تجلي الجميل لن يكون ممتعا سوى لتلك الأرواح التي استيقظت باكرا، لتتعقب خطى بومة منيرفا، لأنه إذا كانت الميتافيزيقا تأتي في المساء، فإن فلسفة الفن تأتي في الصباح، ولذلك لا يمكن مقاومتها: «لأن الفن العظيم يهزمنا، لأننا نكون دائما بدون عدة « بلغة هانس جادمير، فالعمل الفني يقهر الأرواح العلمية التي تجعل من اللذة نوعا من التمثيل الذاتي، ذلك أن الرمزي يحفظ معناه في باطنه، لكن بأي معنى يمكن للصداقة أن تصبح فنا؟ وما علاقتها بفلسفة الفن؟ هل هي فكرة محسوسة أم مجردة؟ وما الذي يسمح لنا بأن نقول عن صداقة ما، إنها عظيمة وعميقة تترك أثرها في الوجـــود مثل العمل الفني العظيم؟
ما يمكن أن نعرفه بلغة المعنى، يمكن استرداده في مفاهيم علم الجمال، ذلك أن علم الجمال كامبراطورية مثالية تتنزه فيها روح الفنان، يمدنا بأسئلة مهمة، من أجل تمزيق الحجاب عن العمل الفني: «أن يأتي سؤالنا على النحو الآتي: ما الذي تمثله هذه اللوحة؟ وبالطبع فإن هذا يعد جزءا من فهمنا للوحة، إدراكنا للوحة، إلا أنه من الواضح أننا لا نعتبر هذا هو الهدف الحقيقي لخبرتنا بالعمل الفني».
الفن، باعتباره لحظة ابتهاج الروح، هو في الوقت نفسه، لغة الوجود، لا يفهمنا سوى الفنان والفيلسوف، ولذلك فإن كل فن يتطلب مجهودا جبارا من الروح، لكي نفهم ما معنى أن الفن هو المظهر الحسي للفكرة، ذلك أن الفكرة تنتقل من عالم المثل الأفلاطوني إلى العالم المحسوس بواسطة العمل الفني: «وعلم الجمال هو الشكل الأسمى، الذي تؤكد فيه الحقيقة وجودها»، هكذا تتحدد العلاقة الحميمية بين الاستيطقا والفن، ولعل هذا أيضا هو ما يجعل الاستطيقا تعيش أطول من العلوم، على الرغم من أنها تعتمد على الذوق في الحكم، وليس على العقل، لأن الذوق هو الذي يصدر الحكم بشكل جميل .
والصداقة أيضا لا يمكن اكتشافها إلا بالذوق، لأنها مأوى الجميل ومسكن للخير، فالذوق ملكة الحكم وإشباع رغبة الجمال في الروح، وبلغة هيغل، إنه يقتسم الرؤية مع الروح، ولذلك نجد أن الصداقة بين الفنانين تدوم أطول، لأنها فاضلة، فمادام أنهم يقتسمون اللذة نفسها، فإن صداقتهم ستطول، ومن أجل معرفة أسرار هذه اللذة التي تستمد عمقها من الفن، كتسمية للرسم والموسيقى والشعر، سيتوجه هيغل إلى الفكرة المجردة التي تحتمي بها الروح، من أجل استضافة المطلق، والاستمتاع بتجلياته في الوجود والحقيقة والفن، وقد اكتشف أن الروح لا تبتهج إلا في حميمية المطلق، وبما أن المطلق لا يمكن اصطياده سوى برمي شبكة الفن، فسيكون الرسم، والموسيقى والشعر هي الطعم الذي يثير الرغبة في العض، ولعل تسريب هذه الفنون إلى الروح سيطهرها من الشر ويزرع فيها بذرة الخير، هكذا ستصبح جميلة لا ترى نفسها إلا في الجمال .
