Share
  • Link copied

غليون: العداء لقمع النظام السوري وقود يذكي شرارة الثورة السورية

حاوره من باريس : نورالدين لشهب

اعتبر برهان غليون، المفكر السوري المعروف، أن انخراطه في الثورة السورية، بعد سبعة أشهر من انطلاقتها، كان بسبب موقف أخلاقي صرف يفرضه دور المثقف في المراحل المفصلية والعصيبة التي يجتازها الوطن.

وأكد غليون أن موقعه المستقل من خارج صفوف المعارضة المتنازعة، الذي استمده من موقعه كمثقف، هو ما رشحه للعب دور ريادي وقيادي في الثورة السورية التي لا تزال مستمرة ولا يملك أي كان أن يوقفها، لأن من خصائص الثورات أنها “مباغثة وفجائية”.

الحوار مع المفكر السوري سيتطرق أيضا إلى بعض خصائص الثورة السورية ودور السياسيين المعارضين والنخب السورية المتصارعة .. وأشياء أخرى تكتشفونها في هذا الحوار الشامل مع صاحب “محنة العقل العربي بين السلفية والتبعية”.

نرحب بكم دكتور برهان غليون في هذا الحوار..

مرحبا

يعتبر رايمون آرون، عالم الاجتماع الفرنسي، في تقديمه لكتاب “العالم والسياسي المثقف” (Le Savant et le Politique)، لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن العالم/المثقف يستدعي إمكانية توفير مدارك العقل، بينما السياسي ممزق بين الالتزام الأخلاقي وفق القناعات الشخصية والالتزام الأخلاقي بالنظر إلى مسؤوليته العامة، وأنت الباحث والمفكر انخرطت في الثورة السورية بعد انطلاقتها في الوقت الذي كنت منخرطا في التزامك الذي يمنح لك قيمة المثقف/العالم، كيف استطعت أن توفق بين مهمة الباحث ومهمة السياسي الذي يطمح إلى تغيير الأوضاع؟

هناك مساحات تقاطع واسعة بين العلم والسياسة، فالعالم الذي يكرس وقته للبحث، بعيدا عن التحيزات الاجتماعية والإيديولوجية في ميدان بحثه، هو أيضا مواطن في مجتمع، ومكره على الاختيار بين التوجهات المختلفة وأحيانا المتضادة التي يفرضها الصراع الاجتماعي في السياسة والمجتمع والأخلاق.

وهذا ما يفسر المواقف السياسية والأخلاقية القوية التي تصدر غالبا عن كبار العلماء، بدوافع إنسانية أو أخلاقية، رغم بعدهم عن السياسة وانشغالهم بميادين بحث لا علاقة لها بالصراعات الاجتماعية. والسياسي الذي لا يشغله إلا السعي إلى جمع وتنظيم الكسور الاجتماعية في سبيل تكوين الفاعل، وإيجاد القوة الضرورية لتغيير الواقع، استجابة لمبادئ وقيم أخلاقية، لا يستطيع أن ينجح في عمله التغييري من دون الاستفادة من المعرفة العلمية بالمجتمعات ونظمها وبنياتها وتناقضاتها وقوانين حركتها.

ولا يستقيم العلم، من حيث هو بحث عن الحقيقة، وفهم الواقع كما هو، أي بما هو تمثل لبنية علمية قائمة موضوعية، ومن حيث هو تجربة شخصية في التجرد عن الهوى، من دون حد أدنى من السياسة، أي من الانخراط الاجتماعي الذي يضع البحث العلمي وأجندته في سياق تحول المجتمع الكلي، ولا تستقيم السياسة، من حيث هي ممارسة فن تغيير الواقع والوقائع الاجتماعية، وقدرة على ترتيب القوى وتجميعها وتفريقها لتعظيم فرص التحكم والنفوذ وتراكم السلطة، من دون حد أدنى من المعرفة الموضوعية، أي العلمية.

وبالنسبة للمفكر برهان غليون؟

بالنسبة لي، لم أكن رجل سياسة أو محترف سياسة، ولا بحثت عن رئاسة أي مجلس وطني أو جمعية أو حزب. وربما خسرت، كما يقول كثيرون، في قبولي رئاسة المجلس والتخلي عن أبحاثي والعمل في ميدان ليس ميداني. لكن لم أفعل ذلك مختارا، ولكنني دفعت إليه من قبل جمهور انتظر السياسيين، بأحزابهم وكتلهم وقياداتهم التاريخية، سبعة أشهر كاملة، بعد اندلاع الثورة.

وكنت أنا نفسي في تواصل دائم معهم لتشجيعهم على تشكيل جبهة شعبية عريضة لدعم الشباب الثائرين، الذين كانوا يصطادون من قبل رجال القمع كالعصافير في كل مظاهرة، وفي ما بعد، في منازلهم، قبل أن يعلنوا إفلاسهم ويخرجوا منقسمين ومتخاصمين. وقد قبلت الانخراط في هذا العمل بوصفه واجبا ومهمة وطنية وإنسانية معا، للرد على النداء الشعبي الذي وجه لي من قبل الكثير من المتظاهرين والنشطاء السياسيين لتوحيد المعارضة.

أفهم من كلامك أنه أمام ضعف المعارضة التقليدية غامر المفكر برهان غليون لاتخاذ “الموقف الأخلاقي المطلوب”؟

نعم، أمام فشل منظمات المعارضة التقليدية، لم يكن هناك خيار آخر، لم تكن المغامرة واجبة فحسب، ولكنها كانت موقفا أخلاقيا ملزما.

وبعكس ما يعتقد البعض اليوم، لم تكن “ورقتي الرابحة” في صفوف نشطاء الثورة الذين اختاروني ممثلا لهم، خبرتي السياسية و”التنظيمية”؛ إذ لم أكن في أي وقت عضوا في أي حزب أو منظمة، وإنما استقلالي الذي استمدْتُه من موقعي كمثقف، من خارج صفوف المعارضة المتنازعة والمتصارعة والعاجزة عن الاتفاق والتفاهم، وموقفي كناشط حر في ثورة تتجاوز أفق السياسة المعهودة ومصطلحاتها.

كان المطلوب مني أن أجمع السياسيين وأوحد صفوفهم لا أن أتحول إلى سياسي مثلهم. وهذه كانت أكبر مفارقة في الدور الذي قمت به في المجلس، والذي بمقدار ما قربني من جمهور الثورة ورفعني إلى مقام الممثل الأول لها، وضعني في موقف الصراع مع السياسيين، ودفعهم شيئا فشيئا، بعد تأكدهم من نجاح مهمة بناء المجلس الوطني والقبول الذي لاقاه في صفوف الشعب والأوساط الدبلوماسية العربية والأجنبية، إلى الانقلاب عليّ والسعي إلى السيطرة على المجلس.

