حاوره نورالدين لشهب
أكد الباحث نبيل فازيو أن الدولة الوطنية لازالت تعاني اليوم من عطبٍ في مشروعيتها، إذ لم يعترف بها لا الليبرالي الذي وجد فيها خير تعبير عن ضعف الحرية، ولا الماركسي الذي اعتبرها علامة على غياب العدالة الاجتماعية، ولا القومي الذي اعتبرها نقيضا للدولة القومية، ولا الإسلامي الذي اعتبرها مقابلة للشريعة ودولتها المتخيلة.
واعتبر أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة أبي شعيب الدكالي بالجديدة، في حوار خاص، أن النفس الإيديولوجي الذي وسم القراءات التي استندت على التراث أسهمت في الابتعاد عن الروح المعرفية لهذا التراث، مضيفا أن الصراع على التراث بات يتخذ صبغة أكثر حرجاً، بحكم نجاح الإسلاميين في صهره في الدين.
وقال صاحب أطروحة “دولة الفقهاء” إنه لا يمكن فصل “حماية الدين من المنقضين عليه” دون الاهتمام بالتراث وإعادة تحقيقه وتعميمه ونقده…
إليكم الحوار كاملا مع نبيل فازيو، الباحث في الفلسفة السياسية، وصاحب أطروحة دولة الفقهاء…
الاختصاص بالفلسفة السياسية رمى بك إلى التراث مرة أخرى.. لماذا اشتغلت على التراث تحديداً؟ وهل تعتقد أن درس الفكر الغربي الحديث يحفز على مثل هذا الاشتغال؟
لا يمكن أن أنكر أن الاهتمام بالفلسفة السياسية يبقى واحدا من الدوافع التي حملتني على الاشتغال على التراث السياسي الإسلامي، ليس فقط لأن عناية الفلاسفة المعاصرين بالمسألة السياسية اتسمت بعودتهم المزمنة إلى تراثهم الفلسفي والسياسي كما هو الشأن بالنسبة إلى حنة أرندت وليو شتراوس وكاستورياديس- إذ المسألة ليست مجرد رغبة في الانخراط في تقليدٍ هيمن على مجال الفلسفة السياسية المعاصرة- بل أيضاً بسبب ما لاحظتُه من قوة حضور هذا التراث في الوعي السياسي الإسلامي المعاصر، وسهمه الكبير في نحت مفاهيمه التأسيسية؛ ولعلَّ حضور بعض مفاهيمه في كثير من المنظومات القانونية في العالم الإسلامي، واستدعاء قاموسه في المعترك السياسي ومحاولة استثماره من طرف كثير من القوى السياسية في العالم العربي، يبقى العلامة الفارقة على قوة حضور هذا التراث في راهننا السياسي.
الفلسفة السياسية حاضرة في أطروحة “دولة الفقهاء”، وذلك في محاولة استشكال التراث وطرح أسئلة تكتسي طابع الراهنية من خارج الأسئلة المطروحة من داخل التراث السياسي الإسلامي نفسه؟
هذا صحيح، لقد حاولت أن أفيد من درس الفلسفة السياسية المعاصرة في استشكال التراث السياسي الإسلامي على المستوى الإشكالي والمنهجي، اعتقاداً مني بأن تفكيك التراث السياسي والتبرم من مركزياته الكبرى لا يكون بالاكتفاء بمساءلته من داخل دوائره الإشكالية، وإنما بطرح أسئلة قد لا تكون بالضرورة نابعة منه هو. غير أن ذلك لم يكن تعبيرا عن رغبة في ترحيل مفاهيم الفكر المعاصر ومناهجه صوب قارة التراث، بقدر ما كان تجسيداً لاعتقادي بأن في الفلسفة السياسية ما من شأنه أن يفيدنا في بلورة قراءة “مغايرة” لهذا التراث السياسي تبعدنا عن ضجيج القراءات الإيديولوجية التي احتكرته منذ عقود.
علاوةً على ذلك، يفيدنا الفكر الفلسفي المعاصر في إعادة النظر في مفهوم الفلسفة والفيلسوف نفسه. وقد رأينا كيف تم جر الفلسفة إلى عالم الوجود المشترك والشرط الاجتماعي والسياسي للإنسان مع مدرسة فرانكفورت وفلسفتها السياسية والاجتماعية، والأمر نفسه يقال عن مدرسة كبيك التي استطاعت الاعتداد بالفلسفة من أجل الإسهام في إنجاح سياسة التعدد الثقافي المنتهج من طرف الدولة منذ عقود. ولا ينبغي أن ننسى أن رولز يجعل من مهام الفلسفة صناعة يوتوبيا جماعية تسهم في بلورة حس أو شعور بمعنى العدالة. بذلك أصبح مجال العقل العملي مركزيا في الفكر الفلسفي المعاصر، وحتى عالِمُ منطقٍ كبير من قبيل شايم بيرلمان سيحاول الإفادة من تطور المنطق والحجاج من أجل صياغة نظرية في العدالة تتجاوز الأفق المعياري الذي تحرك فيه تاريخ الفلسفة في نظرته إلى العدالة من أفلاطون إلى رولز.