وفي الجملة، إذا كان العمل الفني لا يحقق وجوده إلا بإظهار الحقيقة في المحسوس، فإن الصداقة كفكرة لا تتحقق سوى في الوجود الإنساني، إنها علاقة بين اثنين حين يجتمعان ويكونان أقوى على الفكر والعمل، فالصداقة هي البنت الجميلة التي ولدها الخير، ولذلك فهي بمنزلة الخير في العالم المعقول، حيث يسود العقل والمعقولات «فهناك كثرة من الأشياء الجميلة، وكثرة من الأشياء الخيرة، وهناك الجميل في ذاته والخير في ذاته، وهذا هو المثال الذي نسميه ماهية الحقيقة»، لكن من يستطيع رؤية الحقيقة؟ هل الفيلسوف؟ هل الفنان؟ هل الإنسان الفاضل؟ أم هم جميعا؟
قد يتوفر الإبصار للعين، وتتشوق العين إلى الإبصار، ويوجد اللون في الأشياء، ومع ذلك كله فإن البصر لن يرى شيئا، وتظل الألوان غير منظورة، إذا لم يضف إليها الضوء المشع «فكلما توجهت العينان نحو أشياء تنيرها الشمس، فإنها ترى بوضوح، كما أن الأشياء الجميلة، التي ينيرها ضوء النهار فإنها تبدو خافتة، لأن العينين تكادان تكونان عمياوين، وكأنها فقدت ملكة الحكم .
فالناس الذين فقدوا ملكة الحكم، وأصبحوا بدون حس فني، لن يتذوقوا لذة الصداقة، ذلك أن الصداقة، تتحد بشكل فني في الجمال، والجمال هو الحياة التي تشرق بنورها أمام فلسفة الفن «ففعل العقل إنما هو فعل فني، وأن الحقيقة تتحد بشكل وثيق في الجمال، فعلى الفيلسوف أن يملك قوة فنية بمقدار ما يملك الشاعر، إن البشر بدون حس فني هم فلاسفتنا الحرفيون». كما أن الأصدقاء الذين هم بدون حس فني هم أصدقاء المنفعة .لقد مات الفن بمجرد ما فقد حماية الفكر، وبلغة كتاب الاستيطيقا لهيغل «إن الفن لم يمت فقط لأنه ترك مكانه للفلسفة، بل مات من تلقاء ذاته حين انغمس في الخصوصية، وأضحى يهتم بالتفاصيل العرضية غير ذات القيمة، غافلا عن كل فائدة روحية».
لم يكن هيغل متشائما في الاستيطيقا، بل كان حزينا على هروب الفن من الروح، ما يعني انهزام العقل، ولن ينعم بهذا الجدل الرائع؛ كل ما هو عقلي فهو واقعي، وكل ما هو واقعي فهو عقلي، وهذه هي صفة المطلق الذي يحتفل بالجمال، لكن كيف يمكن ان ندرك الجمال بعد موت الفن؟ ألا يؤثر هذا الموت على الحياة وعلى الجمال والصداقة؟ عندما فقد الفن بريقه الحسي المشع، غادر مملكة الروح، هكذا فقدت الروح ملكة الصداقة، ولم تعد عملا فنيا، بل تحولت إلى صداقة ذوي الرداءة، بل إن الصداقة ماتت، وظل اسمها يذكر بدون قيمة فنية، مادام أنها فقدت بريق الحقيقة، وأصبح الإنسان في حالة ذهول وسكر ناشئين عن مادة مخدرة، أو إزاء لحظات من الفرح المقرون باللذة الحسية، لكن ينسى أنه بدون صداقة ستكون الحياة خطأ يتم تصحيحه بلعبة الفرح والحزن. فالصداقة هي لغة الإرادة الخيرة، كما أن الموسيقى عندما شوبنهاور هي لغة الإرادة الخالدة وصورة الرغبة الدائمة في باطن الوجود «أنا أريدك، لأنك أنت الحياة الخالدة».
فن الصداقة إذن هو مجرد انسجام وتناغم في الروح، والصداقة لا تبدو لنا جميلة إلا بسبب وعينا الذاتي الذي يدرك الجمال كهبة من الفن وعلى مدى سنين طويلة علمنا الفن أن ننظر إلى الحياة بمتعة وسعادة، وأن نستدرج أحاسيسنا إلى الحد الذي نصرخ فيه أيا تكن هذه الحياة فهي جميلة.
تعليقات الزوار ( 0 )