يومان بعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء على دستور الفاتح من يوليوز، خلال سنة الربيع الديمقراطي 2011، الذي هبت رياحه على دول المنطقة المسماة جغرافيا ب”العالم العربي”، لم نتردد في نشر مقال تحت عنوان “صفحة جديدة من النضال الديمقراطي”، معتبرين أن المغرب قد فتح فعلا صفحة جديدة من زمنه السياسي، لكنها تبقى مجرد صفحة بيضاء، يمكن أن تكتب عليها قوى التغيير ما تشاء، كما يمكن أن تضع عليها القوى المضادة لهذا التغيير ما استطاعت إليه سبيلا من حروف الفساد وكلمات الاستبداد و جمل من الضرب تحت الحزام.
لقد كانت بنود دستور سنة 2011 قابلة لما يسميه الأستاذ عبد الله العروي بالتأويل الديمقراطي أو التأويل السلفي. وبما أن التأويل هو سلطة، وكل سلطة هي بسط للنفوذ والهيمنة، بعد خوض الصراع ضد الإرادات المضادة، فقد كان الأمر يتعلق الأمر بافتتاح صفحة جديدة من الصراع السياسي بالمغرب، القوي والحاد، بين إرادتين: إرادة التفسير الديمقراطي للنص الدستوري من جهة، و إرادة التأويل السلفي لفصول هذا النص من جهة ثانية. وقد كان هذا الصراع قابلا لكل النتائج و الاحتمالات، إذ يمكن أن تكسب فيه الرهان قوى التقدم والتطور التغيير، وينتصر معها الأمل الذي دفع عددا من الهيئات والنخب إلى التصويت ب”نعم”، من أجل البناء المشترك، بين الشعب والعرش، لثورة ديمقراطية هادئة، تؤسس لانطلاق قطار المغرب بخطوات ثابتة نحو محطة الأمان الديمقراطي.
لكن احتمال انتصار إرادة التأويل الديمقراطي، لم يكن مسوغا لنا لإلغاء الاحتمال المضاد، وهو أن تستبد بالأمر القوى المضادة للتغيير، وهي في مجملها قوى الريع والاستفادة، والفئات الانتهازية التي تحوم في فلكها، التي، لم يكن من المتوقع أن تستسلم لإرادة التغيير، ومسايرة تيار الإصلاح الديمقراطي، إذ كشرت عن أنيابها مبكرا، ولم تتردد في توظيف كل أسلحتها، الخفيفة و الثقيلة، “المشروعة” و “غير المشروعة”. لتتحالف موضوعيا مع القوى المتطرفة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لتفرض أجنداتها الخاصة، على كل حركية شعبية تواقة للإصلاح التدريجي والهادئ من داخل المؤسسات القائمة.
و من أجل كسبها الرهان، كان يتعين على القوى السياسية المؤمنة بإمكانية الإصلاح من الداخل، أخذ زمام المبادرة بيدها، و التخلص من ثقافة سياسية سادت عند عدد من قادتها، تتوزع بين انتظار التعليمات وبين التقاط الإشارات…الخ. ذلك أن دستور سنة 2011، على كل ما يمكن أن يسجل عليه الملاحظون من عيوب ونقائص – علما أنه لا وجود لدستور كامل الأوصاف، حتى في أرقى الديمقراطيات الغربية – قد ارتقى بالفاعلين السياسيين إلى درجة شركاء حقيقيين للمؤسسة الملكية في صناعة جل القرارات الإستراتيجية للبلاد، في الوقت الذي منحهم السلطة الكاملة على ما دونها من قرارات قطاعية و جهوية و محلية.
لقد كان المغرب في حاجة إلى نخب سياسية تمارس السياسة بمنطق المبادر والشريك، وتتحرر من لغة التابع المنفذ والخادم المطيع، و هو تمرين ديمقراطي، صعب و مرير. إنه أشبه بمحاولة طفل يريد تعلم المشي على قدميه اعتمادا على قدراته الذاتية، والتحرر نهائيا من عربة المشي، مع ما يرافق مثل هذه المحاولة من سقوط و ضربات وآلام.
إن تمرينا كهذا، مهما كان ثمنه مكلفا، كان القادر وحده أن يحرر قادة و أطر أحزابنا السياسية من عطالتها السياسية، و أن ينقلها من حال الوصاية و القصور الناتجة عن هيمنة منطق”الريع السياسي” إلى حال “الإنتاج السياسي” للمشاريع و المبادرات الوطنية الخلاقة، مما يعيد للسياسة معناها النبيل بما هي فن لمعالجة أمراض الواقع.