يمكن القول إن الغرض من دراسة التراث السياسي هو قراءته على ضوء الصعوبات التي تطرحها علينا المسألة السياسية اليوم، وتبديد بعض الأوهام التي ما انفك ينسجها البعض باسم هذا التراث وتصوره للدولة.
مفهوم الدولة الوطنية في العالم العربي والإسلامي لازال يعاني عطبا في المشروعية من قبل رؤى فكرانية مختلفة، ما السبب في ذلك برأيك؟
أتفق معك، فالدولة الوطنية تعاني اليوم من عطبٍ في مشروعيتها (إذ لم يعترف بها لا الليبرالي الذي وجد فيها خير تعبير عن ضعف الحرية، ولا الماركسي الذي اعتبرها علامة على غياب العدالة الاجتماعية، ولا القومي الذي اعتبرها نقيضا للدولة القومية، ولا الإسلامي الذي اعتبرها مقابلة للشريعة ودولتها المتخيلة)، وأسباب هذا العطب كثيرة وبنيوية لا تنفصل عن علاقة السلطة بالمواطن في الدول العربية، غير أن مردُّ جزءٍ كبير من ذلك العطب اليوم، وبعد تصاعد المد الإسلامي أكثر فأكثر، إلى منزع بعض الإسلاميين الذين يعتبرونها غير مشروعة بسبب عدم مطابقتها لنموذج دولة الخلافة (الدولة الدينية على حد قولهم). وأمام الحاجة الماسة إلى دولة وطنية قوية في العالم العربي، تبقى مواجهة مثل هذه المواقف العدمية مسألة يفرضها شرطنا السياسي والتاريخي، وهي مواجهة تتطلب التحرك على مستوى فهم التراث السياسي الإسلامي وتأويله.
الاشتغال بالتراث في العالم العربي ظهر بقوة بعد هزيمة يونيو عام 1967، من قبل مجموعة من المفكرين العرب، ومن أبواب مختلفة، من التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية عموما. ولازال الاهتمام بالتراث إلى اليوم.. ما الأسباب التي جعلت الفكر العربي مشدوداً إلى التراث؟
عناية الفكر العربي الحديث والمعاصر بتراثه تبقى مسألة إشكالية. وأنت تعرف أنه كتب الكثير في شأنها في العقود الأخيرة عندما أصبح التفكير في علاقتنا بالتراث مقوما من مقومات الخطاب العربي المعاصر. وسيكون من الخطأ البدء في التأريخ لهذه الإشكالية بالفترة التي أعلنت فيها مشاريع فكرية نقدية رغبتها في تقديم قراءات جديدة للتراث، منذ أحمد أمين، وصولا إلى الجابري وأركون ونصر حامد أبو زيد؛ وإنما للمسألة جذور تتصل بصدمة اللقاء بالغرب واكتشاف الأنا العربية/الإسلامية في مرآة الغرب المتمدن. تبين منذ ذلك الحين أن الهوس بهذا التراث ليس محكوما بمقاصد معرفية محضة، وأن مواجهة الغرب واتهاماته تبقى على رأس الدوافع التي حكمت اهتمام المفكرين به، وهذا ما يستشف من سجال المفكرين العرب مع المستشرقين وسعيهم إلى الرد عليهم، كما إلى التنقيب في التراث العربي الإسلامي عما يمكن أن يضارع ما يتبجح به الغرب من عقلانية، كما هو واضح من حديث مصطفى عبد الرازق عن الجذور الكلامية للعقلانية الفلسفية. وما كان صدفة أن يرتبط اكتشاف مخطوطات التراث باسم رفاعة الطهطاوي الذي اكتشف بعضها عند أستاذه سلفستر دي ساسي، وأن يعمد محمد عبده إلى تشجيع نشر كتاب الموافقات للشاطبي والتعليق على نهج البلاغة، ونشر المخصص لابن السيد، إذ كان ذلك جزءاً من إستراتيجيته في نقد التقليد ومواجهة النزعة التقليدية بمقاصد الشاطبي ذات المنحى العقلي البارز. وعندما أقدم كمال أتاتورك على فصل الدين عن الدولة سنة 1922، ثم إلغاء الخلافة سنة 1924، وما ترتب عن ذلك من تضخم الموقف الإسلامي في رد فعله على هذه الخطوة، سيتم الزج بالتراث الإسلامي