Share
  • Link copied

عناصر لقراءة خريطة انتخابات 2021

قد تكون هذه القراءة مبكرة “جدا”، وأقول مبكرة ليس عبثا أو فونتازم سياسي، لوصف ووضع بعض عناصر التحليل الاستباقي الاستشرافي، لنتائج انتخابات لم تدق طبولها بعد، وإنما لكون أي عملية سياسية تكون لها مقدمات تسبق نتائجها بمدة طويلة وتكون بمثابة بذور في تربة سياسية لا يمكن أن تعطي محصولا مختلفا عن البذرة المزروعة.

إدريس بنيعقوب

وهي قراءة توقعية انطلاقا من معايير البرمجة القلبية لآلة ولقواعد التباري، تهدف إلى فهم محددات العملية السياسية “البارامتراج السياسي”، تفرضها متغيرات البيئة الداخلية والخارجية ومستوى الخطاب والأداء السياسي أثناء المرحلة التي تسبق المنافسة الانتخابية من بينها فترة كورونا الحرجة، وتفرضها أيضا بعض العوامل السياسية والاجتماعية الجديدة، المؤثرة في السلوك الانتخابي وفي الخريطة السياسية ككل.

منذ انتخابات 2016 تغيرت مجموعة من العناصر المتحكمة في السلوك الانتخابي، وتفككت كثير من الجبهات التي كانت تعطي أفضلية لحزب العدالة والتنمية، وربما هذا التحلل والتغير بعثر أوراقه الخطابية وأضعف مستوى فعله التواصلي المؤثر سابقا في توجيه الجماهير إلى خلاصات معينة.

ثم إن السلوك الانتخابي في المغرب منذ دستور 2011، على ما يبدو طغت عليه بشكل أكبر من السابق النزعة الانتقامية، فأصبح سلوكا غير عقلاني إلى حد ما، يتعاطى مع سؤال “ضد من نصوت” وليس للإجابة على سؤال “لصالح من نصوت”، ليفرز قرارا تصويتيا قد يكون أحيانا متناقضا مع قناعات المصوت الشخصية.

تغير الخصوم يقود بالضرورة إلى تغير السلوك السياسي، وإلى مستويات الخطاب والحركة ويؤدي إلى ارتباكات أحيانا وإلى جمود أحيانا أخرى، لاسيما إذا كان ذلك الفعل السياسي مؤسس سابقا على قواعد إدارة المعركة بناء على وصف محدد للخصومة وللخصوم.

ذلك الخصم وتلك الجبهة التي جسدها إلياس العماري خلال الانتخابات السابقة منذ 2011، والتي كانت عامل تفوق خطابي لحزب العدالة والتنمية بقيادة بنكيران، تغيرت واختفى الخصم اللذوذ وبالتالي أصبح من الصعب قيادة حملة انتخابية على حزب تعود على إيجاد خصم أو “عدو” سياسي مرئي وملموس، لأنه يشكل عنصرا مؤطرا لحلقات التواصل السياسي للحزب وعاملا للوحدة الداخلية و مكونا من خطاب الأزمة السياسية في إطار ردود فعل وليس في مستوى انشاء فعل سياسي مستقل، هذا الغياب يضعف إلى حد بعيد القدرة الإقناعية لتبني تصويت لفائدته. تزيد من حدة هذا الضعف، عدم وجود خطاب مبدع واضح لبناء الدولة ولتدبير آثار الأزمات الكبرى.

عشر سنوات من الوجود في الحكومة خلقت نوعا من الصراعات الداخلية للحزب، بين تيار استفاد من المشاركة أنضجه العمل داخل الدولة والمؤسسات، وبين فئات تحسب نفسها أنها أقصيت، وأن دورها أصبح محصورا في الفرجة وفي الاستجابة للاستدعاء والتجييش المؤقت الظرفي للدفاع عن المشاركة وعن وزراء الحزب، مما يفتت نسبيا وتدريجيا الولاء، ويدخل الريبة على القناعات في الاستمرار في نفس النهج الصدامي مع الجبهات الأخرى.

