Share
  • Link copied

في المُتَطَلَّبَات الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية

كثيرة هي الأبحاث والدراسات التي عُنِيَت بالبحث في شروط الديمقراطية وأسسها، بيد أن أغلبها ذهبت في اتجاه التأكيد على توفير شروطها السياسية والدستورية (الفصل بين السلط؛ دستور ديمقراطي يؤطر العلاقة الناظمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ تقوية مجال القانون في مقابل الحد من مجال التنظيم؛ انتخابات حرة ونزيهة تسمح بالتداول على السلطة؛ أحزاب قوية؛ التعددية السياسية؛ تقوية حكم المؤسسات وخضوعها لسيادة القانون -مونتيسكيو روسو؛ لوك؛ روبير دال  …(_. طبعا لا يمكن لأحد أن ينكر أو يقلل من أهمية العوامل السياسية والدستورية في ترسيخ المبدأ الديمقراطي، لكن بنفس المبرر لا يمكن أن نتجاهل أيضا الأسس الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطية وإن كانت الأبحاث التي اهتمت بمسألة البحث في العوامل الاقتصادية والاجتماعية وإعطائها الأهمية والعناية التي تستحقها تبقى نادرة.

لقد أثبتت الممارسة عدم قدرة القوانين والتشريعات على ترسيخ المبدأ الديمقراطي في العديد من الدول، بل إن التشريعات حتى وإن كانت جيدة فلا بد من إصلاحها وتعديلها من حين لآخر، خاصة إذا كانت غير قادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية، وهذه الفكرة تجد أساسها في أن القانون ليس دوما عادل فهو شأنه شأن أي نسق إيديولوجي غير بريء ويحمل في ثناياه تَوجُّهَات النخب التي تضعه وذلك قصد الحفاظ على امتيازاتها، وهذا يتناقض مع قُدسية الحقوق التي يجب أن لا تخضع للمقايضات السياسية أو للحسابات التفاضلية للنخب الحاكمة )جون راولز(، فالديمقراطية تربط في جزء كبير منها بمؤشر فِعلِيَّة تمتع الأفراد بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية وليس فقط الحقوق السياسية والمدنية، وذلك على النحو الموصى به في الفصل الثامن من إعلان فيينا 1993، الذي أكد أن الديمقراطية والتنمية أمور مترابطة. لذلك فإن أية محاولة للتفكير في مداخل المبدأ الديمقراطي ينبغي أن تتم وفق مقاربة شمولية غير تجزيئية، لأن القانون وحده لا يكفي لتغيير المجتمع إن جاز لنا استعارة هذا التعبير من الفرنسي “ميشيل كروزييه” وكتابه :”لا يمكن تغيير المجتمع بمرسوم”، لأن الديمقراطية تحتاج لإجراءات موازية في مقدمتها التدابير الاقتصادية والاجتماعية.

وعليه، فإن التفكير في الديمقراطية لا ينبغي أن ينصب على دراسة النصوص التشريعية والقانونية، بل إن المقاربة الشمولية تقتضي أيضا إعطاء المؤشرات غير القانونية الأهمية التي تستحقها، سيما تلك المتعلقة بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، لأن هناك العديد من المجالات والقطاعات خاصة ذات الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية تتعثر فيها التدابير الدستورية والسياسية، فضلا عن عجز النُّظم التشريعية على ضمان التمتع الفعلي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وكذا عجزها على تغيير واقع الفرد للأفضل والقضاء على التفاوت في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية.

وفي علاقة بالأسس الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية فقد كان لعالم الاجتماع الأمريكي سيمور مارتن ليبست (2006-1922) الفضل الكبير في التأكيد على ضرورة الربط المنهجي والمعرفي للصلة الوثيقة بين المؤشرات الاقتصادية والديمقراطية في مقالة له صادرة سنة 1959، وكانت حجته في ذلك بسيطة جدا لخصها في فكرة أنه كلما زاد منسوب الرفاهية الاقتصادية كلما زادت فرصة الديمقراطية، وفي طريقه للاستدلال على طرحه قام بتصنيف بعض الدول إلى مجموعتين الأولى تضم بعض دول أوروبا؛ أمريكا الشمالية؛ أستراليا ونيوزيلندا وسماها بــالديمقراطية المستقرة في مواجهة الديكتاتورية غير المستقرة؛ أما المجموعة الثانية فهي التي تتكون من بعض دول أمريكا اللاتينية وأعطاه وصف الديمقراطية غير المستقرة في مواجهة الديكتاتورية المستقرة.

