لا يمكن أن ينكر أحد أن الأحزاب السياسية مؤسسات أساسية للديمقراطية.. وأنها تقدم برنامجا انتخابيا وخيارا في الحكم، أو مساءلة الحكومة من موقع المعارضة. فعندما ينظم المواطنون إلى حزب سياسي، يتطوعون بوقتهم، ويتبرعون بمالهم، ويصوتون لصالح قياداتهم، فإنهم يمارسون حقوقهم الديمقراطية والأساسية، وتكون لهم الشرعية للتأثير على خيارات السياسة واختيار الزعماء والقادة السياسيين، والمساهمة والمشاركة في بلورة ايديولوجية معينة ورؤى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
طبعا، يوجد أكثر من تعريف للحزب السياسي بحسب التوجهات والدراسات وأبحاث العلوم السياسية. وهذا ليس موضوعنا الآن.
ما يهمنا في هذا المدخل، قبل مناقشة موضوع نقد الأحزاب السياسية المغربية، هو الإشارة الى كون الحزب السياسي هو تنظيم أو تجمع أو منتدى يظم مجموعة من الافراد تتقاسم نفس التصور الفكري وتعمل على تعبئة الرأي العام لصالحها، من أجل الوصول إلى السلطة وقيادة الشؤون العمومية.
لكن هل تحترم الأحزاب السياسية المغربية حقوق المواطنين في المشاركة السياسية؟ وهل تخضع للمساءلة والمحاسبة أمام الناخبين والرأي العام؟
إن هذا السؤال ليس موجها لأي حزب من الأحزاب بقدر ما هو يندرج في سياق الممارسة النقدية والتساؤل عن معنى وقيمة الحقائق المرتبطة بالفعل السياسي، بما فيها الحقائق المرتبطة بالوضع الحزبي. ويشمل هذا النقد تبادل المعرفة والموارد، ويهدف إلى تشجيع وتوسيع مشاركة الفئات المهمشة، بما في ذلك النساء والشباب والطلبة والمعطلين ومغاربة المغرب القروي وسكان الجبل والواحات والسهول والسهوب، وذوي الاعاقة والأقليات الجنسية، والحركات الاجتماعية والثقافية..بغض النظر عن الانتماء لليبرالية أو الاشتراكية او للمرجعيات المحافظة أو الراديكالية. كما يتطلع ( هذا النقد) لدعم المشاركة البناءة للأحزاب في البناء السياسي الوطني وفي المؤسسات الوطنية والدولية، وفي دعم المجتمع المدني ووسائل الإعلام وهيئات و معاهد ومراكز الكوين والبحث والتأطير…
كما نريد من هذا النقد أن نؤسس من خلاله منتدى لتحليل الأحزاب السياسية المغربية، بما في ذلك تطورها التاريخي، وهيكلها، وبرامجها السياسية، وايديولوجيتها، واستراتيجياتها الانتخابية وحملاتها، ودورها في النشاط السياسي العمومي وفي النظم والمؤسسات الوطنية والدولية. وفي انتظار هذا التأسيس، نصارع الزمن، من أجل نقدها في ممارستها، و نقد ابتعادها عن الاختيار العقلاني، وعن رفض انخراط قياداتها في تجديد هياكلها، وعدم تبنيها للنظريات النقدية الجديدة للمجتمع. لأن ضمان وتطوير الديمقراطية لا يعد اختصاصا حصريا لها وإنما يرتبط بمجموعة من التنظيمات المرتبطة بدعم الحرية والمساواة والكرامة ومناهضة التفاوت الاجتماعي، والنهوض بالصحة والتعليم والتعاون الوطني والتضامن والحماية الاجتماعية، وذلك بغية النهوض بالوعي الجماهيري، ودعم مشعل التغيير، وتكسير المركزية الحزية التي حولت الأفكار والأهداف الى عقيدة.
وغير خافي على احد أن الفصل الثالث من الدستور المغربي ينص على أن الأحزاب السياسية تساهم في تأطير المواطنين وذلك عن طريق تنظيمهم وتكوينهم، واشراكهم في تهيئ، وتقييم القرار السياسي، كما تعمل على تمثيلهم بتقديم المرشحين في مختلف الهيئات المنتخبة. وهو ما يجهل اليوم هذه المهمة من المهمات الأساسية التي يجب على الأحزاب الايمان بها وتفعيلها على أرض الواقع، من خلال تنظيم دروس وتكوينات للمنخرطين، مجانية و إجبارية، في علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والقانون والاقتصاد السياسي، وعلم النفس الاجتماعي..إنها الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الأحزاب السياسية من الاندثار، وتأهيلها من جديد للاندماج الأعمق في المجتمع.