وبالمناسبة نفسها، الخسارة التدريجية لثقة الناشطين، والعودة إلى القواعد الهشة التي كانوا يحتلونها في نظر جمهور الثورة قبل تشكيل المجلس الوطني. وما من شك في أن حصول الإجماع حول اسمي لتمثيل الثورة وتشكيل مجلس قيادتها كان إدانة مضمرة للمعارضة السياسية التقليدية وإعلانا عن خيبة الأمل في قادتها وسياساتها القائمة على التنافس على المواقع والمناصب والنزاعات الشخصية والعجز عن التفاهم في أحلك ساعات المواجهة الدموية بين الناشطين وقوى القمع الدموية.

هل تشعر بأنك أخطأت الاختيار؟

ليس لدي أي شعور بأنني أخطأت الاختيار، وأن ما قمت به خدم مجموعة الأحزاب السياسية الفاشلة بالرغم انقلابها على عهودها، ولا بأن دوري في قيادة المعارضة قد حرمني من استقلال المثقف وصفاء ذهن المفكر الحر والنقدي، ولا شعرت لحظة بأنني تهت عن نفسي في سراديب العمل الثوري الذي لا ينتمي لأفعال السياسة بمقدار ما يعكس الإيمان برسالة ويلتقي مع أفعال التضحية والشهامة والفداء.

بقيت مثقفا، في عطلة إجبارية عن البحث، للقيام بواجب إنساني له الأسبقية على أي واجب علمي، دفاعا عن شعب يتعرض لعملية إبادة سياسية وإنسانية، وفي ما بعد جسدية، بعد نصف قرن من القهر والتجريد من أي حقوق وحريات، وممارسة كل أنواع القتل والتعذيب والتنكيل بحقه، ومن أجل إيصال صوته ومعاناته إلى العالم.

لم تغير الثورة من هويتي، ولم تفصلني “ثقافتي”، أو هويتي الثقافية، عن جمهور الشعب وثواره. بالعكس، لقد قربتني منهم كما لم يحصل لأي سياسي، بقدر ما حررت سياسة الرهان على الحرية واستقلال الرأي وعيهم المولود من جديد، وأفرغت مخيلتهم من ذكريات سياسة الاستسلام السابقة ومن قيم ورهانات التبعية واحتقار الذات التي تكبل أي إرادة وتُميتها، كما فتحت أمامي آفاقا أعظم للتعلم والمراجعة والمعرفة التاريخية والاجتماعية والتعرف على حركة الشعوب في ثوراتها اللاهبة.

أعتقد اليوم، أكثر من أي فترة سابقة، أن السياسة ليست ولا ينبغي أن تكون حكرا على السياسيين، ولا أن تتحول إلى مهنة تمارس من قبل رجال محترفين. هذا مقتل السياسة وانتحارها، تماما كما هو الحال في الدين الذي أول من يعبث به ويخون قضيته الرئيسية ويفسده رجال الدين وكهنته المدعيين.

وبالمثل، ليس للسياسة في الثورة، أو للسياسة الثورية علاقة بمنطق السياسة الاحترافية، حتى في أنبل صورها، كتأسيس لسلطة وحكومات عادلة وقانونية. كما أن الثورة ليست سياسة، بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي لحظة انقطاع في التاريخ الطبيعي أو العادي، تحكمها قوانين خاصة، بمقدار ما هي لحظة استثنائية تجعل جميع الأفراد يخرجون من جلدهم، ويغيرون سلوكهم، وينسون مصالحهم الضيقة للانخراط في معركة القيم والمبادئ، على اختلافها، ويتجاوزون أنفسهم وشرطهم المادي، ويتغلبون على ضعفهم وتناقضاتهم وخلافاتهم، ليعانقوا معا أفق الحرية. والمثقفون الذين غابوا عن هذه اللحظة أو تغيبوا عنها أو لم يعوا أهميتها ومضمونها، فقدوا ماهيتهم الثقافية والاجتماعية معا، وتحولوا إلى خرق مرمية على قارعة المجتمع لا تهم أحدا ولا أحد يوليها أي أهمية أو اعتبار.

هناك من يذهب إلى أننا خسرنا برهان غليون المفكر، أي منذ ما يقرب من سبع سنوات لم نر في السوق كتابا للمفكر من قبيل “بيان من أجل الديمقراطية”، “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات”، “اغتيال العقل”، “المحنة العربية: الدولة ضد الأمة”، “نقد السياسة”، “الدين والدولة”، في حين أصبح الجميع يتابع برهان غليون السياسي من خلال مواقف سياسية؟

أبدا، لقد كان مصدر إلهامي في كل ما كتبت، منذ أول كتاب، بيان من أجل الديمقراطية، تعاطفي مع المعاناة غير الإنسانية التي يتعرض لها الشعب، في سورية وغيرها من البلاد العربية والنامية، لكن في سورية كانت المعاناة هي الأشد والأقسى، كما سيظهر ذلك الحرب التي شنها النظام والعنف الذي استخدمه لتدمير الحاضنة الشعبية، وتهجير المدنيين وحصارهم وتجويعهم وسلخ جلودهم واغتصاب الأطفال والنساء بالجملة حسب برنامج ممنهج لكسر إرادة السوريين وترويعهم وفرط اجتماعهم بالكلية.

ولو تأملت عناوين مؤلفاتي التي ذكرتها وغيرها لوجدت التعبير الواضح عن ذلك. الثورة والحرب الهمجية التي شنت على السوريين لسحقها والحصول على استسلامهم وخنوعهم، هي مصدر إلهام جديد لي في كتاباتي ودراساتي الحالية، وعتبة انطلاق نحو مرحلة جديدة من المعرفة الانتقادية الاجتماعية.

لم أنظر إلى موقعي الجديد على أنه تغيير في مساري الشخصي، فأنا لم أكف في عملي الفكري والأكاديمي عن تأكيد أولوية الحرية من حيث هي إنهاء لسياسة تهميش المجتمعات وفرض الوصاية على الشعوب وحرمانها من المشاركة في تقرير مصيرها. كما أنني لم أر في الثورة مسألة سياسة بالمعنى الشائع، أو مجرد فعل سياسي، ولو كانت حدثا يدخل في هذا الحقل، وإنما نقيضهما.