في معمعة النقاش مع الاختيار الإسلامي، وهنا ينبغي أن نتذكر أن القراءات التي قدمت للتراث من طرف الليبراليين العرب كطه حسين والعقاد وحسين هيكل ما كانت بعيدة عن الجدل الدائر حول العلاقة بين الديني والسياسي في الإسلام، وهي الكتابات التي جوبهت بردود فعل أكثر انغلاقا وتزمتا من طرف التيار الإسلامي الإحيائي الذي سرعان ما استرجع طوبى الخلافة من جديد، وشرع يقرأ التراث الإسلامي الديني على ضوء رهانها. ويبدو أن هذا الصراع على التراث (على حد تعبير الأستاذ رضوان السيد) مازال يمثل المنطق الحاكم لتعامل الفكر العربي مع التراث الإسلامي. بل إن ما زاد الطين بلةً هو لهث كثير من التنويريين العرب وراء فكرة القطيعة مع التراث وطي صفحته، الأمر الذي جعل الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام القراءة الإسلامية (بمعناها الإحيائي الضيق) لاحتكار تأويل التراث عامة، والديني منه على وجه التحديد.
كان من الطبيعي، في حمأة هذا الجو الإيديولوجي، أن يرتفع منسوب الإيديولوجيا في القراءات التي قدمت للتراث على ضوء مواجهة المد الإسلامي، سواء من طرف الماركسيين أو القوميين أو الليبراليين العرب. كان النفس الإيديولوجي فاقعاً في قراءة باحث كبير مثل حسين مروة وطيب تيزيني. وما استطاع الجابري الانسلال من هذه المقاربة الإيديولوجية رغم بنيويته وقسوته في الحكم على سابقيه، بل وانتهى إلى الاقتناع بأن المواجهة ينبغي أن تتم على مستوى التراث والعقل المنتج له، وأن المدخل الأنسب لها هو فضح مضمونه الإيديولوجي وجره إلى ساحة الراهن حتى يصير “معاصرا لنا” على حد قوله. فكانت النتيجة الابتعاد عن الرؤية المعرفية، ما أفضى به إلى بعض النتائج التي لا يمكن قبولها مطلقاً، من قبيل ما قاله عن القطيعة بين المشرق والمغرب، وموقفه من فكر الغزالي وابن سينا، ومسألة استقالة العقل.
لا يساورني شك في أن النفس الإيديولوجي لهذه القراءات كان صاحب السهم الكبير في الابتعاد عن الروح المعرفية، وهذا ما انتبه إليه أركون عندما قدم مشروعه في الإسلاميات التطبيقية التي يمكن اعتبارها برنامج عملٍ مازال ينتظر من يخرجه من إطاره النظري إلى تطبيقاته التي تصورها أركون. رغم كل ذلك تبقى إسلاميات أركون مسألة صعبة التحقيق لأسباب كان هو أول المدركين لها، على رأسها صعوبة تحقيق ذلك الانسجام بين التخصصات العلمية التي اعتبرها ضرورية لفهم العقل الإسلامي في الماضي كما في الحاضر، ولصعوبة فصل الاشتغال على هذا الموضوع عن الرهانات السياسية التي يبقى على رأسها مشكل التنوير في العالم العربي.
ولكن يبدو للمتابع أن انشداد الفكر العربي إلى التراث مسألة ترف فكري أكثر منه مشروعا متكاملا وطنيا أو قوميا..
لا أعتقد أن انشداد الفكر العربي إلى التراث مسألة ترف فكري كما تفضلت، ولا يمكن إلا أن نستغرب من حديث البعض عمَّا أضعناه من وقت في التفكير في هذه الإشكالية بدلا من المضي في ركوب موجات الفكر الغربي المعاصر والإسهام فيها باسم الإنسانية وكونيتها؛ إذ التراث مازال يلقي بظلاله علينا في مختلف قطاعات حياتنا اليومية، في التفكير والفعل والسياسة والأخلاق والدين أيضاً، والأنكى من ذلك كله أن المثقفين المتنورين ما عادوا قادرين على إنتاج مقالة في التراث تضارع، من حيث مفعولها الثقافي، ما يقدمه أصحاب القراءة الأرثوذكسية من تصورات عنه.
