عبد السلام طويل*
من وحي قراءتي للحوار الماتع الذي أجراه الصحفي نورالدين لشهب مع الأخ الدكتور عبد الصمد بلكبير، وأشار فيه إلى أن المفكر الإسلامي حسن الترابي عزم على بيعة الحسن الثاني رحمه الله خليفة للمسلمين، ألحت علي فكرة إشراك زوار جريدة (بناصا) بحيثيات لقائي بالمرحوم الترابي قبيل وفاته بأيام، له بعض الصلة بعلاقته وموقفه بما يجري في بلادنا.
لا ريب أن المفكر الدكتور حسن الترابي رحمه الله يعد من أهم الزعامات الفكرية والسياسية ليس على مستوى الحركة الإسلامية فحسب، وإنما على مستوى العالم العربي الإسلامي بمختلف تياراته وتوجهاته.
لقد شاءت الأقدار أن ألتقيه لأول وآخر مرة قبل حوالي عشرة أيام من وفاته، ضمن وفد علمي ضم نخبة من المفكرين والباحثين من مختلف الدول العربية، في سياق المشاركة في مؤتمر علمي حول قضايا التنوير، نضمه مركز التنوير التابع لرئاسة الجمهورية السودانية. احتفالا بذكرى العشرية الأولى لتأسيسه، وذلك ما بين( 18-2 و25-2-2016) بالعاصمة الخرطوم.
وعلى هامش أعمال هذا المؤتمر العلمي الذي تم استهلاله بمحاضرة افتتاحية للرئيس التونسي السابق الدكتور المنصف المرزوقي، نظمت لنا وزارة الري حفل غذاء على متن باخرة سياحية في جولة نيلية رائعة، لم يقلل من روعتها إلا صداع الرأس الشديد الذي أصابني بفعل ارتفاع درجة الحرارة.
عدنا إلى الفندق (برج الفاتح نسبة إلى الرئيس السابق معمر القذافي ) قبيل الغروب، ولم اكن أفكر حينها إلا في الوصول إلى غرفتي وتناول مسكن لآلم رأسي المتصاعدة، ومحاولة الخلود إلى النوم. لكن ما أن وصلنا إلى بهو الفندق حتى أخبرتنا اللجنة التنظيمية ببرمجة زيارة للدكتور حسن الترابي ببيته؛ حيث سنكون في ضيافته على وجبة العشاء.
قاومت آلامي وقررت الذهاب حتى لا أفوت هذه الفرصة التاريخية بالنسبة لي. دلفت بسرعة إلى غرفتي غيرت ملابسي وتناولت المسكن، تم توجهت رفقة الوفد المشارك إلى مقصدنا. وجدنا في استقبالنا نائب الدكتور حسن الترابي الدكتور إبراهيم السنوسي في انتظار انتهاء جلسة من الجلسات التي تندرج ضمن حلقات الحوار الوطني الذي وجدنا فعالياته على أشدها. أثناء ذلك استفسرناه عن سر الخصوصية السودانية التي تتمثل في التمييز والفصل بين الحياة السياسية والحياة الاجتماعية؛ بحيث أن الصراعات السياسية مهما بلغت حدتها لا تكاد تؤثر على مقتضيات الحياة الاجتماعية وما تستلزمه من واجب التزاور والتواصل في السراء والضراء..
فجأة تراءى لنا الدكتور الترابي ببشاشته المعهودة، وابتسامته المميزة التي لا تكاد تفارق محياه الطلق، في كامل حيويته ونشاطه، مرحبا ومعتذرا على تأخره في استقبالنا، داعيا إيانا للالتحاق بالصالون الرئيسي، وهو يسترسل في الحديث عن حيثيات الحوار الوطني، وما أن أخدنا مجالسنا حتى واصل الحديث في صفاء ذهني ملفت عن تاريخ الحركة السياسية في السودان الحديث بوجه عام، والحركة الإسلامية بوجه خاص..