لقد رأيت فيها فعل تحرر من نظام القمع والتمييز والإكراه وفلسفته من جهة، ومن نظام القمع الداخلي واحتقار الذات والتسليم بالعجز عند جمهور فقد لعقود ثقته بنفسه وربما بإنسانيته. فهي، قبل أن تكون صراعا على السلطة حتى في شكله الأرقى، أي تغيير النظام الاستبدادي إلى نظام ديمقراطي، كانت تعبيرا عن ولادة إرادة ووعي بالحرية، وتقدم الرهانات الأخلاقية والقيمية على الرهانات المصلحية. لقد كانت الثورة فعلا أخلاقيا من الطراز الأول، فوق السياسة أو سابقا عليها ومؤسسا لها في الوقت نفسه.

وقد نظرت إلى وجودي على رأس مجلس يمثل ثورة شعبية مادتها الوحيدة التضحية ونكران الذات وافتداء الحرية، على أنه تجسيد لحقيقة تقدم هذا الموقف المبدئي والمعياري في السياسة على السياسة الاحترافية وحساباتها الضيقة، بل هو نموذج لإعادة السياسة، عبر المخاض الثوري، إلى جوهرها، من حيث هي خدمة عمومية، ومدرسة لتعليم قيم التضحية ونكران الذات لصالح المجموع.

وهذا هو مضمون أي ثورة حقيقية. بهذا المعنى، لم يتحول المثقف الذي كنته إلى سياسي إلا بمقدار ما تحولت السياسة ذاتها إلى موقف ثقافي، أي مبدئي، موقف تصالح المجتمع مع الحرية والكرامة والعدالة المهدورة، في مواجهة الفساد والاستبداد وانعدام المسؤولية وانتهاك أبسط القيم الإنسانية.

بمعنى أن هناك مشاريع فكرية في طور الإنجاز؟

أكيد هناك مشاريع ستظهر تباعا في المستقبل…

أتدري، عندما انتخبت رئيسا للمجلس الوطني، وبعد شهرين من المعاناة، طلبت موعدا من رئيس الجامعة للحصول على إجازة غير مدفوعة لأتفرغ لمهمتي الجديدة. وكنت خائفا أن لا أستطيع الحصول عليها. وما كدت أشرح للرئيس وضعي حتى بادرني بالقول:” نحن نعرف ذلك ونشاهد مقابلاتك على التلفزيونات، والجامعة فخورة بك. وأنا نفسي فكرت منذ أسابيع بأن أعفيك من بعض الحصص لأخفف عنك”.

وعندما رأيت موقفه الإيجابي خطر لي أن أطلب إجازة براتب حتى أستطيع أن أمول أيضا نشاطي الجديد. وقلت أنا منذ سنوات لم آخذ عطلة سبتية، فإذا كان ذلك ممكنا تكون مساعدة كبيرة لي في مهمتي الجديدة. فأجابني بالإيجاب، وقال:” نعتبر ذلك مساهمة من الجامعة في دعم الثورة السورية، وسأعتبرها عطلة بحثية، فما تقوم به هو عمل ميداني من الطراز الأول، وبالتأكيد ستكتب بعد ذلك وتفيد البحث العلمي”.

أستطيع أن أقول أنا الآن في عطلة سبتية لاستكمال البحث في الأزمة العربية، وليس السورية فحسب.

وهذا ما فهمه رئيس الجامعة الذي لم يعترض على رئاستي للمجلس، وهو عمل سياسي من الطراز الأول، ولم يقل لي أنت باحث ومدرس وعالم لا علاقة لك بالسياسة كما فعل كثير من المثقفين العرب في ما بعد.

من المعلوم أستاذنا أن زاد المثقف هو “النقد” (La critique‬)، أين أخطأت الثورة السورية؟ أنا لا أتحدث عن النظام فخطاياه كثيرة؟

نحن نخطئ في تعاملنا مع التحديات التي تواجهها الثورات الشعبية، أقصد المثقفين والسياسيين، لكن الثورة لا تخطيء لأنها كالبركان المتفجر. هل يخطئ البركان عندما يحرق كل من يقف على طريقه؟ المخطئ هو نظام القهر الذي سلخ جلد المجتمع وجعله يعيش على اللحم الحي، ودمر معنوياته وجرده من أي حقوق وقيم وتنظيمات مدنية أو سياسية أو أهلية، وسحقه كما يسحق الدقيق بحيث لا يستطيع مهما بذل من جهد أن يعيد بناء روابطه الاجتماعية.

المجتمع الذي دمرت مؤسساته جميعا، بما فيها الأسرة والمدرسة والنقابة والجمعيات المدنية، ولغمت مؤسساتها السياسية والاقتصادية، وأصبحت جميعا واجهات لسلطة سوداء فاشية واحدة، ما كان بإمكانه، بالرغم من زخم اللقاء في ساحة الاحتجاج والعداء الموحد لنظام القهر، أن ينتج مؤسسات جديدة، تحت القصف، وفي المعتقلات الجماعية التي أطلقت عليها تقارير المنظمات الحقوقية مسالخ بشرية، وهي كذلك بالفعل، وأن يعيد تنظيم نفسه، واختيار قيادة تليق بتضحياته في مخيمات اللجوء والتشرد ومعاناتها.

وبعد أن محا نصف قرن من الاغتيال السياسي والفكري ذاكرته، لم يعد لدى الشعب إرث واضح من الحياة المدنية يبني عليه لاسترجاع صورة هذه المؤسسات، ولم يشارك في كل حياته وحياة أبنائه خلال سنوات حكم الطوارئ والأحكام العرفية المؤبدة كالرئيس، وإعدام السياسة وحرية الرأي في أي اجتماعات، مهما كان نوعها.

وما كان بإمكانه أن يتفرغ للتفكير بإبداع مؤسسات جديدة وهو تحت القصف الهمجي اليومي، منذ سبع سنوات دون انقطاع، بالبراميل المتفجرة، وأسير حصارات التجويع، والتهجير القسري والتشرد الذي مس نصف السكان، أي 12 مليون نسمة يبحثون عن مأوى في مخيمات تكاد تستحيل الحياة فيها.

لم يوفر له نظام الحكم وطغمته الحاكمة الفاسدة، ونخبه الاجتماعية “الراقية” العلم والخبرة، ولا الثقافة السياسية والمدنية اللازمة لإقامة مثل هذه المؤسسات. ولم يتعلم أبناؤه، حتى خمسة أجيال متتالية، في أي لحظة، الجلوس معا والحديث، في اجتماع أو ندوة أو مؤتمر أو طاولة مستديرة، ليناقشوا أمور وطنهم ومجتمعهم.

