في أعلى ربوة تشرف على المحيط الأطلسي ونهر أبو رقراق، ينتصب الجامع الأعظم، أقدم مساجد مدينة سلا المغربية، الذي ظل محافظا على شموخه ومكانته منذ أكثر من ألف عام، ولعب خلالها أدوارا تاريخية وروحية، وتعرض فيها للخراب والدمار والإغلاق.
ينفرد الجامع الأعظم بسلا بعادة قديمة؛ فالمؤذن في هذا المسجد يؤذن في كل من صلاتي الظهر والعصر مرتين.
ويحكي هذا المسجد تاريخ مدينة كانت قطبا علميا مهما ومقصد العلماء والفقهاء، وقبلة العائلات الأندلسية الباحثة عن الاستقرار والأمان بعيدا عن محاكم التفتيش.
ويمر الطريق إلى الجامع الأعظم عبر دروب المدينة القديمة الضيقة، حيث تتفرق مساكن تقليدية ودكاكين الحرفيين والتجار، ويزخر محيطه بذكريات الماضي وآثار تدل على دول عظيمة تركت بصمتها وأثرها في هذه المدينة، ولا يفصل المسجد عن المدرسة المرينية التي بنيت في القرن 14 الميلادي سوى أمتار، وغير بعيد عنه توجد الزاوية التيجانية وضريح الولي سيدي بنعاشر الملقب بسلطان سلا.
قبلة الطلبة والعلماء
بني الجامع الأعظم سنة 420 للهجرة، حسب ما تشير إلى ذلك بلاطة داخله، ويرجح المؤرخون أن التأسيس الأول كان في عهد بني يفرن الذين حكموا المنطقة بعد سقوط دولة الأدارسة، غير أن التصميم الحالي يبين أنه شهد إضافات وتغييرات خلال مئات السنين.
وحسب عضو المجلس العلمي لسلا عبد السلام الطاهري، فقد بني المسجد أول الأمر في حدود ما هو معروف حاليا بمسجد النساء، ثم تعرض للدمار والخراب شأنه شأن المدينة التي صارت مهجورة قبل أن يحييها الموحدون.
وأعاد ثالث الخلفاء الموحدين يعقوب المنصور بناءه سنة 593 للهجرة بعد عودته من الأندلس منتصرا في معركة الأرك، وبني المسجد على مساحة تتجاوز 5 آلاف متر مربع، ونقل ترابه وحجارته 700 ألف أسير من الأسرى الأوروبيين، وبعد اكتمال بنائه استدعى السلطان الموحدي عالما محدثا هو أبو محمد عبد الله بن سليمان الأنصاري من الأندلس ليتولى الخطبة فيه ويلقي الدروس.
ويقول الطاهري للجزيرة نت إنه مع إعادة بناء الجامع الأعظم بدأت النواة الأولى للنهضة العلمية لمدينة سلا، إذ احتضن دروس الكراسي العلمية، وتخرج منه علماء كبار بلغ صيتهم المشرق، مثل ابن غياث السلاوي الذي درس في حلب السورية، وأبو عبد الله الدقاق الذي كان يقدم كرسي الحديث في المسجد النبوي.
وامتلأت فضاءات الجامع بالطلبة والعلماء خلال فترة المرينيين، مما جعل السلطان يقرر بناء مدرسة بجانبه هي المدرسة المرينية لإيواء هؤلاء الوافدين، خاصة أن تلك الفترة شهدت فتورا في إشعاع جامع القرويين في فاس -كما يحكي الطاهري- وأصبح الجامع الأعظم بسلا جامعة يقصدها الباحثون عن المعرفة من كل الأنحاء.
مركز المدينة
كان الجامع الأعظم طيلة ما يزيد على الألف سنة من عمره، بؤرة الأحداث المهمة التي تشهدها مدينة سلا، وعنوان تطورها التاريخي والاجتماعي.
وتعرض للخراب بسبب ما تقول بعض المراجع إنه صاعقة دمرت منارته وأجزاء من سقفه، في حين تقول مراجع أخرى إنه تعرض لقصف مدفعي في القرن 19 من الفرنسيين فأعيد بناء منارته وتجديده مرة أخرى في عهد السلطان العلوي عبد الرحمن بن هشام.
وفي ثلاثينيات القرن 20، أغلق المسجد بأمر من الإدارة الفرنسية، لمنع تجمع رجال المقاومة المغربية فيه، وظل مغلقا مدة، إلى أن أعيد فتحه، وعاد إلى دوره في تعليم الناس، ولا زال المسجد إلى اليوم يحتضن دروسا دينية في صحيح البخاري والحديث وغيره.
الطلوع والهبوط
ينفرد الجامع الأعظم بسلا بعادة قديمة تميزه عن باقي مساجد المدينة؛ فالمؤذن في هذا المسجد يؤذن في كل من صلاتي الظهر والعصر مرتين، يفصل بين كل أذان وآخر مدة من الزمن.
ويوضح عبد السلام الطاهري (وهو إمام سابق لهذا المسجد وواعظ يلقي فيه دروسا دينية) هذه المسألة فيقول “يؤذن المؤذن في الجامع وقت دخول الصلاة ويرفع راية أعلى المئذنة وتسمى هذه العملية الطلوع، وبعد ساعة إلا ربع يؤذن مرة أخرى وينزل الراية وتسمى هذه العملية الهبوط”.
ووفق المتحدث، فإن المساجد في سلا لا يرفع فيها الأذان إلا بعد سماع أذان المسجد الأعظم، ومن أدرك الصلاة في وقتها يؤديها جماعة في أي مسجد صغير قريب منه في المدينة القديمة، ومن لم يدرك الصلاة ينتظر الأذان الثاني بعد ساعة إلا ربع فيلحق صلاة الجماعة في وقت الهبوط في الجامع الأعظم.
ويضيف أن أصحاب الحرف من النجارين والخياطين والتجار وغيرهم كانوا يأتون إلى المسجد الأعظم عند الهبوط ويصلون الظهر جماعة ثم يلتحقون بمنازلهم لتناول الغداء.
وجاء تصميم المسجد على شكل مربع منحرف، ويضم قاعتين للصلاة و3 صحون، إلى جانب 5 أبواب موزعة على مختلف واجهاته، وخلال كل عملية إعادة بناء أو ترميم ترك كل أمير أو سلطان بصمته وآثار عظمة دولته وعنفوانها، ويظهر هذا الأثر في مئذنة المسجد وبلاطه وزخارفه وأعمدته العالية وأقواسه؛ مما جعله يضاهي أكبر الجوامع الإسلامية.
المصدر: الجزيرة
تعليقات الزوار ( 0 )