Share
  • Link copied

في الفرق بين العلوم الحقة والعلوم الشرعية

إن  العالم  في الشؤون الدينية يعني العالم بالنصوص والأحكام من معاملات وعبادات ، وعقائد وإيمان ، ،فإنما نقصد بقولنا عالم أنه  يعلم ما لا يعلم غيره ، لأنه تلقى تكوينا علميا دراسيا ،عبر سنوات من التمحيص والدرس في مجال تخصصه ، وشأنه كشأن العالم بالأمور الفنية والأدبية ،فهذا الأخير يعلم العروض والبلاغة والقوافي والشعر والنحو وما إلى ذلك ، وشأن هؤلاء كشأن العالم في العلوم الطبيعية والتجريدية كالرياضيات والطب والفيزياء ، فكل يعلم ما تعلم ، وآليات إشتغال هذا تختلف عن آليات ذاك ، ونتائج هذا لا علاقة لها بنتائج ذلك ، فكل منهم تعلم مناهج دراسية في جامعات متخصصة  ، فلماذا نطلب من الفقيه أن يكون مثل الطبيب أو الرياضي ،  وشتان بين التخصصين فالففيه عمله إصلاح أعطاب الجسم والفقيه شأنه إصلاح أعطاب الروح والفيلسوف شأنه إصلاح أعطاب العقل ، وكل هؤلاء ضروريين في هذه الحياة ، فلولا الفقيه والمفسر وعالم الحديث ما وصل لنا الدين وأمور الاعتقاد والإيمان ، ونحن محتاجين لهم ولبضاعاهم تحقيقا التوازن الروحي كما نحن محتاجين لأهل العلوم الأخرى على نفس القدر ، إلا إذا كنا قد   أصبحنا في غنى عن الدين ونصوصه ومتونه وشروحه، وهذا لا يقول به عاقل ،أما قضية المتاجرة واستغلال الدين من طرف الفقهاء ، فهي مسألة نسبية فكما كان هناك فقهاء متاجرون كان هناك فقهاء ثوريون وآخرون إصلاحيون ، وآخرون مقاومون ، وكما كان البعض دور سلبي في خدمة السلطان والاستبداد كان لآخرين دور في الصدح بالحق وجهاد المستعمر ، فالدين محايد  يمكن استغلاله سلبا أو إيجابا ،حسب مصداقية وشرف حامليه، ونفس الأمر ينطبق على العلم، والعلماء فقد كان هناك علماء في خدمة النازية وساهموا في قتل ملايين البشر ، وآخرون في خدمة الصهيونية والإمبريالية والاحتلال، وآخرون نشروا أنفسهم لخدمة الشر  وأبرموا اتفاقا وصفقوا  مع الشيطان ،كما عبر عن ذلك جوته في مسرحيته، الرائعة فاوست، ،العلم  كذلك محايد ولكن يمكن استخدامه واستغلاله للخير والشر ،  وغالبا ما تم استغلاله للشر  والإبادات والمجازر الإنسانية، التي يشهد عليها التاريخ كما وقع في هيروشيما ونكازاكي، وما سببه  البارود من مجازر في أمريكا اللاتينية، إن  مخترع القنبلة النووية يمكن اعتباره. كالفقيه الذي كان في خدمة المستبد، فهل العلم أو الدين مسؤول عن موقفيهما.

المؤكد أن الدين والعلم بريئين من سلوك بعض منتسبيهما، والمؤكد أنه وعبر التاريخ وجد علماء دين أخيار ورواد نهضة وإصلاح ،كما وجد  علماء وفقهاء  أشرار ، استغلوا الدين لقضاء مصالحهم الشخصية ، ونفس الأمر ينطبق على علماء  العلوم الحقة معلم البيولوجيا والفيزياء والرياضيات.

 إن المحاججة في الأمور البديهية يعني أن لنا موقفا أيديولوجيا مسيسا من الدين وحملته، ،بغض النظر عن الصواب والحقيقة، فالتحامل المتطرف  على الفقهاء والعلماء بحجة أنهم مجرد مستغلين الدين دون تمييز أو تفريق ،هو في الحقيقة موقف من الدين ذاته متحف تحت يافطة النقد العلمي.