هذه المشاركة الحكومية أفرزت “طبقة” أو فئة استهوتها ثقافة البورجوازية، فظهر ما يمكن وصفه ببورجوازية اسلامية متوسطة، تميل إلى التوافق مع مراكز القرار السياسي والاقتصادي والإداري للدولة، وصنعت لنفسها مصالح متوسطة تجارية ومهنية ومعيشية، وتنتهج بعض أساليب الوساطة الزبونية، أصبحت تملك قوة القرار الحزبي بسبب روابط المصالح، في مواجهة الفئات الاجتماعية المتوسطة و البسيطة “المغبونة” داخل التنظيم. هذه الفئة الجديدة تعي أنه من الضروري أن تدافع عن نفسها وعن بقائها داخل فعل شبكة القرار من خلال المشاركة الرسمية، كأي فئة اجتماعية جديدة، بنهج طريق الهدنة والتوافق والتخلي عن سلوك المواجهة المفتوحة المباشرة.

إلى جانب ذلك تنحية بنكيران عن رئاسة الحكومة وعن قيادة الحزب، وظهور سعد الدين العثماني يوحي بالعودة إلى منطق بدايات الحزب في نسخته الأولى وإلى الفترة المباشرة ما بعد سنة 2003 بعد العمليات الإرهابية بالدار البيضاء، والدخول في مرحلة التوافق مع إرادة الدولة، حول توزيع الخريطة السياسية والانتخابية. وبمعاينة تدبير حكومته في فترة حالة الطوارئ الصحية تبين أن الرجل ليست لديه أي مشاكل في تبني تصورات “المخزن” في التدبير، بل أكثر من ذلك يمكنه التخلي والتنازل عن اختصاصات رئاسية حكومية منحها له دستور 2011، بدون أي اعتراض أو احتجاج لفائدة وزراء آخرين.

من جهة أخرى موقع وزارة الداخلية ورجال سلطتها في انتخابات 2016 كان أيضا أحد أسباب تحديد السلوك الانتخابي العام، بتوجيهه نحو الجواب على سؤال “ضد من نصوت”، فلم يصوت الناس فقط ضد الياس العماري غير الواضح المخططات والأهداف والارتباطات الداخلية والخارجية، وإنما صوتوا أيضا ضد لمقدم والقايد والعامل الذين اختلطت صورتهم بسبب تواصل أعضاء البام أنذاك، مع صورة حزب الأصالة والمعاصرة، الذي شكل صورته، عمدا أو جهلا، عن كونه حزب الدولة، بالنظر إلى أن المغاربة لم يتصالحوا كثيرا مع الداخلية ورجال سلطتها، ويعاكسون إلى حد ما إرادتهم السياسية كلما سنحت لهم الفرصة، بسبب أخطائهم المعروفة شعبيا، فتعتبر الانتخابات فرصة لعدم الانصياع لرغباتهم و للانتقام منهم على تعاملهم طيلة الفترة الماضية.

متغيرات أخرى برزت على المشهد لها أهميتها في تصور نتائج انتخابات 2021، منها غياب عناصر توتر سياسية كانت تقوي جبهة العدالة والتنمية، وظهرت أخرى لا تدفع إلى ممارسة نفس الحدة و لا تشجع على نفس القدرة على الاشتباك اللغوي التواصلي السابق.

تنحي الياس العماري صاحب نظرية محاربة ومحاصرة توجهات “الإخوان” في المغرب، وظهور عبد اللطيف وهبي على رأس حزب الأصالة والمعاصرة المعروف بصداقاته وعلاقاته المهادنة مع قيادات حزب العدالة والتنمية، أيضا عامل تهدئة مهم.