ما تعلموه في ظل نظام العبودية الكريه أن يملى عليهم كل شيء، وأن يعاقبوا على كل فكرة أو سلوك لا ينسجم مع ما يملى عليهم، ويتهموا ويشكك في قدراتهم وإمكاناتهم العقلية والسياسية، ويحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة، وعلى ما يفعلونه وما لا يفعلونه، من أجل إذلالهم وتدجينهم وتدريبهم على التسليم والخنوع.

أتذكر، للنكتة، زيارة لي إلى سورية قبل أكثر من عشر سنوات. وفي المطار عند الوصول، وقفت مع ابنتي التي لم تكن تتجاوز السنة من عمرها أمام حاجز الأمن للعبور إلى الداخل، وقدمت جوازي السوري وجواز ابنتي الذي كان ما يزال فرنسيا. وبعد أن ختم الضابط المسؤول جوازي فتح جواز ابنتي وقال: ينبغي أن تذهب البنت إلى نافذة الأجانب.

قلت هذه ابنتي ولا تستطيع أن تقف في الصف لوحدها. قال: تصرف. فحملت ابنتي وذهبت إلى النافذة المخصصة للأجانب، وكان هناك صف طويل يقتضي الانتظار ربما ساعة بعد انتظار أكثر من ساعة سابقة. لحسن الحظ أن بعض الذين يفهمون العربية من الأجانب ممن كانوا في الصف أشفقوا علي وقدموني عليهم حتى لا أنتظر طويلا.

قلت ممازحا للضابط الذي استلم جواز ابنتي: هل كان من الضروري أن أغير النافذة؟ إنها طفلة صغيرة، وأنا والدها، ولم تقم بأي عمل إرهابي بعد، ولا أعتقد أن في ملفها ما يلفت. أجابني وهو يكتم غيظه من تعليقي: لأن ملف الأجانب عندي هنا، وبدأ يسألني عنها لفتح الملف.

ليس هناك سوري واحد لم يسجن أو يلاحق أو يعنف أو يوبخ من قبل أجهزة الأمن، هو أو أحد أفراد عائلته أو كلهم، بما في ذلك داخل ما يسمى الحاضنة الاجتماعية له. وقد ذكر لي صديق كان يحتل منصبا رفيعا في الدولة عرفته في سنوات الدراسة أن ابنه الذي يدرس في الخارج، قدم إلى البلاد، فأوقف في المطار.

وبقي يبحث عنه، مع أصدقائه، من كبار المتنفذين، أياما قبل أن يعرف اسم فرع المخابرات الذي اختطفه ليخرجه. قال لي، عندما سألتهم كيف يعتقل فلان وهو ابني وأنتم تعرفونه وتعرفونني، قالوا لتحصينه وتقوية مناعته إزاء احتمالات الانحراف أو التأثر بالخارج. والواقع أن التعنيف المنهجي والإذلال المعمم حتى لأنصار النظام وأتباعه، ووضع الجميع تحت المراقبة والملاحقة، وإنزال العقاب بالمجرم والبريء، كل ذلك جزء من سياسة الترويع والتحقير ونزع الكرامة والاحترام الذاتي عند الأفراد وإشعارهم بأنه لا عاصم لهم، وليس أمامهم إلا الاستسلام والخنوع.

طيب، كيف تقيم أداءك في رئاسة المجلس الوطني السوري؟

أعتقد أنني لو كان عليّ أن أعيد التجربة من جديد لما فعلت شيئا مختلفا عما فعلته عندما توليتُ رئاسة المجلس. كان هدفي أن أجعل منه إطارا جامعا لكل السوريين المعارضين لنظام الاستبداد، وممثلا أصيلا لهم على الساحة الدولية وفي الصراع مع النظام، وأداة لحشد الدعم والتأييد لانتفاضة الحرية السورية.

ومن أجل ذلك كان خط المجلس السياسي على الصعيد الداخلي العمل على توحيد جميع تيارات الرأي المعارض وتجسير الهوة بين التيارات والقوى المتنافسة السياسية والمدنية، قلت إن معيارنا هو الانتماء إلى خط الدولة الديمقراطية المدنية التعددية في ما وراء الولاءات العقائدية والسياسية الإسلامية أو العلمانية، من دون عزل أو إقصاء أو هيمنة لطرف على آخر.

وعلى الصعيد الخارجي، كان خط المجلس المحافظة على استقلاله في مواجهة صراعات الدول الإقليمية والمحلية. وكنت أؤكد أنه ليس للمجلس أجندة خارج أجندة الانتقال نحو نظام ديمقراطي في سوريا. ليس للسوريين المطالبين بحقوقهم وحرياتهم عدو، سواء في دول الجوار أم بين الكتل والمحاور الدولية.

ونحن على مسافة واحدة من الجميع، ونريد حشد دعم جميع الدول وراء الشعب المنكوب والخاضع لحرب هستيرية. وكانت زيارتنا الأولى، بعد الدول العربية الرئيسية، لروسيا الاتحادية، بينما رفضت دعوتين لزيارة الولايات المتحدة كي لا نتهم بأننا أقرب إلى الغرب من البلاد الأخرى، ونزيل أي لبس حول استقلالنا.

وكنا متمسكين بسلمية الثورة وطابعها الديمقراطي المدني وقاومنا كل النزعات الطائفية التي كانت تتنامى بفعل سلوك النظام وخطته في تفجير الحرب الطائفية لتبرير تدخل الميليشيات العراقية والإيرانية والأفغانية وغيرها.

ورفضنا لفترة طويلة إقامة ذراع عسكرية للمجلس، وسعينا إلى أن نوحد الفصائل المقاتلة التي تشكلت قبل تأسيسه وأصبحت تحظى بمعونات خارجية وداخلية من أجل إخضاعها لخط المجلس وقيادته، وحاولنا أن نعيد تنظيم الضباط المنشقين وضباط الشرطة ونعيد تأهيلهم للعمل في المناطق المحررة أو التي خرج منها النظام.

بمعنى أنكم لم ترتكبوا أي خطأ وقمتم بما هو واجب أخلاقي وسياسي تجاه الوطن؟

لم نرتكب أخطاء في تحديد الخط السياسي في تلك الفترة، ولم ننفصل عن الشعب بمختلف طوائفه وفئاته أو عن الدول مهما كانت ميولها ومواقفها منا، وكان لنا تأييد كبير في الداخل والخارج لم يحظ به أي جسم سياسي قبل تشكيل المجلس وبعده.