ليقف مليا على الانقلاب الذي دبره بتعاون مع الفريق البشير، ومع أنه حاول أن يفسر لنا دوافع هذا الاختيار، إلا أنه تحمل مسؤوليته التاريخية والأدبية كاملة، وهو يوجه نقدا ذاتيا صريحا ولادعا لدوره في هذه التجربة، رغم كل النوايا الوطنية الإصلاحية التي كانت تحركه؛ بحيث كان يبدو ضمن السياق السياسي السوداني وقتها أن التغيير الديمقراطي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الانقلاب. وهنا وجه المفارقة؟؟
سوف لن أستطرد في تفاصيل ما عرضه بهذا الصدد، لأنه مبتوت، لحسن الحظ، في مصادر متعددة ، ولأنني لم اكن في كامل تركيزي بفعل صداع الرأس المبرح الذي سوف لن تخف حدته تدريجيا إلا قبيل انتهاء هذا اللقاء، وهو ما جعلني أنصت طوال الوقت دون أن أنبش ببنت شفة.
وهو ما لاحظه الدكتور الترابي؛ لأن كل الضيوف الأفاضل تحدثوا وعقبوا وتطارحوا في قضايا عديدة، دارت كلها حول التحولات الدراماتيكية التي يشهدها العالم العربي والإسلامي؛ منذ الغزو الأمريكي للعراق كرد فعل مغرض ضد الغزو البعثي غير المشروع للكويت، وما تلاه من انسداد لمسار الحراك الذي شهدته العديد من الشعوب العربية، وهو الحراك الذي جرى التعبير عنه بالربيع العربي، الذي استحال إلى خريف، بل إلى جحيم مرعب عاد بالمنطقة سنوات إلى الوراء..
تم الاجهاز خلاله على دينامية مدنية وسياسية حية أخطأت موعدها مع التاريخ لاعتبارات ذاتية وموضوعية، وهو ما سهل عملية إجهاضها، وتم تشريد ملايين المدنيين الأبرياء، وتم إجهاض الحلم العربي بالتحول الديمقراطي كشرط ضروري للانخراط في سلك المجتمعات المتحضرة..
والأخطر من ذلك، أنه تم تفكيك دول عربية أساسية كالعراق وسوريا واليمن، وتم اختراقها من قبل جماعات إرهابية مقاتلة بأجندات لا تخدم مصالح الأمة بأي حال من الأحوال، كما تم إنهاك دول أخرى كمصر، والتشويش على أكثر التجارب نضجا واستيعابا إيجابيا لهذا الحراك؛ أقصد تونس والمغرب.
بينما كان الجميع يخوض في هذا النقاش، فقد بقيت طوال الوقت متابعا لما يدور وأنا أغالب آلامي وأداريها، وعيا مني بأهمية اللحظة التي أعيشها. وهو ما لاحظه المرحوم حسن الترابي الذي توجه لي بالحديث، وهو يغير مكانه ملتحقا بالمائدة (السفرة) التي تأتتت بما لذ وطاب من المأكولات السودانية، يستفسر عن سر صمتي، فأخبرته عن حقيقة الأمر. كما سألني عن موطني بالمغرب، وعن خلفيتي الأكاديمية، وعن المشهد السياسي ببلادنا، وعن علاقة إسلاميي العدالة والتنمية بالمؤسسة الملكية، وبباقي القوى الوطنية، وعن رؤيتي لمستقبل التجربة الإصلاحية في المغرب..كما سألني عن أداء حزب العدالة والتنمية، وأخبرني أن الأستاذ عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة قد زارهم إلى السودان مرتين..