عبد اللطيف وهبي في اتجاه تكتيكي معاكس لسلفه المستقيل، يسعى لإعطاء مشروعية جديدة لحزبه، محددات المشروعية الجديدة التظاهر بخلق مسافة و روابط مع الدولة ومع مؤسسي نظرية الأصالة والمعاصرة، وممارسة خطاب معارض منتقد و رافض لكثير من مخرجات المؤسسات الرسمية، ويسعى كذلك للتطابق مع لغة معارضة العدالة والتنمية وتشارك نفس مساحة النقد والخطابة الإستهلاكية التنفيسية الجماهيرية الممسرحة، لامتصاص الغضب العمومي بدون مواجهات عميقة.

الأمين العام الجديد لحزب البام تمكن من القطع مع نهج المواجهة المباشرة مع الاسلاميين، نظريا وميدانيا، معتبرا أن الاشتباك هو ليس بسبب المرجعيات وإنما بسبب تدبير المشترك العام بين المغاربة من خلال معارضة السياسات العمومية. و يبدو أنه يحاول أن يحتوي الأزمة مع البيجيدي بخلق جسور جديدة، تهدف إلى محاصرة مؤسساتية داخلية، تقطع الطريق أمامهم لاستعمال خطاب التحكم السابق وتمنعهم من استعمال خطاب الخصم كحجة للترافع بها أمام الجماهير، وذلك
بدل المحاصرة السياسية والإدارية الميدانية التي لم تعط نفعا معهم، بل متنت مشروعية خطابهم وتواجدهم الانتخابي.

ظهور عزيز أخنوش على رأس حزب التجمع الوطنى للأحرار لايعطي أوراقا سياسية كثيرة للبيجيدي كما كان الشأن مع إلياس العماري. ظهور أخنوش “ولد الناس” و “رجل المعقول” حسب شهادات بنكيران نفسه، قطع الطريق أمام البيجيدي في بناء خطاب سياسي عدائي تخويفي منه. ظهوره الحزبي كرجل أعمال يساهم في قدرات البلاد في فترات الأزمات الكبرى، قلص قدرات المناورة والهجوم السياسي عند البيجيدي وجعلهم يكتفون بانتقادات اقتصادية في مواجهته. غير أن هذه الحجة لن تكون بنفس قوة خطاب التحكم ضد العماري، باعتبار أن حزب الاسلاميين في الحكومة ساهم هو أيضا في خلق متاعب اقتصادية واجتماعية للمغاربة جراء قرارات مالية واقتصادية عديدة، وعبر عن ارتباك تدبيري ونقص الإبداع في السياسات العمومية.

من جانب آخر تنحي حميد شباط عن قيادة حزب الاستقلال و صعود نزار بركة أحد أحفاد العائلات المحافظة غير المعادية للفكر الاسلامي والعقدي، يفقد العدالة والتنمية مرة أخرى أحد أوراق وحجج الخطاب التبريري الهجومي و يطفئ نار المواجهة الجماهيرية الشعبية. هذا إلى جانب أن نزار بركة أظهر أداء متميزا في إعادة الروح إلى هياكل التنظيم وبنياته الموازية وإلى خلاياه المنتشرة، وابتعد عن لغة المواجهة الشعبوية متجها الى خطاب عمومي تدبيري عقلاني.

قيادة الاستقلال حاليا مع أزمة وباء كورونا أبانت عن قيمة مضافة في اقتراح الحلول، وعن حكامة حزبية وجاهزية وتأهب لقواعد ولمختلف بنيات التنظيم. أصبحنا نستشعر عودة إلى خطاب محافظ اجتماعي للقرب مؤسس على قناعات الراحل علال الفاسي وعلى بعض أفكاره الاجتماعية والدينية المقاصدية في المشهد العام، وهو الأمر الذي يتميز به حزب الاستقلال عن باقي الأحزاب السياسية ويتقاطع فيه مع حزب العدالة والتنمية.