من يمارس يخطئ، أليس كذلك؟

بلى، ربما كان خطأنا الرئيسي هو سوء تقديرنا لحجم الانخراط الممكن للدول الصديقة أو التي أعلنت أنها صديقة للشعب السوري في معركتنا والتزامها بدعمنا. وأولاها الدول الأوروبية التي كنا نراهن على دعمها بالفعل بوصفها الشريك الاقتصادي والسياسي القريب من العالم العربي والمشرق والمعني بتطور حياته السياسية.

وفي اعتقادي أن الأوروبيين والأمريكيين هم الذين ارتكبوا الأخطاء الفاحشة عندما ترددوا في دعمنا أو قللوا من مخاطر التضحية بنا، وهم يدفعون ثمنا كبيرا بسبب ذلك هو إخراجهم من قبل الروس من المنطقة واضطرارهم إلى الاصطفاف خلف موسكو والموافقة على الحل الذي يضمن مصالحها.

وعلى الصعيد الإقليمي؟

على الصعيد الإقليمي، ربما كان الخطأ الأكبر هو تساهلنا مع الإدارة الهزيلة للملف السوري وعدم احتجاجنا منذ البداية على الطريقة التي أدارت بها الدول العربية التي دعمتنا ملف الصراع، وحولته إلى صراع إقليمي على حساب قضيتنا؛ لكن هنا أيضا ما كان في مقدورنا ونحن نتعرض للهجومات الوحشية والدموية اليومية، من قبل الميليشيات والجيوش الأجنبية والأساطيل الجوية لتي لم تتوقف منذ سبع سنوات عن القصف والتدمير، أن نسمح لأنفسنا باستعداء من يقف معنا، أو أن نفرض عليه شروطنا.

في ما بعد فقدت المقاومة الشعبية، المتعرضة للقصف اليومي وحرب الدمار الشامل في الداخل، وتردد الغرب في القيام بأي رد على الهجوم الاستراتيجي الإيراني والروسي، في الخارج، الوزن الكافي لتضرب على الطاولة.

وفاقم بروز السلفية الجهادية منذ عام 2013، والتلاعب بها من قبل أكثر من طرف، وفي المعسكرين أو المحورين المتنازعين على تدمير سوريا والسيطرة عليها، الغربي والشرقي، من إضعاف المعارضة وتهميشها واستتباعها في ما بعد للحكومات والدول الداعمة المختلفة.

هناك من يقول بأن الجناح المدني للثورة لم يكن في مستوى تضحيات الشعب السوري وتطلعاته؟

لم يكن أي جناح، مدنيا كان أم عسكريا، إسلاميا أم علمانيا، في مستوى تضحيات وتطلعات السوريين. لم يحصل أن قدم شعب نفسه، راضيا، للموت من أجل تأكيد حبه للحرية وإرادته في صنع مستقبل مختلف لأبنائه، واستعادة كرامته المهدورة على مذبح الفاشية، ولا في ما لاقاه السوريون من تنكر وخذلان من قبل الحكومات الديمقراطية وغير الديمقراطية، ومن قبل المجتمع الدولي وحكوماته الصديقة والأقل صداقة معا.

إرادة القتل والدمار عند الطغمة الحاكمة كانت من دون حدود، والمقدرة على لجمها أو احتواء عنفها لا يكاد يذكر. لم تكن لدى النخب السورية، الخارجة من قبر الفاشية ممزقة ومهشمة وفاقدة لأي هيكل أو بنية صالحة للحياة، إمكانية احتواء الآثار الهائلة لهذا الدمار والقتل والعنف أو مواجهته. واجهه الشعب بجسده العاري، وبتضحياته الغزيرة، وصموده الأسطوري، وإصراره على الاستمرار، وامتصاص كل الصدمات والضربات. وهذا هو الوضع حتى الآن.

لم يكن لدى المجتمع الدولي أي حافز للتضحية من أجل سوريا والسوريين، بما في ذلك الدول التي كانت تدعي حراسة قلعة الديمقراطية. لا أحد منها أراد أن يضحي أو يأخذ أي مخاطرة من أي نوع كان؛ بل إن بعضها، كالولايات المتحدة، تاجرت بدماء السوريين لإرضاء إيران الخامنيئة وانتزاع التوقيع على اتفاق الملف النووي منها، تماما كما انتزعت السلاح الكيميائي السوري من نظام الأسد لصالح إسرائيل مقابل تجنيبها المسؤول الأول عن استخدامه المحاسبة والعقاب الذي هدد بهما، وتخليها عن دعم الثورة ومساعدتها على حماية نفسها من حرب الإبادة وتدمير المدن والقرى السورية برمتها.

سبق لي أن أجريت حوارا مع أحد القياديين في الثورة السورية من إسطنبول، وأكد لي أنكم أنتم المثقفون السوريون لم يكن لكم سابق معرفة فيما بينكم، إلى درجة أنكم كنتم تشعرون بالخوف والارتياب من بعضكم بعضا، وذكر لي هذا القيادي المقيم منذ الثمانينيات من القرن الماضي في تركيا قصة فريدة أن مثقفا سوريا جاء من فرنسا إلى تركيا وعاد من المطار لأنه غير واثق في الطرف الآخر… بمعنى أن القياديين المدنيين كانوا مرتابين وخائفين من بعضهم البعض.. أو ليست هذه أخطاء؟

هذا المثقف هو أنا نفسي، وقد عدت بالفعل من المطار دون أن أطأ الأرض التركية..

أعرف وقد أخبرني الضيف وطلب مني ألا أذكر ذلك في الحوار معه، وأنا الآن لم أشأ أن أذكر اسمك لأننا نتحدث عن حالة وليس عن أشخاص..

هذا صحيح، والطرف الآخر لم يكن مثقفا، ولم تكن المسألة تتعلق مباشرة بالثقة؛ ولكن بالكذب. كان مسؤولا حزبيا، وكان ممثله قد جاءني إلى باريس وقال لي إن شروطي من أجل المشاركة في بناء المجلس الوطني قد قبلت، وأهمها تعديل قائمة الأعضاء التي كانت معدة من قبل مجموعة تسمي نفسها مجموعة العمل الوطني.

وكنا قد قضينا الليل كاملا في ترتيب المسائل جميعا، وركبنا الطائرة في الصباح من دون أن ننام، واعتبرت أن الاتفاق قد حصل. لكنني عندما وطأت أرض المطار أردت أن أتأكد من الأمر ثانية لأنني كنت قد بدأت أفهم، خلال مداولات الأشهر السبعة الماضية، ألاعيب السياسيين المحترفين وخداعهم.

فاتصلت بالهاتف قبل عبوري حاجز الأمن لأسأل إذا كانت الشروط قد قبلت من الجميع بالفعل. فجاءني الجواب بأننا سنناقش حال وصولي للاجتماع، فغلقت الهاتف وعدت إلى باريس..