لا أحد يجادل أن العالم في العلوم الحقة يعتمد  التجربة والمعاينة المادية الملموسة للمادة وتحولاتها، والطبيعة والكون ، وهذا لا يفضل عن ذاك، لأن حقل إشتغال أحدهما بعيد ومختلف عن حقل اشتغال  الآخر ،  أكيد أننا   نحتاج  بشكل أكثر إلحاحا  للعلوم الحقة  لكي نتقدم  تقنيا على مستوى العالم المادي المنظور ، ولكننا في نفس الآن نحتاج الى العلوم الإنسانية الأخرى لتحقيق التوازن على مستوى الجمال والجلال ، ،والا هل تكون المقارنة صحيحة وعادلة بين الفيزيائي والأديب ، وهل يمكن القول أن إينشاتين، أفضل من نتشه أو أن نيلز بور أحسن من لوركا أو شوبنهاور ،  أو فولتير، هذه قسمة ضيزى.

 إن حصر  مصطلح العلم في في العلوم الحقة  هو حصر تعسفي  ،والحال أن المصطلح عام وشامل لكل المعارف الإنسانية ، بما فيها المعارف الدينية والدنيوية ، ولا مشاحة في المصطلح  فالمهم هي المضامين وما تشير اليه من معاني ومفاهيم ، أعتقد أننا لسنا مختلفين من حيث الجوهر .

والمضمون، أتفهم  موقفك في حصر كلمة العلم في sciences فقط،  لكن المصطلح في تحقيب تاريخ تفكير العقل العربي الإسلامي، يعتبر  علوم الدين بما فيها من فقه وتفسير وقراءات وحديث علما قائم الذات ،قبل  أن تظهر كلمة العلم مترجمة  كتعبير عن العلم الطبيعي المختص بالنظر في المادة ، فالكلمة تحمل دلالة ومفهوما في ذاتها تعنيه فهمه العرب بدلالاته التاريخية أن سحب  كلمة العلم وتحريفها عن  معناها الذي تشكل عبر التاريخ، موقف غير موضوعي  ولا علمي.

وبدأت من ذلك يمكننا  نحث كلمة أخرى لكي تكون أكثر دلالة على يقصده العلمويون، من كلمة sciences, ،ولتيقى الكلمة كما هي وتعرب الى (سييونس)،مثلا لكي لا يختلط معناها مع ما تداول كمفهوم لكلمة العلم ،ولنترك هذه الكلمة في معجمها اللغوي تدل  على ما دلت عليه عبر السنين ، وهنا لن يختلط  ما قصدت لعلوم الدين وغيرها من العلوم الإنسانية التي تقوم على الإحاسيس والاعتقاد والمشاعر .

مع الأسف انزوى العلماء والفقهاء  إلى الظل ، وانسحبوا  من الساحة الفكرية ، ومن المشهد الإعلامي واكتفوا بالتنظير والإفتاء للطهارة والغسل وفقه الجنائز بدل الانكباب  على تحديث  الفهم وتجديد الخطاب الديني  لمواكبة القضايا الكبرى  للعصر ، وتخلوا عن دورهم التاريخي في الصدح بالحق ، واستنهاض الهمم والحفاظ على الأمن الروحي والعقلي والعقائدي، وتركوا الباب مفتوحا لكل من هب ودب من الأدعياء والدعاة المزورين ،ومستغلي الدين ،والعاطفة الدينية ، خدمة لأجنداتهم ومصالحهم  الشخصية ، الشيء الذي أدى  بالشباب إلى هجرة مظاهر التدين وانتشار المد الإلحادي أو اللاأدري .فأصبح الدين عندهم  تقليديا كلاسيكيا ينعش فقط الذاكرة الجميلة ونوسطالجيا  الماضي والحنين للآباء والأجداد ، والطقوس المرتبطة بالمناسبات والأعياد.