في نقدنا هذا للأحزاب السياسية المغربية، نسعى جاهدين لوصف الطريقة التي تفهم بها هذه الأحزاب وتتعامل بها مع القضايا المتعلقة بتطلعات الشعب، من دون تجديد ” عقلها” وتحررها من الشعبوية والشعودة والاسطورة والزاويا و”الأولياء”. وكذلك لمعرفة دلالات غيابها عن الفضاء العمومي وتعزيزها للديمقراطية التشاورية والمواطنة. حيث تعترف هي نفسها، وعلى لسان قادتها ونخبها، بعدم قدرتها على التآلف بين النظرية والممارسة، وبين العقل النظري ( لمن يمتلكه) والعقل العملي، وعدم قدرتها على الفصل بين الحقيقة والخيال وبين المغرب التقليدي والمغرب ما بعد التقليدي.
وتعرف الأحزاب السياسية المغربية ( بشكل متفاوت) منذ عقود من الزمن، عجزا تاما على مستوى انتاج مواقف جدية ومسؤولة، اتجاه ما يحدث على الصعيد الدولي…من صراعات وتقاطبات وتحالفات.
إن الأحزاب السياسية يجب أن تكون واحدة من أهم الجهات الفاعلة في النقاش الاجتماعي العمومي حول القضايا العامة. فهي ممثلة لآراء الناس، وهوياتهم وطرق تفكيرهم ودعمهم في كل الجبهات، وهي مؤشرات مهمة لمواطنيها ولوطنها ولسيادته، خاصة في في هذا السياق الوطني والدولي الذي تمر منه بلادنا.
إننا اليوم أكثر وعيا بالبيئة السياسية والاجتماعية التي أنتجت هذه الأحزاب، لكننا على وعي تام كذلك بأهمية المساهمة الجماعية في بناء مغرب العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة والحماية الاجتماعية.
إن الملكية حافظت على الوحدة الوطنية، وعلى حماية المغاربة من الانفصال والتجزئة، كما ناضلت قوى التحرر ببلادنا( بمختلف مكوناتها وأجيالها) من أجل مقاومة الاستعمار و مناهضة الإمبريالية والفاشية والنازية والستالينية، وناهضت كل المحاولات والأشكال الانقلابية…؛ وبالنظر لأهمية الأحزاب السياسية وضرورة ارتباطها بمختلف مكونات المجتمع، وبالنظر لدورها في تعزيز الديمقراطية و انعكاسها على الاقتصاد والتنمية، فإن المغاربة ينتظرون اليوم تحررهم من الخوف، وإبعاد كل أشكال العنف عنهم، وتخلصهم من هيمنة العقل التكنولوجي والتقني الذي بات يتحكم في رقاب الشباب والأطفال، والاعتناء بحقوقهم الأساسية مثل التعليم والصحة والسكن والشغل.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة لكون المخاطر المحدقة بمغرب المستقبل، تفترض من الاحزاب السياسية المغربية، التفكير في اتخاذ العديد من الاجراءات العملية المرتبطة بالنهوض الجماعي بالعدالة والحماية الاجتماعية، لارجاع الثقة للمغاربة الذين أصيبوا بخيبة أمل طيلة هذه العقود الأخيرة.
كما أن غاية العدالة والحماية الاجتماعية في هذا الوقت بالذات، تعتبر مدخلا أساسيا لمصالحة هذه الاحزاب مع محيطها الذي ابتعد عن الانخراط في صفوفها، او الذي ” يزورها” ويطرق بابها بشكل موسمي، لحظة الانتخابات.
ولضمان هذه المصالحة، يجب اقرار العدالة التنظيمية، وتحرير الأطر والكفاءات من هيمنة وسيطرة الأعيان، حتى وان كانت الديمقراطية تضمن للجميع الحق في الانتماء والتصويت والترشح.
فباسم الديمقراطية تعيش الاحزاب نفسها في وضعية اكتئاب وحجر و اغتراب. وباسم الديمقراطية، يتم الاستغناء عن الحرية، وعن الحقيقة التي يتم استبدالها بالخيال، كما يتم استبدال الواقع الفعلي بصور الواقع الافتراضي.
وتأسيسا على ذلك، فكل الاحزاب مطالبة اليوم بجدل التنوير، والتخلص من الخوف… والابتعاد عن أي نوع من أنواع وأشكال المواجهة، لأن المواجهة لا تنتج إلا الفظاعة! ولنا في التاريخ دروس وعبر..
تعليقات الزوار ( 0 )