هذه هي العقلية التي كانت سائدة ولا تزال في أوساط النخبة السياسية التي ورثتها الثورة من نظام اعتمد الغش والخبث والخداع سياسة، ونوع الابتزاز والمساومات التي كان عليّ أن أواجهها، والتي خربت المجلس الوطني والائتلاف والعمل السياسي السوري جميعه في ما بعد. على إثر ذلك، اعترفت المجموعة بخطئها وتراجعت عن ألاعيبها؛ لكن فقط لتمرير مسألة تشكيل المجلس قبل أن تنقض من جديد عليه.

لكن في ما وراء مشكلة التنظيمات السياسية السورية المتأكسدة من شدة القمع الذي تعرضت له، والمنغلقة على نفسها، والشاكة في بعضها، يمكن القول إن كل القوى التي تشكلت في ظل الأسد، حتى الصالحة منها، كانت قوى مقاومة ومعارضة تتقن الاحتجاج الذي لا يحتاج إلى تنظيم، لأن أي تنظيم مهما كان ضئيلا غير ممكن؛ لكنها لا تتقن البناء والعمل الإيجابي. هذه حالة الإسلاميين حتى المنظمين منهم، وحالة المثقفين الذين لا رابط يربطهم سوى العداء المشترك لنظام القهر والاستبداد.

يعني أن ما جمعكم هو فقط العداء للنظام القمعي والمتسلط؟

يمكن للعداء أن يجمع الناس في مظاهرة أو موقف كما حصل في الثورة ذاتها، أقول يمكن؛ لكنه لا يكفي لإقامة مؤسسات وإبداع مبادرات ووضع إستراتيجيات طويلة المدى. هذا العمل يحتاج إلى خبرة سياسية، لا تحصل مع اغتيال السياسة وإلغائها تماما من المجتمع، وإلى مؤسسات لا يمكن اختراعها من العدم؛ فقبل الثورة، كان المثقفون السوريون، في أغلبيتهم، ضد النظام، وفي طليعة النضال الديمقراطي، بينما كان الجميع خانعين.

وبعد اندلاع الثورة سرعان ما برزت نقاط ضعفهم، وأهمها التمركز حول الذات الذي يعاني منه معظم المثقفين، ربما بسبب طبيعة عملهم وتنافسهم على السمعة والظهور في نظام سلطة يحرم الجميع من أي اعتبار. فهمشوا تماما، أو بالأحرى همشوا أنفسهم بنزاعاتهم الداخلية، الشخصية والإيديولوجية، وبدل أن يعيدوا اكتشاف السياسة وينجحوا في تنظيم حقل نشاطهم المهدوم، ويتحولوا من جديد إلى نخبة متفاعلة ومتجانسة تفاقمت العداوات في ما بينهم وزاد انقسامهم، وتحولوا إلى شراذم خدمت بمهاتراتها صعود منافسيهم الإسلاميين.

فصار إمام مسجد صغير متوسط التعليم أو ضئيله في قرية أو حي فقير قائدا لفصائل المقاتلة ومتحدثا باسم الجمهور المنتفض والمستعد للموت، أكثر تأثيرا ونفوذا سياسيا وعسكريا وفكريا من أي مثقف سوري.

وهذا هو الحال بالنسبة إلى جميع السوريين، لقد كان عهد الثورة عهد الاعتراض والاحتجاج على نظام بائس. ويحتاج عصر الخروج من الثورة وإنهائها، أي إنجاحها أيضا، إلى النجاح في تمثل ثقافة البناء. بناء العهد الوطني الجديد، وبناء الدولة، وبناء التفاهم الوطني، وبناء السياسة والاقتصاد والمجتمع الحر؛ وهي ثقافة جديدة مختلفة عن ثقافة السلب والاعتراض والضدية التي لا ينمو غيرها في صحراء الاستبداد الأعمى والطغيان.

ما كان من الممكن نشوء قوى إيجابية وخبيرة بتنظيم الناس بل بتنظيم نفسها وتنظيم أفكارها في ظل فوضى نظام الأسد وقهره غير المسبوق، حيث المجتمع كله يسير وجميع مؤسساته كآلة بيد أعوان النظام وأجهزته الأمنية، وليس مسموح لأحد فيه، حتى لو كان رئيسا للوزراء، أن يظهر حضورا شخصيا أو موقفا مغايرا، مهما كان ضئيلا، عما يعلنه بل يفكر به الرئيس المرفوع، من قبل زبانيته من الأجهزة الترويعية وليس الأمنية، إلى درجة القداسة والألوهية، بالمعني الحرفي للكلمة.

وليس من قبيل الصدفة أنه كان من وسائل هذا النظام المعتمدة لتعذيب المعتقلين، من نشطاء الثورة وضحاياها، دفنهم أحياء في التراب، مالم يعلنوا أن بشارا ربهم الأوحد. وقد وزعت المخابرات نفسها الفيديوهات لاستفزاز السوريين وتحديهم لدفعهم إلى السلاح وإظهار تصميمها على الذهاب في التحدي والعنف إلى أقصى نطاق.

طيب، أعود مرة إلى بيت القصيد، أي الثورة السورية، وأسأل هنا أستاذ علم الاجتماع السياسي، هل تشعرون بأن الثورة باغثتكم؟

نحن المثقفين لسنا واحدا. هناك من باغتته بالتأكيد، والثورة ليست ثورة إن لم تكن مباغتة، لكن حتى لو لم تباغتنا ماذا كان بإمكان المثقفين أن يفعلوا؟ أن يقولوا للشعب المنتفض على الظلم والقهر والبؤس والفساد: عودوا إلى بيوتكم ولا تقاوموا ولا تتظاهروا وأطيعوا أوامر أجهزة الأمن والمخابرات وميليشيات الشبيحة التي تستبيح نساءكم وبناتكم لأنكم ستعاقبون؟

هل يجرؤ مثقف أو أي إنسان عاقل، حتى بعد انجلاء غبار المعركة، والتأكد من آثار الكارثة الإنسانية والحضارية، أن يقول للجمهور، الذي قاتل حتى آخر قطرة دم في جسده الضعيف، كنتم على خطأ، وكان عليكم أن لا تغامروا، ولا تتصدوا لحكم الإرهاب والاستبداد، وأن الكرامة والحرية اللتين خرجتم دفاعا عنهما لا تستحقان أن تموتوا من أجلهما؟