مهما يكن من تفريط العلماء الحاليين فإنه  مع  ذلك لا يحق لأحد الانتقاص من قدر أهل العلم  بحجة  التجديد ،  فقد وجب توقير واحترام الأئمة المتقدمين من الفقهاء الكبار  كالإمام مالك والأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة النعمان وابن حنبل والبخاري ومسلم  والطبري وابن كثير والنووي وابن حجر  والجويني  وغيرهم من الأئمة  الأعلام  القدماء والمحدثين فهم نقلة الدين جيلا وراء جيل   فلولاهم ما وصل لنا لا قرآن ولا حديث ولا تفسير  ،قال الإمام بن عساكر. رحمه الله مؤلف تاريخ مدينة دمشق :(اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة ،وعادة  الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب،ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فليحذر أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب ألم )انتهى كلامه ،وفي الصحيح  قال صلى الله عليه وسلم (أن من عادى لي وليا فقد آدنته بالحرب).

 كما وجب احترام  أهل العلم  من الأطباء والفلاسفة  وأهل التصوف  القدماء كابن سينا، وابن النفيس  وابن باجة والفارابي  والكندي  والرازي ، وابن رشد ، وابن عربي والجنيد   والرومي والشاذلي  والمعري والمتنبي  وأبي تمام  وابن مالك  النحوي  وكذلك من المفكرين المحدثين  كالحبابي  والجابري  والعروي وطه عبد الرحمان وعبد الله ݣنون والمكي الناصري  وبدوي  وغيرهم   فلكل مجاله ولكل ميدان بطل ، ولكل منزل أهله ،  ولكل اختصاص رواده.

وإن  عرف  التاريخ العقلي والفكري الاسلامي انتكاسات، وإحباطات ، فقد عرف كذلك. لحظات ثقافية ومعرفة منيرة  ورائدة ، ساهمت  في تأسيس حجر الأساس لكثير من العلوم ، والمعرفة  كالتوثيق والتأريخ  كعلم الجرح والتعديل  وعلم الرجال بشكل لم تعرفه الحضارات الأخرى كما أكد ذلك المستشرق الهولندي ڤنسنك ،في كتابه مفتاح كنوز السنة.

 ويكفي أن ابن رشد  كان فقيها مالكيا وطبيبا وفيلسوفا فقد  ألف كتابا في الفقه  وهو كتاب  المجتهد ونهاية المقتصد وهو  في نفس الوقت ، شارح. أرسطو ومؤلف كتاب تهافت التهافت ، وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، فلم يكن بين الفقه الشرعي والفلسفة في القديم انفصال كما يتوهم  بعض أدعياء. الفهم من المتعالمين المتفلسفين،  فقد كان العالم   الفقيه فيلسوفا والفياسوف فقيها،  وأديبا وشاعرا ، ولهذا فمن يحاول  الآن تقزيم دور العلماء والفقهاء ليس له كبير  اطلاع ومعرفة بتاريخ  الفكر. الاسلامي أو  هو متطفل ليس له لا في العير ولا في النفير ، أو مغرض  تحركه نوازع وأغراض  دنيئة ،  لكن من جهة أخرى  فإن احترام القدماء  ليس مدعاة  للركود.  واجترار  الماضي  والانشغال بالشروح  والحواشي والهوامش والتقليد وإنما يكون.

من  اللازم والضروري الاجتهاد  والتجاوز والتفكيك،  وتجديد الدين ،بما يلائم. نوازل العصر. ومشاكله  ،وبما لا يهدم  أركانه وقواعده ،ولا يخالف معلوما من الدين بالضرورة. نحن بحاجة إلى التراث ووعيه ونقده ، والاحتفاظ بأصوله. وجوهره وأركانه وتجاوز فروعه. إلى فكر. أرحب وقلب متفتح ، ودين عرفاني أخلاقي رحموتي متعايش  مع الآخر متسامح مع المختلف، معترف بالأقليات الدينية والطائفية  والعرقية، في إطار  الدين لله والوطن للجميع!

Share
  • Link copied
المقال التالي