هل المغرب مقبل على تغيير جذري فعلا في أسلوب تعامله مع تغول الفساد، أم أنها مجرد “حملة” من الحملات الموسمية التي تهدف إلى وضع بعض الرؤوس الفاسدة تحت “المقصلة” من أجل الإلهاء المرحلي، وشغل الرأي العام عن “القفة” ومشاكلها، وما يليها من مستلزمات “الحد الأدنى” الذي أصبح ترفا تحلم به حتى الطبقة المتوسطة المنكوبة؟
سؤال طويل ستتكفل الأيام القادمة بالإجابة عنه، ما يغنينا عن التسابق على التكهنات والتنبؤات؛ فالتحليل العلمي يتطلب التوفر على معلومات مضبوطة، والحال أنه لا أحد يستطيع الادعاء بأنه يعرف ما يدور في “عقل الدولة”، عندما تقرر الإقدام على خطوة من هذا النوع، سيكون من تبعاتها -لا محالة- توفير الطلقات للحملات الإعلامية الخارجية، “المسعورة” و”المغرضة” التي تتهم هذه “الدولة” برعاية الفساد وحمايته.
وفي ظل صعوبة ممارسة مهمة التحليل، يبقى المجال مفتوحا لطرح كثير من التساؤلات، القديمة/ الجديدة، التي عادة ما تبقى دون جواب.
فقبل عقود، وتحديدا عندما اندلعت المواجهة بين الشقيقين حافظ ورفعت الأسد، على “عرش سوريا” بعد ظهور فكرة “التوريث”، أعلنت دولة “حافظ” الحرب على “الفساد” الذي صار -فجأة- ممثلا ومسجدا في “الأخ” نائب الرئيس، الملازم الذي أصبح جنرالا بسرعة البرق، فكشف الإعلام الرسمي أن “رفعت” كان يملك، مطارا تدخل منه السلع دون رقيب، وتخرج منه الأموال دون حسيب، وميناء خاصا، وأسطولا من السيارات الفارهة.. وما لا يحصى من القصور والإقامات والضيعات والشركات.. والاحتكارات..
إن أجمل تعليق على ذلك المشهد، هو ما خطه الراحل عبد الجبار السحيمي عندما تساءل يومها “بخط اليد”: أين كانت “الدولة” وأجهزتها ومؤسساتها، عندما كان هذا الفساد يبني المطارات والموانئ؟
وهو سؤال يمكن إسقاطه على نازلة شبكة “البعيوي” ومن معه.. دون رتوشات..
من جانب آخر، وبغض النظر عن “قرينة البراءة” التي لم تعد “حقا يراد به باطل”، بل أصبحت “باطلا يراد به باطل”، فإن السؤال المطروح يتعلق بالخلفية الاجتماعية لرؤوس هذه الشبكة الإجرامية؟
ألسنا أمام نسخ تام لظاهرة “أغنياء عصر الانفتاح” في مصر السادات؟
وهل يجوز الاختباء وراء “العصامية” والحال أن سبل الاغتناء السريع في المغرب لها ثلاثة منافذ لا رابع لها: إما تجارة المخدرات، وإما سرقة المال العام، وإما الريع الذي توفره رخص البر والبحر لعينة قليلة من المحظوظين؟
ولماذا لا يتساءل أحد عن سر غياب “البرجوازية الوطنية” عن المشهد السياسي؟
فمن المسلم به أن “القوة الاقتصادية” تسعى دائما للتعبير عن نفسها سياسيا، لكن الغريب أن العائلات العريقة في الثراء، غائبة اليوم عن المشهد بصفة شبه تامة، والتفسير بسيط: إن هؤلاء راكموا ثرواتهم بعرق الجبين أبا عن جد، وفي أنشطة شرعية، ولهذا لا يمكنهم منافسة أصحاب الثروات المشبوهة المتولدة عن “المال السهل”، كما يسميه الفرنسيون، الذي يستثمرونه في شراء الأصوات والتواطؤات خلال الانتخابات.
لابد -إذاً- من إدراك حجم الخسارة الفادحة التي طالت العمل السياسي عندما أقصيت “البرجوازية الوطنية” عمدا، وفُتح المجال أمام “المشبوهين” لاحتلال المواقع الانتخابية من أصغر جماعة قروية، إلى صفة “تمثيل” الأمة في المؤسسة التشريعية؟
وتبعا لذلك، من الغريب أن يسعى البعض لتحميل حزب “الأصالة والمعاصرة” وحده، الجزء الأكبر من تبعات هذه الفضيحة، باعتبار أن رؤوسها كانوا من أقطابه.
أليست هذه نتيجة طبيعية للحرب المعلنة على السياسة في المغرب؟ ألم تصرف الأموال الطائلة من أجل خلق “طبقة سياسية جديدة” لا تفهم سوى لغة “الدينار”؟
أليست الأحزاب قبلة للفاسدين والمشبوهين، حتى أنه صار من المتعذر العثور على “مناضل حزبي” صفحته خالية من “الشبهات”؟
ثم، ألا يلاحظ أحد كيف أن الأغلبية الساحقة من المنتخبين المتابعين في ملفات الفساد المالي محسوبون على الحزبين الرئيسيين في الحكومة الحالية، اللذين حققا اكتساحا، لا على أساس برنامج سياسي أو اقتصادي، بل اعتمادا على “الكائنات” الانتخابية المعلومة؟
إن قمة العبث، أن تنطلق من مقدمات “مُجربة” وتتوقع نتائج مغايرة.
فـ”الدولة” أصبحت تفضل “العمل” مع الفاسدين، لأنهم أطوع لها من بنانها، ولأنها تتحكم فيهم بـ”جزرة” المصالح، و”عصا” ملفات الفساد، وأيضا لأنها تستطيع أن تمزق صفحتهم من دفاترها في أية لحظة، ودون خسائر تذكر.
والخلاصة..
من الغباء الاعتقاد بأن محاكمة بعض رموز الفساد كفيلة بإعادة “القطار” إلى سكته الصحيحة.
إن الأمر يحتاج، ليس فقط إلى إرادة سياسية حقيقية، لمواجهة غول الفساد الذي أصبح فعلا خارج السيطرة، بدليل أن شبكة الناصري والبعيوي ومن معها ما كانت لتتصرف بهذه الرعونة والتهور، لولا أنها كانت تتوفر على مظلة سميكة جدا..
الأمر يحتاج في الواقع إلى الاقتناع بداية، بأن التطبيع مع الفساد سيعيد البلاد حتما إلى زمن “السيبة” التي وسمت فترات طويلة من تاريخ المغرب، وخطت صفحات سوداء أدت ضمن ما أدت إليه إلى إضعاف البلد الذي أصبح “رجلا مريضا” تقاسمته القوى الدولية، ومازال لحد الآن يدفع ثمن تلك اللحظة..
أحيانا.. يخيل لمن يتابع ما يجري، أن هناك “جهة ما” تدفع في هذا الاتجاه فعلا..
ويكفي أن نتابع -مثلا- كيف دبرت “حكومة الظل” أزمة التعليم الأخيرة، وكيف غضت الطرف عن زواج “المال بالسلطة”.. وعن تغول لوبيات المحروقات والفلاحة.. لرفع هذه الخلاصة من مستوى الفرضية إلى درجة الاحتمال الوارد..
تعليقات الزوار ( 0 )