بعد أن حددته عن التحولات الإيجابية التي تعرفها تجربتنا الديمقراطية، وعن الصعوبات التي تواجهها..سألته بدوري عن موقفه من الحوار الوطني الجاري بالسودان؟ فكان رده بعبارتي التي أحاول أن أنقل بها مضمون كلامه: “عندنا في السودان يصعب الحديث عن دولة مركزية عريقة مثلما نجد لديكم في المغرب؛ ففي المغرب الحديث، يضيف الترابي، لجأت الدولة في أكثر من مناسبة إلى صيغ مختلفة من الحوار الوطني، لكنها بفعل مركزيتها ومؤسسيتها واستمراريتها التاريخية التي يعز أن تجدها في دولة عربية أخرى، وعراقتها وشرعيتها ومشروعيتها الدينية والسياسية، كانت تلجأ إلى هذا الحوار وهي ممسكة بعد بزمام الأمر، لتدبير أزمة انتقال وليس إلى ضمان استمررها كسلطة بأي ثمن، لتنقلب على مخرجات الحوار كلما استعادت بعض توازنها وعافيتها، بل كانت عادة ما تراكم على مخرجات هذا الحوار وتبني عليه..
ذلك أنكم، يسترسل الترابي، بفعل نضج بنية دولتكم المؤسسية والتاريخية ومشروعيتها الدينية، تميزون بين السلطة كتعبير عن موازين قوى، وبين الدولة كتعبير عن إجماع الأمة بمختلف مكوناتها. وبالتالي فحينما تلجأ الدولة المغربية في المنعطفات التاريخية إلى تفعيل آلية الحوار الوطني فإنها تعمد لذلك باعتبارها دولة وليس باعتبارها سلطة. وهو ما لا يتوافر لدينا في السودان وفي أغلب الدول العربية. حيث رهانات ومنطق السلطة لم تتمايز بعد عن رهانات ومنطق الدولة.
فالدولة عندنا لم تلجأ إلى الحوار إلا حينما ضعفت، فأيقنت أنها لن تتمكن من إعادة بعض الحيوية إلى أوصالها المترهلة إلا بهذا الحوار.. لكن مع ذلك، إذا ما عبرت عن حسن نيتها في تحقيق إصلاح ديمقراطي حقيقي فسوف نكون في الموعد..
سكت هنيهة تم قال: أنتم المغاربة محظوظون بأن لديكم “الشريف” .
تقصدون الملك؟
نعم الملك الذي تحول عندكم، في ثورة دستورية وسياسية هادئة، إلى مؤسسة دستورية حقيقية، لها بنية وصلاحيات دستورية واضحة خاصة في ظل دستوركم الجديد. وهذه الثورة الهادئة يجب أن تحرص القوى السياسية الوطنية لديكم على استمرارها. حتى تظل الملكية رمز وحدتكم وتماسككم وتقدمكم كأمة..
وتعليقا على قوله أخبرته أن هناك إجماعا متناميا، بين مختلف القوى السياسية، على مشروعية المؤسسة الملكية ومركزيتها في تماسك بنية الدولة وتطورها، وأن العديد من القوى الراديكالية التي كانت لها مواقف عدمية من هذه المؤسسة لاعتبارات أيديولوجية، أصبحت الآن من أكثر المناصرين لها، والمدافعين عن مشروعيتها بما في ذلك القوى الحداثية.
وقد نجحت المؤسسة الملكية وهي تجدد ذاتها باستمرار، في استيعاب مختلف القوى الوطنية الحية، إسلاميين وعلمانيين ضمن دائرة المشروعية..والوحدة الوطنية الجامعة..ومما يفسر هذا الإلتفاف المتنامي حولها، فضلا عما سلف، جمعها بين الشرعيات السالفة جنبا إلى جنب مع شرعية الأداء، وهو ما تترجمه الأوراش التنموية الكبرى المفتوحة على أكثر من صعيد..
وهو ما جعل من الصعب على أية قوة سياسية، مهما كانت قوتها أن تزايد على الشرعية المركبة لهذه المؤسسة؛ لأنها تفكر في جل قراراتها ذات الطبيعة الاستراتيجية بمنطق الدولة وليس بمنطق السلطة، وهو ما يفسر اختيار السلطان محمد الخامس للمنفى الجماعي للأسرة الملكية بدل التفريط المذل في السيادة الوطنية والبحث عن خلاصه الفردي كما فعلت الكثير من الملكيات، وكذا مجازفة الملك الراحل الحسن الثاني رحمهما الله بتدبير المسيرة الخضراء لاستكمال وحدتنا الوطنية؛ وقد أتبت في سيرته أنه بينما كان يرتب ويدبر لهذا الحدث التاريخي الاستثنائي المحفوف بالمحاطر، كان يرتب، في نفس الآن، لإمكانية فشل مسعاه واضطراره إلى الالتحاق بإحدى إقاماته الخاص خارج المغرب..أي تنحيه عن الحكم..
