيا، مع التمسك بالدين، والتعلق بآل البيت الطاهرين، ومحبتهم محبة عظيمة.
حضرت الأستاذة سعاد، دروسها الأولى على والدها الإمام محمد الزمزمي الكتاني، الذي كان يُعنى بتدريس بناته في المنزل، وتعليمهن القراءة والكتابة، والضروري من علوم الدين، وتثقيفهن بما يحتجنه في حياتهن وتربية أبنائهن.
كما أخذت على والدتها الشريفة الجليلة عائشة بنت الخضر العراقية الحسينية، التي نشأت في بيت الغنى والعز والفخار، والشرف، مع الدين المتين، والتعلق بسيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
وبعد الخطاب الشهير للملك محمد الخامس سنة 1367هـ، الموافق 1947م، بطنجة، الذي دعا فيه لتعليم المرأة، وضرب المثل بابنته الأميرة عائشة؛ تأثرت لذلك كثيرا، واشرأبت للدراسة وطلب العلم، غير أن جو أسرتها المحافظ جدا كان يرفُض خروج النساء للتعلم خارج بيوتهن، خوفا عليهن من موجة التغريب التي كانت تحف بالمجتمع، فناضلت وقاومت هذا الموروث المحافظ، حتى تطوع عمها الأستاذ سعد الدين الكتاني – من علماء جامعة القرويين – لتعليمها في بيتها، مع انتسابها للقسم الابتدائي بجامع القرويين.
وبعد سنتين كانتا كلهما مثابرة وعطاء، توفي إثرها والدها العلامة محمد الزمزمي الكتاني، اجتازت الامتحانات الابتدائية بنجاح وتفوق، وتحولت للدراسة الإعدادية بجامعة القرويين، لتجتازها بنجاح وتفوق أيضا، ثم انتقلت للدراسة بالقسم الأولي ثم الثانوي لجامع القرويين الأعظم. وكان حينذاك لا يصل للقسم الثانوي بجامعة القرويين إلا النبغاء والمثابرون.
وبالرغم من معارضة مجتمعها الخاص لذلك إلا أنها واظبت على الدراسة، والتعلم، حتى نالت نصيبها من ذلك، بحيث كانت من القلة من النساء اللواتي درسن حينذاك بجامعة القرويين.
فأتقنت القراءة والكتابة، والنحو والصرف والأدب، والضروري من علوم الدين؛ فقها وعقيدة، وغير ذلك، مع الاطلاع على الثقافة المعاصرة، وكتابات الأدباء السابقين والمحدَثين، والتاريخ والجغرافيا، وغير ذلك، بحيث اعتُبرت من النساءالواسعات الاطلاع، الواعيات، الحائزات لمختلف صنوف المعرفة، فقد كانت نهمة على المطالعة، والتعرف على كل جديد، متابعة للصحافة السياسية، والمجلات العلمية والأدبية التي كانت تكتب فيها النخبة المثقفة ذلك العصر، وتستحضر تلك الأبحاث، وتحفظ الكثير من الشعر وغيره.
كما أنها شملتها مجموعة من إجازات العلماء الذين أجازوا أسرتها؛ كمحدث الحجاز الشيخ عبد الستار الدهلوي، وإمام الحرم النبوي الشيخ عبد القادر شلبي، ومحدث الهند الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني، في آخرين.
ثم التحقت بالتدريس في بعض المدارس بفاس، واستمرت سنوات أخذت عليها فيها نخبة من الفتيات، فكانت من الأستاذات الأوائل اللواتي عملن على تدريس المرأة المغربية، وإخراجها من ظلمات الجهل والأمية، مع الاستقامة التامة، والحفاظ على حجابها وعفافها ودينها.
وقد صادفت وهي في أوائل شبابها، وفاة والدها الشيخ محمد الزمزمي الكتاني، وبقاء والدتها مع أبنائها الصغار. فتفرغت مع والدتها وأختها الشريفة شمس الضحى، للخياطة، والنسج، وبيع ذلك، علاوة على عملها في التدريس والتعليم، فكان لجهادهن أثر كبير في الحفاظ على تلك الأسرة الطيبة، والدفع بشبابها لنيل الدرجات العلمية العليا بفضل الله تعالى وكرمه.
ثم تزوجت من الأستاذ مَحمد ابن الرياح، الذي كان مسؤولا عن قسم حزب الاستقلال بمدينة وجدة، ثم باشا للمدينة، وأنجبت منه ولدين وبنتا: محمد، ويوسف وليلى، فأمضت مدة من الزمان بمدينة وجدة، كانت ممتلئة فيها نشاطا وعطاء، وتدريسا وتعليما، غير أن الرياح جرت بما لم تشته سفنها، فانفصلت عن زوجها ورجعت إلى مدينة سلا على غير الحال الذي فارقت أسرتها به، فأمضت بمدينة سلا جل ما بقي من حياتها، فدرَّست مدة في بعض مدارس الرباط، ثم آثرت الانزواء والخمول، والابتعاد عن المجتمع، مع توالي الأمراض عليها.
كانت الشريفة المذكورة قوية الشخصية، صادقة النية، صارمة في مبادئها، ذات أنفة، وعزة ومنعة، وسؤدد، ونخوة هاشمية، غير أنها تبطن في ذلك أنوثة فائضة، ومشاعر جياشة، وعطاء يستحق التقدير، في وقت كادت تنعدم فيه النخوة والمروءة، فأثر ذلك عليها سلبا، وتقلب بها الزمان تقلبات، تشتد عواصفها وتخمد، وتتلون أيامها وتهمد، ولكن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يبطل عمل المصلحين.
فاستوطنت منطقة الهرهورة في ضواحي الرباط، وبقيت بها مدة إلى أن نادتها التربة ببادية مدينة تيفلت ضواحي الرباط، حيث كانت في زيارة استجمام، فتوفيت ليلة الخميس، غرة ذي الحجة الحرام، عام 1440 للهجرة، وصلي عليها ظهرا، وأقبرت هناك مُغَرَّبة. رحمها الله تعالى.
وسيبقى اسم الأستاذة سعاد الكتاني، أيقونة بين الرعيل الأول من العالمات اللواتي شاركن في بناء المغرب الحديث، وبذلن الكثير من أجل خدمة وطنهن ثقافيا وتعليميا، فرحمها الله تعالى رحمة الأبرار، وأسكنها فسيح جناته.
تعليقات الزوار ( 0 )