لا شك أن مراكز النفوذ ومقاومة التغيير، لم تدخر جهدا لإبقاء السياسة رهينة ” عربة المشي” حفاظا على مصالحها الاجتماعية والاقتصادية، كما أنها لن تتردد في التصدي لكل ما من شأنه أن يزحزح قبضتها على أرزاق العباد وخيرات البلاد. وقد وظفت كل الوسائل والإمكانات والفرص التي أتيحت لها في الدفاع عن نفوذها و منافعها.
لقد كان للردة على مخرجات الربيع الديمقراطي في دول الشمال الأفريقي، والوضع الدرامي للقطر السوري، والتناحر الدامي بين أطراف الصراع الليبي، وما رافقه من سياق إقليمي ودولي شكل حاضنة للثورات المضادة، خلق مناخ عام غير صديق لا للديمقراطية ولا لحقوق الإنسان؛ سوغ للقوى السياسية المغربية، المؤمنة بالمشاركة السياسية، تبرير جنوحها نحو التأويل السلفي والتقليدي للدستور، وتقاعسها عن التوظيف الجيد لورقة المشاركة السياسية، والتي كانت فعلا ورقة رابحة، لكنها ضيقت على نفسها هوامش المناورة التي فتحها النظام السياسي نفسه، من خلال إجراء انتخابات هي الأكثر نزاهة في التاريخ الانتخابي المغربي.
ورغم ما عرفه المغرب خلال انتخابات 2011 و2015 و2016 من عزوف سياسي، فإن نتائج الاقتراع جسدت إلى أقصى حد ممكن إرادة الناخبين الذين توجهوا إلى صناديق الانتخابات، ولم يشك أي تيار سياسي من أي تدخل أو تزوير في هذه النتائج.
لقد كان منتظرا من القوى الوطنية الممثلة في البرلمان ومجالس الجهات والمدن، توظيف قوة موقفها الانتخابي في تعميق الإصلاح الديمقراطي، ووضع قواعد جديدة للممارسة السياسية قائمة على النزاهة والشفافية والتمثيلية الحقيقية للإرادة الشعبية، وذلك بخوض معركة وضع لوائح انتخابية تعبر عن حقيقة القوة الناخبة، وإعادة تقطيع للدوائر الانتخابية تضمن تكافؤ الفرص بين الأقاليم و الجهات، بناء على معايير واضحة وسليمة.
كما كان متوقعا من هذه القوى أن تفي بوعودها التي قطعتها مع الفئات الناخبة، وتعمل على تطبيق برامجها الانتخابية التي على أساسها أحرزت ثقة الناخبين، والتي أجمعت كلها على محاربة الرشوة والريع والفساد، وتوفير بنية قانونية ومؤسساتية حاضنة للمنافسة النزيهة والشريفة، وضامنة لتكافئ الفرص بين الجميع، وفق مقتضيات دولة الحق والقانون.
لكن تلك القوى السياسية أخلفت موعدها مع التاريخ، وتعايشت مع الوضع، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من مشاكله المزمنة، مما ساهم في خلق أزمة ثقة بين الطبقة السياسية والفئات الشعبية، وعمق أكبر نقطة ضعف يمكن أن تصيب أي تجربة ديمقراطية، وهي العزوف السياسي، وخاصة عزوف الفئات الشعبية التي تحظى بنصيب عال من التعليم والثقافة، والتي تعيش أوضاعا اقتصادية أقل صعوبة من الفئات الفقيرة جدا، ولكنها، وبسبب جبن القوى السياسية وترددها وانتهازيتها وإفراطها المفرط في السعي إلى التأمين على وجودها الحزبي أولا، لم تزدد، مع توالي الإحباطات والانتكاسات والخيبات، إلا نفورا من الأحزاب السياسية التي سقطت في آفة نسيان السياسة باعتبارها التزاما و فضيلة.
لذلك نجد أن من أهم الأسلحة التي توظفها مراكز مقاومة التغيير لإبقاء دار لقمان على حالها هي تقديم كل العناصر و المبررات لتمييع الحقل السياسي والحزبي، و ذلك باستعمال كل أساليب الفساد والإفساد، وشراء الذمم و الأعراض، وتحكمت في معظم القوى الحزبية، وطوقتها بتحالفات هجينة، عملت على تمييع كل قيم النزاهة والمصداقية والالتزام، والحرص على النزول بها إلى أدنى الدرجات في بورصة القيم السياسية والاجتماعية، خصوصا وأننا لم نسجل يوما استقالة لأي وزير أو رئيس مجلس جهة أو عمدة مدينة احتجاجا على عراقيل قد وضعتها هذه الجهة أو تلك، والتي وسمها البعض ب”العفاريت والتماسيح” من تطبيقه لبرنامجه الانتخابي الذي واعد به المواطنين.