هل كان المطلوب من المثقفين، حتى أولئك الذين لم تباغتهم الثورة، ونحن منهم، أن يقولوا للجمهور المنتفض، بعد خمسين عاما من دفاعنا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والقيم الإنسانية والمدنية: ليس لكم بديل عن الأسد ونظامه، ومن الأفضل لكم طاعته بدل مواجهة صواعقه وبراميله المتفجرة وأسلحته الكيميائية وانتقام ميليشياته الطائفية؟

إذا لم يثر الشعب من أجل كرامته وفرض احترام الحاكمين لإنسانيته وحقه في الحياة والعمل والخبز والعدالة وحكم القانون، ومن أجل حريته وحرية أبنائه، ووضع حد للاعتقالات التعسفية والتعذيب حتى الموت وإرهاب الدولة، فمن أجل ماذا يمكن أن يثور ويضحي، وما معنى الثورة وقيمتها في التاريخ؟

كيف تقيّم أداء القوى السياسية باختلاف أيديولوجياتها؟

في سوريا لا توجد قوى سياسية منظمة، يوجد جمهور واسع وغير متناغم من البشر الذين هددوا في وجودهم، وجردوا من ماهيتهم الإنسانية، وانتهكت كرامتهم وحياتهم، منذ أكثر من نصف قرن من دون انقطاع.

وقد هب هذا الجمهور الملوع والمروع معا، في لحظة صحو وأمل استثنائية أحدثها الربيع العربي، من دون حاضر ولا دستور، ومن دون حسابات من أي نوع، ووضع مصيره على كفه، ورمى بنفسه قاتلا أو مقتولا في نار المعركة، معركة الكرامة والحرية واستعادة هويته الإنسانية، كائنا من يكون من يقف أمامه كان سيسحق لا محالة. والبرهان على ذلك صموده وقتاله ببسالة نادرة حتى الآن ضد عدة جيوش احتلال، وطيران حربي لدولة عظمى سابقة، منذ سبع سنوات متتالية، ولا يزال يرفض الاستسلام.

هل كان لكم برنامج واضح متكامل يستحضر البعد الثقافي والإعلامي؟

بالتأكيد، كان لدينا برنامج سياسي واضح وجامع. هذه دعاية من دعايات الحرب الإعلامية. إن الثورة كانت تفتقر للبرنامج السياسي كما لو أن وضع برنامج سياسي نوع من السحر أو المعجزة. ذكرت لك فيما سبق عند الحديث عن تشكيل المجلس الوطني سياسة المجلس وخياراته وأجندة عمله.

ولم يكن وجودي على رأسه بعيدا عن حقيقة التوجه العميق للثورة وجمهورها. وبعد أقل من شهرين على تأسيسه، نشر المجلس الوطني رؤيته لسوريا المستقبل ووثيقة العهد الوطني التي أصبحت، بعد بعض التعديلات الجزئية، وثيقة مؤتمر المعارضة الموحدة في القاهرة 2012 ومن الممكن تفحصها في أي وقت.

لكن مع تفاقم الضغوط العسكرية والسياسية على الثورة، وزيادة وزن القوى المقاتلة، التي ولدت في كل قرية وحي دفاعا عن السكان ضد توحش قوى القمع واستباحتها المناطق، وعجز مؤسسات وهيئات المعارضة الضعيفة والمفتقرة للإمكانات والموارد عن تمويل هذه القوى وتسليحها وتوحيدها، ضعف التواصل بين القيادات السياسية والقيادات العسكرية. وبدأنا نفقد بسرعة وحدتنا السياسية ثم الإيديولوجية، خاصة بعد تنامي وزن القوى السلفية الداخلية والخارجية الممولة من الخارج مع احتدام المعارك وسفك الدماء.

بالتأكيد، بعد الفترة القصيرة التي أعقبت ولادة المجلس الوطني، والتي ظهر فيها المجلس ممثلا للأغلبية الساحقة من القوى الثورية والديمقراطية، وصانعا لبرنامج عمل سياسي واضح في الداخل والخارج، لا نستطيع أن نقول إن الأمر استمر على هذا المنوال.

والسبب ببساطة هو أننا لم نعد قوة واحدة منظمة. كانت هناك الفصائل المقاتلة، والقوى الإسلامية، والقوى المدنية، التي أطلقت على نفسها اسم الجيش الحر، والتجمعات السياسية، ومنها المجلس الوطني، الذي تحول من جبهة وطنية واسعة إلى تنظيم يعبر عن أفراده بعد أن همش وفقد الدعم الدولي، والائتلاف الذي ولد بإرادة خارجية جسما من دون قلب.

ومن ثمّ، ظهرت أجندات كثيرة ومتعددة بتعدد القوى المتنافسة وغياب القيادة الموحدة. وهذا ما أضر بالثورة وشتت جهودها وأساء إلى صورتها وسهل على أعدائها الدس عليها والتركيز على الجوانب السلبية من سلوك قادتها.

هل فشلت الثورة السورية؟ أم أُفشلت؟

لا فشلت ولا أفشلت.؛فالثورة ليست مجسدة في الفصائل أو الهياكل والتنظيمات السياسية والتجمعات القائمة من مجلس وائتلاف وهيئة مفاوضات وغيرها. إنها موجودة في وجدان الناس وقلوبهم وشعورهم العميق بأن زلزالا قد حدث، وأنهم لم يعودوا عبيدا لنظام أو أدوات أو دمى تلعب بها الأجهزة الأمنية كما في مسرح العرائس.

آثارها باقية في تحول نظام العبودية إلى حطام، بكل مؤسساته وأجهزته ورموزه، لا يستمر إلا بفضل الدعم الكلي للقوى المحتلة، وفي تقليص موقع الديكتاتور وتحويله إلى دمية يتلاعب بها المحتلون، وخرقة تستخدمها الأطراف المتنازعة على اقتسام سورية للتغطية على عورة الاحتلال.

وهي لم تخمد ولكنها تمر بمرحلة تحول عميقة، بعد أن عبرت حقبة مواجهات دامية ووحشية قادتها جيوش متعددة جمعت بين جيش النظام والميليشيات الطائفية متعددة الجنسيات الممولة من إيران والقوات الروسية والأمريكية، وإلى جانب جميع هذه القوى، المنظمات الإرهابية الدولية، من داعش إلى النصرة وأخواتها. وكان من المستحيل أن نتصور أن الثورة ستخرج بانتصار عسكري من هذه المواجهة الدولية والإقليمية.