اليوم يتخذ الصراع على التراث صبغة أكثر حرجاً، بحكم نجاح هؤلاء في صهر التراث في الدين، لذلك لا يمكن أن نفصل حماية الدين من المنقضين عليه دون الاهتمام بهذا التراث وإعادة تحقيقه وتعميمه ونقده. وما أحوجنا إلى مثل العمل الذي يقوم به رضوان السيد منذ عقود لتحقيق نصوص التراث وتعميمها وتقديمها للقارئ العربي.
لنعد إلى أطروحة “دولة الفقهاء”.. هل كانت لفقهاء السياسة رؤية سياسية لمفهوم الدولة بمدلولها الحديث؟
يعترضُ البعضُ بالقول إنَّ الدولة مفهومٌ حديث له تاريخ معلوم. وهذا اعتراض له ما يبرره بحكم اتكائه على مسلمة تقر بتاريخية المفاهيم وتقدمها وفق شروطها التاريخية، غير أن ذلك لا ينفي وجود جهاز كان يسهر على تنظيم الحياة اليومية للناس وممارسة السلطة على مختلف قطاعات الاجتماع السياسي في الإسلام الكلاسيكي، بل وكان موضوع صراع القوى المتنافسة على احتكار السلطة. يتحدث المؤرخون عن دولة بني أمية مثلاً، هم لا يقصدون دولةً بالمعيار الحديث، لها حدود سياسية وجغرافية معينة تتحددُ على ضوئها السيادة بمعناها الحديث، وإنما عن مُلك بني أمية بعد نجاحهم في الهيمنة على مختلف وظائف الدولة (من منصب الإمام، والمظالم، والقضاء، والحسبة، والسلطة العقابية والرقابية والضريبية للدولة)، ومكونات الملك، (من عامة (رعية) وخاصة وجند وبيت مالٍ). لذلك ميز ابن عساكر منذ القديم بين الملك والدولة، وعندما شبه الماوردي الدولة بالثمرة، وأقر بحتمية فسادها، فإنه عبر بذلك عن نتيجة استخلصها من التاريخ الإسلامي نفسه، مفادها أن الصراع يكون على احتكار المُلك وخيراته، وأن هذا الاحتكار لا يمكنه أن يدوم، وإنما هو عرضة للتلاشي والتفتت بسبب تعاقب الأجيال وابتعادهم عن أسس الملك على حد تعبيره؛ وهو ما يقود بالضرورة إلى تداوله، غير أن هذا التداول نفسه يتأثر بوضعية الملك، متى قوي هذا الأخير كانت الدولة مستقرة وثابتة، ومتى تصدع آذن ذلك بأفول الدولة. انتهى ابن خلدون إلى نتيجة مماثلة في ما بعد، مع التقدم خطوة في التحليل عندما ربط حركة الدولة بالعصبية التي حاول الماوردي تجنبها بمختلف الطرق الممكنة.
ولهذا، فعندما أحلل وظائف “الدولة” من خلال أحكامها السلطانية، فإن الأمر يتعلق بمحاولة لفهم الوضع القانوني لكل تلك الوظائف ولعملية توزيع السلطة داخل نسق وظائف الدولة، وهذا ما يفرض علينا الوعي بالطبيعة المعيارية لخطاب فقه السياسة الذي اتخذ صورة نسقية في كتابات الفقهاء. تعاملت مع ما ألفه هؤلاء باعتباره خطابا، له أسباب نزوله التاريخية وصلاحيته المعيارية، وحاولتُ أن أطرحَ عليهم أسئلةً من شأن التفكير فيها أن يجرنا، قسراً، إلى التفكير في حدود ما قالوه، من قبيل مقدار وعيهم بالتمايز القائم بين الشرعية والمشروعية، والعدالة والعدل، والشرع والدين، ومصدر فكرة الحق على ضوء علاقته الجدلية بمعيارية الشرع ومحايثة الحق للإنسان، وعلاقة الفعل السياسي بالزمن من خلال تحليل تصورهم لمسألة الإصلاح، ووعيهم بالتمايز بين السلطة والدولة…الخ.
وهل كان بمقدورهم أن يتمثلوا الدولة كما تمثلها الفكر الحديث منذ ماكيافلي؟
إذا أجبنا بالإيجاب نكون قد حملناهم ما ينوؤون بحمله، لكن ذلك لا يعني أنهم كانوا في غفلة عن الدولة وأسئلتها فقط، لأنهم عاشوا قبل لحظة ماكيافلي، طالما أن السياسة كما الدولة شرط لكل اجتماع إنساني ممكن.