قام ليبست داخل كل مجموعة بدراسة مقارنة للأنظمة الغذائية ومؤشرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية بدءا بمؤشرات الدخل الفردي والتصنيع والتعليم والتحضر…؛ وخرج بخلاصة أساسية مفادها أنه كلما كانت مؤشرات التنمية الاقتصادية مرتفعة كما زادت مؤشرات الديمقراطية وبالذات الديمقراطية المستقرة، وكلما قلت وانخفضت مؤشرات التنمية الاقتصادية كلما زادت فرصة غياب الديمقراطية خاصة الديمقراطية غير المستقرة وهو ما جعله يؤكد على العلاقة السببية بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية.

ومن جانبه، يعتبر القاضي الفرنسي الشاب ألكسيس دي طوكفيل (1805 – 1859)، الذي ذهب لأمريكا في مهمة رسمية من (وزارة الداخلية الفرنسية) لمدة سنتين قصد الاطلاع على التجربة الأمريكية في مجال السجون والاستفادة منها لتجاوز أوجه القصور في نظام السجون الفرنسي، صاحب أول دراسة _سوسيولوجية _سياسية لأسس الديمقراطية بالمجتمعات الغربية )أمريكا خاصة(، مستحضرا دور العامل الاجتماعي في تثبيت أسس الديمقراطية. يقول دي طوكفيل في مقدمة الجزء الأول من مؤلفه: الديمقراطية عن أمريكا: “إن ما استرعى نظري في أمريكا طوال المدة التي قضيتها فيها هو تساوي أفراد الشعب في أحوالهم الاجتماعية”، وأكد صراحة على ما لهذا التساوي في الأوضاع الاجتماعية من نتائج سياسية إيجابية على الديمقراطية تتعدى في تأثيرها تأثير القوانين بل واندهش إلى حد الذهول من واقع المساواة هذا، واندهاشه منه جعله يصفه بكونه هبة من “صنع العناية الإلهية”، لماذا؟، لأنها تتجاوز بكثير قدرة البشر العادي معتبرا أن واقعا اجتماعيا بهذه السمات يفوق إرادة الأفراد.

هذا، ويبقى من أوجب واجبات الحكومات العمل على توفير الشروط الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية ولو في حدودها الدنيا، فإذا كانت اتفاقية مونتيفيديو لحقوق وواجبات الدول لعام 1933 وضعت بعض المعايير حتى تكون الدولة شخصا من أشخاص القانون الدولي ومن ضمنها أن تتوفر الدولة على حكومة (البند 3 المادة 1)، فإن هذا الشرط ليس القصد منه التواجد “الشكلي” للحكومة، بل لا بد أن يكون لها تواجد فعلي وفعال أي لها القدرة على مباشرة السلط الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) والقدرة على تلبية مُتطلبات الأفراد الاجتماعية والاقتصادية، وبالتبعية فإن عدم قدرة الحكومة على تلبية هذه الحاجيات يجعل الدولة تصنف في خانة “الدول المنهارة L’ÉTATS EFFONDRÉS”. صحيح أن هذا المصطلح استعمل في حقل العلاقات الدولية للدلالة على الدول التي تكون سيادتها مقيدة إما لتعرضها لأزمات سياسية داخلية حادة أو نتيجة لتدخلات عسكرية على أراضيها، غير أنه توجد أيضا بعض المؤشرات الاجتماعية التي في حالة توافرها في الدولة جاز وصفها بذلك من قبيل: تنامي ظاهرة الفقر والبطالة؛ تنامي الهجرة الطوعية بما في ذلك هجرة الأدمغة، التفاوتات أو اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية في أحوال الساكنة، فضلا عن بعض المؤشرات السياسية كفقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها، تنامي الصراعات الحزبية وعدم قدرة الحكومة على القيام بفعالية بالخدمات الاجتماعية (التعليم؛ الصحة؛ التأمين الاجتماعي؛ التشغيل؛ وغيرها)، وقد سبق  للباحث الأمريكي وليام زارتمان أن عرف، سنة 1995، الدول الفاشلة أو المنهارة بأنها: “تلك التي تعاني من حالة عجز تجعلها غير قادرة على مواجهة الأخطار والتهديدات داخلية كانت أم خارجية”.