وهكذا فإذا كنا نرفض ظاهرة العزوف السياسي من حيث هي رفض لا واعي للمواطنة كقيمة ديمقراطية والوطنية كانتماء مشترك، ومن حيث كونها ظاهرة تضع الإنسان في مرتبة أقل من الإنسان، مادامت السياسة كمالا للإنسان، إذ لا تكتمل إنسانيته إلا بتجاوزه لدائرة اهتماماته “الحيوانية” الضيقة، إلى أفق المشاركة في معالجة مشاكله العمومية بنفسه عن طريق المشاركة السياسية.
إن الذي يعزف عن السياسة يكف أن يكون ذاتا فاعلة مبادرة مشاركة في صناعة مصيرها، و ينزل بنفسه إلى مرتبة الموضوع الذي تتحكم فيه الإرادات و الأهواء المختلفة، و هو بذلك يرفض الحرية باعتبارها قيمة إنسانية عليا، و يعبر عن حنانه لزمن الوصاية و العبودية.
لكن منذ متى كانت الممارسة السياسية تختزل في فعل التصويت يوم الاقتراع الانتخابي، مادام هذا الأخير ليس إلا تجسيدا لمسار من بناء الثقة بين الهيئة الناخبة والمنتخبين المحليين والجهويين والوطنيين، ولا يشكل إلا حلقة من بين حلقات سابقة ولاحقة على درب البناء والإصلاح الديمقراطي، الهادئ والتدريجي .. وهذا ما فشلت كل القوى السياسية الممثلة في البرلمان طيلة العشر سنوات في الوفاء بمستحقاته، ونحن طبعا لا يمكن لوم القوى السياسية المعروفة باصطفافها ضد تفكيك اقتصاد الريع والتوزيع العادل للثورة، ولكننا نتحدث بالدرجة الأولى عن التي رفعت هذا الشعار وعجزت عجزا فادحا عن الوفاء بمقتضياته.
وعليه، فإن التصويت في مرحلة سابقة على هذه القوى، لا يعني توقيع شيك على بياض لها، بل يمكن في أي لحظة معاقبتها، بالتصويت ضدها، أو عدم التصويت لصالح أي تيار من تياراتها المتنافسة، مادامت جميعها قد أخفقت إخفاقا مزدوجا في رهان كسب الثقة ورهان تجديد الثقة معا.
إن تسجيلنا لهذا الموقف الرافض لمنح الثقة لأي من هذه القوى الوطنية، عقابا لها على تخاذلها وجبنها وتدبدب مواقفها الإصلاحية، لا يحجب عنا ما يكتبه بعض الرجال المحترمين، أن كل دعوة إلى المقاطعة، ستقدم خدمة مجانية للقوى المضادة للإصلاح، التي لها طرقها الخاصة في تأمين ناخبيها، وتسعى إلى تفكيك الشبكة الناخبة للقوى الإصلاحية.
إننا، ومع تسجيلنا لما تتضمنه هذه الملاحظة من قدر لا بأس به من الوجاهة، نقول أن الإصلاح ليس اسما أو صفة أو نعتا، يمكن أن تحتكر تسميته هذه القوة أو تلك، بل هو فعل وممارسة نضالية، أولا وقبل كل شيء. وفي هذا الإطار نتساءل هل يمكن الإصلاح السياسي والاقتصادي والمجتمعي بالتحالف مع قوى لا تخفي رفضها لمختلف مفردات هذا الإصلاح؟
إن أي فوز محتمل للقوى المضادة للإصلاح، لا يمكن تبريره بمقاطعة هذا المواطن أو ذاك، أو هذا التيار أو ذاك، لفعل التصويت، مادامت هذه المقاطعة نابعة من وعي وسياسي ووطني، يسجل نقطة نظام، هدفها الدعوة إلى مراجعة القوى السياسية الإصلاحية لذاتها، ودفعا لها إلى نقذ ذاتي حقيقي، يقف على ما فرطت فيما رفعته يوما من شعارات ومبادئ. أما القوى المضادة للإصلاح فنحن نعرفها وهي تعرفنا، لذلك لا يمكننا أن نلومها على “وضوحها” في معارضة الإصلاح، وهي أيضا لا يمكنها أن تلوم الذين لم تعول عليهم يوما في دعم اختياراتها المجتمعية المحافظة.
*أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني ـ الدار البيضاء
تعليقات الزوار ( 0 )