لا ينبغي أن نفهم من هذا دعوة إلى الاعتداد برؤيتهم إلى السياسة والدولة، إذ هي رؤية محدودة بالإطار المعرفي والتاريخي الذي نشأت فيه، بقدر ما يتعلق الأمر بدعوة إلى الوعي بمحدودية تلك الرؤية والعمل على تفكيك حضورها في ثنايا وعينا السياسي الحالي.
لماذا استثنيت الفقه السياسي الشيعي من كتاب “دولة الفقهاء”؟
لسببٍ منهجي، حصرُ موضوع البحث وتفادي تعميم النتائج. والهاجس نفسه هو الذي حملني على حصر الموضوع في الفقه السني الكلاسيكي بدلاً من توسيع التحليل ليشمل الاجتهادات المعاصرة في الموضوع.
اشتغلت أيضاً على الاستشراق من خلال كتابك “الرسول المتخيل”. ما الدافع إلى العودة إلى الاستشراق مرة أخرى؟
علاقتنا بالاستشراق لم تحسم بعد رغم ما يقال عن الثقافة الغربية المعاصرة من أنها صفت حسابها مع الاستشراق من حيث هو تخصص معرفي، بعد أن انصهر في تخصصات أخرى كالتاريخ الثقافي والاجتماعي، وتاريخ الأديان المقارن…الخ. أقول إنها لم تحسم بعد لأن استيعاب المكتسبات المعرفية لهذا التراث الاستشراقي الكبير لم يتحقق بعد، والأنكى من ذلك أن جلنا ساير أطروحة إدوارد سعيد في الموضوع، فاكتفينا بربط الاستشراق بالامبريالية لنضيع بذلك فرصة الاستفادة منه، وما عليك إلا أن تقرأ المقدمات التي كتبها بعض المترجمين لكتب المستشرقين حتى تقف على حضور هذا الهاجس عندهم (يمكن العودة على سبيل المثال إلى مقدمة الترجمة العربية لكتاب باتريشيا كرون تجارة مكة).
عندما نقف على ردود فعل الفكر العربي على الاستشراق، نلاحظ أن قلة قليلة من خيرة مفكرينا هي التي استطاعت مضارعة المستشرقين ونقدهم من داخل خطابهم. يمكن أن نشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أنور عبد الملك، وهشام جعيط، وعبد الله العروي، ومحمد أركون، وإدوارد سعيد، ورضوان السيد، وسالم حميش، ومن نحا نحوهم في التعامل النقدي مع القول الاستشراقي. حاول كل واحد من هؤلاء مراجعة المسلمات الضمنية التي قام عليها هذا الخطاب، على مستوى الرؤية تارة، والمنهج تارة أخرى، لكن الثابت أنهم أفادوا من التراث الاستشراقي واستطاعوا تجاوز حدوده في كثير من الأحيان كما هو بين من نقد العروي لفون غرومباوم، ومن القراءات التي يقدمها رضوان السيد للتراث السياسي الإسلامي. يمكن أن نعيب على المستشرقين مواقفهم المسبقة من الإسلام، يمكن- أيضا- أن نسجل بامتعاضٍ اكتفاءهم بالفيلولوجيا في قراءة التراث الديني الإسلامي، وذهولهم عن مكتسبات العلوم الإنسانية كما فعل أركون؛ ويمكن أن نعيب عليهم اقتصارهم على النصوص المعبرة عن العقل الرسمي دونما عناية بالجانب اللامفكر فيه من الثقافة الإسلامية…الخ، غير أن ذلك كله لا يطعن في القيمة المعرفية لكتبهم، وأي نقاش معهم ينبغي أن يتجاوز حدود السجال العقيم صوب الإفادة من فكرهم وتقويم وجهة نظرهم بعيدا عن إيديولوجيا “المواجهة” و”المقاومة”.
في ما يتعلق بكتابي “الرسول المتخيل” فإنه كان تعبيراً عن هذا الاقتناع تحديداً، وحاولت أن أبين فيه أن قوة المستشرقين تكمن في الأسئلة التي يطرحونها على المسند السيري والتاريخي المنتج لصورة النبي محمد (ص)، وأن الاكتفاء برفض ما قالوه في موضوع السيرة لا يمثل في حد ذاته بديلاً لأطروحاتهم، لذلك وجب الإنصات لهم ومناقشتهم على مستوى تأويلهم للمصادر التاريخية والدينية التي اعتمدوها في رسم تلك الصورة القلقة عن شخصية الرسول بعيدا عن السجالات العقائدية التي تبعدنا عن البحث المعرفي.
تعليقات الزوار ( 0 )