أما بالنسبة للتجربة المغربية، يمكن القول بأن الفضاء العمومي عرف منذ الاستقلال مجموعة من الإصلاحات همت في غالبها الجوانب السياسية والدستورية  )منذ دستور 1962 لغاية دستور 2011(، ولكن في الغالب الأعم ظلت الغاية من هذه الاصلاحات البحث عن توافقات مع مكونات النخبة السياسية، أما الإصلاحات ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية فلم تحظ بالقدر الكافي الذي حظيت به مسألة الإصلاحات الدستورية والسياسية التي غالبا ما تستفيد منها النخب الحزبية، ففي مجال السكن مثلا، يلاحظ أن هناك مجموعة من الفئات تجد صعوبة في الحصول على سكن لائق، كما أن تجربة مدن بدون صفيح لم تؤت النتائج المتوخاة منها رغم الاعتمادات المالية المرصودة لها. وفي المجال الصحي يلاحظ استمرار حالات الوفيات، وذلك بسبب النقص المسجل في الأطر والبنيات الصحية حيث أن العديد من الحالات كان بالمقدور تفاديها في حالة تواجد أطر وبنيات صحية للقرب سيما بالمناطق النائية، علما بأن الولوج إلى الحق في الصحة يتفاوت بحسب المناطق الجغرافية بفعل إكراهات متعلقة بصعوبة الطرق والمسالك وهو المعطى الذي كشفه زلزال الحوز سابقا وأكدته الفيضانات التي شهدتها بعض مدن الجنوب الشرقي مؤخرا والتي خلفت وفيات ومفقودين بسبب ارتفاع منسوب التساقطات المطرية وغياب البنيات التحتية والطرق التي تسهل من تدخلات فرق الإنقاذ. أما في ميدان التشغيل يلاحظ أن هناك نقص مسجل فيما يخص توفير مناصب الشغل مما ساهم في تنامي ظاهرة البطالة وتدني المستوى الاقتصادي والاجتماعي للنخبة الحاصلة على الشواهد التي من المفترض أن تساهم بما تملكه من معارف وخبرات تقنية وعلمية في التنمية، وقد أكدت التجارب الدولية بأن سر نجاح وتقدم اقتصادياتها تم بفضل نخبتها وشبابها المثقف واستغلال مهاراته المعرفية وتسخيرها لخدمة النهضة والتنمية في ظل “اقتصاد المعرفة”.

وهنا تبدو الحاجة ضرورية للقيام ببعض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الموازية التي من شأنها تمكين الأفراد من التمتع بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية )فِعلِيَّة الحقوق(، بحيث هناك العديد من المواطنين غير قادرين على الحصول على الحد الأدنى من مستويات الشغل؛ التعليم؛ الصحة؛ السكن وهي حقوق نص عليها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966، وهذا ليس نتيجة لانعدام الموارد وإنما يرجع أساسا لعدم قدرة الحكومات سواء السابقة أو الحالية، على توسيع مؤشرات الديمقراطية خاصة ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية في ظل سياق اجتماعي واقتصادي داخلي سمته الارتفاع المتزايد والمتتالي لأسعار المواد الغذائية الأساسية لعيش المواطن، مما كان سببا في بروز بعض الظواهر التي من غير المستبعد أن تكون لها تداعيات عكسية على السلم الاجتماعي _ أحداث الفنيدق_ التي شهدت توافد فئة عريضة من الشباب الذين يرغبون في الهجرة غير النظامية.

ختاما، يمكن القول بأن توفير المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطية وتدبير المشاكل الاجتماعية التي يشهدها الفضاء العمومي بالمغرب يقتضي أن تقوم مؤسسات اللامركزية الإدارية )المنتخبة(، بأدوارها في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفق فلسفة التدبير العمومي الذي يرتكز على مبدأ الثانوية أو التفريع بالشكل الذي يسمح بالتكامل ما بين دور الحكومة المركزية والإدارة اللامركزية بمكونيها )السياسي =المنتخب والإداري =المعين(، ويكفي هنا الرجوع للقوانين التنظيمية للجماعات الترابية التي منحت اختصاصات واسعة للجماعات الترابية في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية في إطار اختصاصاتها الذاتية والمشتركة والمنقولة، والعمل وفق مبدأ شرعية الإنجاز التي تقتضي أن يكون الساهر على تدبير الشأن العام قادرا على تلبية حاجيات المواطنين والرفع من منسوب ثقتهم في المؤسسات التي تدبر الشأن العام خاصة بعد الأزمة التي طالت مبدأ الديمقراطية التمثيلية.

وهكذا، يبقى من الضروري أن تضطلع المؤسسات المنتخبة على المستوى اللامركزي بوظائفها في مجالات التنمية على أحسن وجه والتي يجب أن تجعل من تلبية حاجيات الساكنة وكذا تخفيف العبء عن المركز أحد أولوياتها الأساسية، لأنه من غير المعقول في إطار التنظيم الإداري الحالي الذي يجعل من الجهوية الموسعة واللامركزية الإدارية أحد مرتكزاته أن تبقى الإدارة المركزية هي من تضع السياسات الترابية. وتدخل المؤسسات المنتخبة والمصالح اللاممركزة في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية تمليه أيضا مقتضيات ميثاق اللاتمركز الإداري الذي يتأسس على فلسفة تدبيرية جديدة تتوخى حصر أدوار الإدارة المركزية في بلورة التصور العام والتأطير واعتبار الجهة الفضاء الأنسب لبلورة السياسة العمومية وإلا ما الفائدة من البنيات اللامركزية والمصالح الخارجية إذا لم يساهما في التنمية التي تعتبر سبب إحداثهما.

Share
  • Link copied
المقال التالي