وهذا ما يفسر قوة المغرب ووقوفه في وجه كل المؤامرات.. وهي الحقيقة التي تفوت الفرصة على بعض القوى السياسية وغير السياسية؟ التي تحاول أن تحرف المؤسسة الملكية من أيلولتها رمزا لوحدة المغاربة قاطبة، إلى أن تغدو طرفا في الصراع والتدافع السياسي..
من خيرات الربيع العربي أستاذي الجليل؛ أن الدستور الجديد(2011) والإصلاحات السياسية التي مهدت لها وواكبته، كرست حقيقة أن المؤسسة الملكية، باتت تمثل بامتياز ضمير الدولة وقلبها وقطبها الجامع، وكل من أراد الخير للملكية سواء كأسرة أو كمؤسسة، وللمغاربة فما عليه إلا أن يعمل على تعزيز هذا التمييز بين الدولة، والمؤسسة الملكية باعتبارها رمزا لوحدتها واستقرارها وسيادتها، وبين السلطة كموضوع للمنافسة والتدافع والصراع في إطار القانون والمصالح العليا للأمة.
وبهذا نجمع بين الحسنيين؛ الاستقرار والديمومة التي تكفلها الدولة، وفي قلبها المؤسسة الملكية، والدينامية والتنافس من خلال آلية التداول السلمي على السلطة الذي تكفله الديمقراطية..
أعتقد أنكم ماضون في هذا المسار..يؤكد الترابي رحمه الله
لقد أطلنا الحديث، تفضلوا للأكل..
ونحن على السفرة سألته: ماهي آخر انشغالاتكم العلمية؟
أجابني، رحمه الله، بأنه منهمك في تفسير القرآن الكريم..وقد شرع في الحديث عن تفسيره الجديد لمفهوم الصلاة، مبرزا كيف أنها أخدت أبعادا طقوسية لا روح فيها..
كما استحضر آية قرآنية وشرع في بسط تأملاته العميقة في مغزاها لكن صداع الرأس حرمني من استحضار حيثياتها..
كما سألته أنه من الشائع أنكم درستم مع المرحوم الحسن الثاني بفرنسا. فأجابني بالنفي. لأنني لسبب بسيط كنت أكبره في السن.
على هامش هذا المؤتمر شرفت بدعوتي لإلقاء محاضرة بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا حول موضوع “التنوير بين التأصيل والتأويل”، وقد ركزت فيها على عناصر التجديد في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وقد عرضت قبل أن أعلم بهذا اللقاء، من ضمن من عرضت لاجتهاداتهم في سياق السعي لبلورة نظرية سياسية معاصرة، للدكتور حسن الترابي، وقد وصلته أصداء عن المحاضرة، على ما يبدو، من خلال أحد أعضاء حزبه ممن أتموا دراساتهم الجامعية بالمغرب وتابعوا المحاضرة. وهو ما جعله يسألني عن مدى توافري واطلاعي على كتابه:”السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع”، فأخبرته أنني قد اقتنيته وقرأته فور صدوره عن دار الساقي سنة 2003 حينما كنت أواصل دراساتي العليا بالقاهرة. ووفاء لرمزية هذا اللقاء، ومكانته العلمية والأدبية فقد شرعت في إعداد دراسة تحليلية نقدية لمجمل نتاجاته التي لم أقرأ منها إلا كتابين..
*رئيس تحرير مجلة الاحياء وأستاذ زائر بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس السويسي/ سلا
تعليقات الزوار ( 0 )