وبالنظر إلى وجود عناصر توتر معادية للتوجهات الإسلامية في البيئة الدولية والإقليمية، أصبحت أكثر ضغطا على المغرب، فإن احتمال تراجع حزب العدالة والتنمية إلى مرتبة أدنى أصبح أمرا واردا. كما أن قيادته للحكومة لعشر سنوات متتالية وظهور مخاطر جديدة ضاغطة على الدولة المغربية اقتصاديا واجتماعيا بسبب أزمة فيروس كورونا، كلها عناصر ممكن أن تقنع الداخل المغربي والبيئة الدولية بضرورة خلق تناوب سياسي من نوع جديد، يقوده حزب آخر من دون السعي إلى الإقصاء العشوائي أو القاطع لحزب العدالة والتنمية، بل يحتويه ويعطيه مكانا للمشاركة لا تقل قيمة رمزية عن رئاسة الحكومة.

ومن خلال تحليل قدرة الأحزاب السياسية خلال فترة الجائحة، أثار الانتباه تماسك أفكار وتنظيم حزب الاستقلال وقوة مقترحاته العملية بعيدا عن لغة الشعارات. كما أن الحزب يعيد تملك كل العناصر التنظيمية والفكرية والخطابية التواصلية، التي تتقاطع في بعض أصولها مع حزب العدالة والتنمية خصوصا على مستوى اللغة التقليدية المحافظة ذات العمق الأخلاقي الديني.

وسعى خلال فترة الطوارئ الصحية إلى إبراز قدرته في صناعة أفكار ومقترحات التدبير العمومي، وفي توضيح رؤيته في إدارة الدولة في البعد الاقتصادي والمالي والاجتماعي، مما منحه تفوقا داخل تنافس طبيعي لمشاريع الأفكار بدون تدخل للدولة في سياق الأزمة الحالية، تفوقا لمقترحاته على تصور الحكومة نفسها.

ولم يعبر حزب الاستقلال خلال هذه الفترة على انغلاق سياسي، بل أبان عن مرونة وانفتاح هادئ بدون عصبية سياسية، أمام إمكانية التعاون والتنسيق مع العدالة والتنمية من خلال التواصل مع رئاسة الحكومة، بالرغم من وجوده في المعارضة، الشيء الذي يجعل من هاته العناصر مصدر قوة ترجح تفوقه الانتخابي في تشريعيات 2021 واحتلاله المرتبة الأولى.

عناصر الخريطة السياسية؛ لغة ومحددات الخطاب الانتخابي؛ عناصر البيئة الداخلية اقتصاديا واجتماعيا؛ عناصر البيئة الدولية والإقليمية؛ ارتفاع حدة الصراعات الداخلية خصوصا في حزب العدالة والتنمية؛ ارتفاع حجم الأخطاء التواصلية والتدبيرية والمحاكمات الأخلاقية والسياسية لقياداته وظهور فئات نفعية داخله، كلها مؤشرات تفترض تراجع التنظيم انتخابيا، سواء بشكل تكتيكي حفاظا على النفس النضالي ولفتح المجال أمام تجريب تشكيلة أخرى هل تتمكن من مواجهة تحولات المجتمع، أو بشكل واقعي بتآكل حقيقي للفئة المصوتة عليه.

ولن يلغي تراجعه المستقبلي احتفاظه بمبدأ المشاركة في العمل الحكومي، باعتبار أن احتمال ممارسته المعارضة ستزيد من التصدع الداخلي، ومن نفور الفئات المصلحية المنتفعة بداخله أو المتعاطفة معه، وبذلك قد ندخل مرحلة تناوب توافقي من نوع نوع جديد، وهدنة سياسية من شأنها أن تفك الضغوط وتنفسها عن الدولة وعن المجتمع أيضا.

*باحث في العلوم السياسية

Share
  • Link copied
المقال التالي