لكن مهما كان الحال، لن تهزم إرادة السوريين في التحرر والخلاص، وهي لا تزال قوية بما فيه الكفاية حتى تهزم الاحتلال. وتشهد هذه الأيام نهضة جديدة عبرت عن نفسها من خلال الإجماع الواسع على رفض الحل الروسي للقضية السورية الذي يريد أن يحرم السوريين من حقهم في الانتقال نحو نظام ديمقراطي، ويحول مجرم الحرب من متهم ينبغي الدفع بملفه إلى محكمة الجنايات الدولية إلى رئيس متجدد الشرعية والقوة، تحت حماية رماح قوى الاحتلال الروسية والإيرانية والأمريكية وغيرها.

الثورة، في اعتقادي، ما زالت مستمرة؛ بل هي في الشرق كله بالكاد بدأت حين فرض عليها القتال العسكري، وأجبرت على الخوض في الحرب الأهلية. وبالرغم من أنها لم تحقق نصرا عسكريا، فإنها أعلنت نهاية النظم القرسطوية المافيوزية القائمة، وسوف تستمر ما دامت إرادة التحرر لا تزال هي التي تحرك السوريين والعرب وتعطي لوجودهم معنى.

هل الجناح السياسي مسؤول عن بعض الأخطاء التي وقعت بسبب التحالفات؟

أعيد التذكير، كرة أخرى، بأنه لم يكن في سوريا قبل الثورة أي قوى سياسية منظمة، ولا نخب ذات خبرة سياسية وتجربة عملية. وقد انعكس هذا من دون شك في سلوك من تصدى لقيادة المنظمات السياسية الممثلة للمعارضة والذين لا ينكرون تقصيرهم وضعف أدائهم..

لكن هذا لا يعني أن قادة الفصائل المقاتلة الذين كان معظمهم من المدنيين، وأبناء الشعب العاديين، كانوا أكثر خبرة أو قدرة على مواجهة تحديات الصراع الداخلي والإقليمي والدولي.

وحتى لو توفر للثورة قيادة سياسية واعية ومخلصة وذات بصيرة قوية ما كان من المحتمل أن تتغلب قوى الثورة على التحالف الدولي الذي اجتمع ضدها من كل بقاع الأرض.

لماذا وقفت ضد المؤتمر الذي سينعقد في روسيا؟

لأنه ينذر بشكل مكشوف وعلني بحل غير عادل وغير قابل للبقاء، لا ينهي النزاع؛ ولكنه يكرس انتصار الديكتاتور على الشعب، وينكر على هذا الشعب حقه في الانتقال نحو نظام أكثر عدلا وانفتاحا، وهو يريد أن يتجاوز قرارات الأمم المتحدة ويفرض بقاء النظام بالقوة المسلحة والعنف.

هذا حل لا تستفيد منه إلا قوى الاحتلال الروسي والإيراني التي تستخدم الأسد قناعا تخفي وراء حكمه المتساقط كأوراق شجر الخريف سيطرتها الفعلية على سوريا واستخدامها له ورقة في المساومات الدولية.

ليس هناك حل للنزاعات عندما يسعى طرف إلى فرض مصالحه على الطرف الآخر بالقوة، ولا سلام ممكن من دون تحقيق العدالة.

هل تستطيع أن تجيبني لماذا لا يريد الروس أن يكون الحل في جنيف ما داموا قادرين على إنتاجه في سوتشي، وعلاقتهم هي نفسها في جنيف وسوتشي مع الأسد والمعارضة؟

ببساطة، لأن مفاوضات جنيف خاضعة لاتفاقات وقرارات دولية، تضمن للشعب السوري تحقيق المطلب الأساسي الذي يسمح بالحل والخروج من الحرب والمأزق، هو الانتقال نحو نظام ديمقراطي جديد، ولأنها تؤطر المفاوضات بقرارات دولية تلزم الدول بتقديم ضمانات أيضا للانتقال السياسي وفي ما بعد لإعادة الإعمار، بينما يريد الروس في مؤتمر سوتشي أن يلغوا، بجمع عدد كبير من السوريين كممثلين للشعب السوري وطوائفه، هذه القرارات الدولية، والخروج بحل باسم السوريين المجتمعين الذين شكلت قوائم عضويتهم في المؤتمر بالتفاهم بين المخابرات الروسية والسورية والتركية، كما ذكرت الخارجية الروسية ذاتها.

أنا ضد سوتشي من أجل أن يحتفظ السوريون بحقهم في مفاوضات جدية غير خاضعة لابتزاز القوة الروسية، وغير مشروطة ببقاء الأسد كما أراد لا فرنتييف، وليست ثمرة تلاعب بإرادة السوريين والاستهتار بكرامتهم التي بذلوا مئات آلاف الشهداء من أجل استعادتها.

هل تصنفون روسيا عدوا؟

نحن لا نصنف أحدا عدوا، وسوريا المدمرة بحاجة إلى دعم جميع الدول وتعاونها حتى تخرج من الكارثة التي دفعت إليها. وقابلت وزير الخارجية الروسية أربع مرات، لأقنعه بأن سوريا، التي لم تكن حليفة للغرب أبدا، كانت ولا تزال صديقة لروسيا، وهي تستحق معاملة أفضل من إعادة فرض نظام المافيا الأسدية على شعبها، وليس لديها أي مشكلة مع في التعاون مع موسكو وإعطائها كل التسهيلات التي تحتاجها كي تتحول إلى قوة متوسطية. لم أفعل ذلك مع أي دولة عربية أو أجنبية أخرى.

لكن روسيا هي التي صنفت نفسها حليفة لنظام الأسد الذي قرر حرق سوريا لتمرد شعبها على سلطته الدموية، وهي لا تخجل من أن تقول إنها عدوة للثورة.

الناطق الروسي يقول ليس لمن يريد استبدال الأسد مكان في مؤتمر سوتشي، وبوتين يصرح بأن المعارضة إن لم تأت هذا الشهر فسوف تأتي الشهر المقبل بعد عمليات القصف الواسعة للطيران الروسي. وردا على تساؤلات الروس عن تكاليف التدخل في سوريا يجيب الرئيس بوتين بنفسه بأن سوريا أرخص حقل تجريب للأسلحة الروسية. ولا يخفي المسؤولون الروس أنهم جربوا أكثر من 200 سلاح من أسلحتهم على أجساد السوريين وقاموا بتعديلها.

يعني دولة احتلال؟

أسوأ، لأنها تريد جمع مثالب الاحتلال، وما يمثله من استباحة السيادة للدولة والأرض، ومثالب الاستبداد ودعم النظم الفاشية، وهي لا تخفي كراهيتها لشعبنا، حين صرح الوزير لافروف، في بداية الأحداث، بأن السنة لا يمكن أن يحكموا سوريا، مستخدما منذ البداية منطقا طائفيا بغيضا، ومتدخلا في تحديد من له.

Share
  • Link copied
المقال التالي