Share
  • Link copied

علي الإدريسي يكتب: الأوبئة والجوائح ومكانة العلم والعلماء في المجتمع؟

ألِف الناس أن يستمعوا في دولهم إلى السياسيين، حكام ومعارضة، أما غيرهم فيدرجون في الدرجات السفلى. إذ يقتصر دورهم في الاستجابة لقرارات السياسيين. لكن في زمن الأوبئة والجوائح تضطر بعض الدول إلى اعتبار الكلمة الأولى والصوت المسموع له هو صوت العلماء المختصين من أجل اقتراح الحلول الملائمة لتجنب أخطار الأوبئة أو الجوائح على المجتمع، ولا يبقى للسياسيين، وبخاصة السلطة الحاكمة، حينئذ إلا إصدار المراسيم التنفيذية  لتطبيق ما تقترحه الهيئات العلمية المختصة. وهذا ما لجأت إليه دول قدرت تقديرا عاليا ما لعلمائها من كفاءة أو إمكانية الخلاص من تفشي وباء أو جائحة كورونا. وبذلك تكون قد اعتبرت احترمت سلطة العلماء العلمية في بلدانهم، في الوقت الذي تقاعست فيه دول أخرى عن الأخذ برأي الهيئات العلمية الكفؤة والقادرة على قيادة المجتمع إلى شاطئ السلامة؛ إما بسبب خوف الحكام من أن تُنتقص صورتهم في عيون محكوميهم، وإما بسبب غياب مؤسسات علمية قادرة على أن يكون لها رأي يُستمع إليه من قبل السياسيين ومراكز القرار بخاصة.

ونعلم أنه حين كان لدى المسلمين سلطة علمية محترمة كانوا قبلة يُتوجه إليها، وسلطة ناعمة يُعمل بإرشاداتها. ويكفي أن نشير فقط هنا إلى أن نظام “الحجر الصحي” المعروف في اللغة الفرنسية بعبارة  La quarantaine يعود الفضل في ابتكاره والنصح به إلى المفكر والعالم والطبيب ابن سينا؛ وكان يدوم 40 يوما. ونفخر نحن في المغرب بعصري الموحدين والمرينيين لأنهم شجعوا نشر العلم، واستقبال العلماء من كل الأقطار والأصقاع. كما نعلم أن للتقنيين والعلماء والفنانين مكان محوري في بناء الحضارة المعاصرة. مما حدا بكلود هنري سان سيمون، أحد مفكري أواخر القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر أن يعلن انحيازه الكامل إلى الصناعيين (التقنيين والعلماء) بدون مواربة، وضرب لذلك مثالا لكي يبين للناس أن لا قامة أطول من قامتهم على الرغم من اعتقاد عامة الناس غير ذلك، حين يوجهون كل اهتمامهم  بأهل السياسة. ولكي يوضح أهمية التقنيين والعلماء استدل بالفرضية التالية:  إن أعظم مصيبة يمكن أن تصيب أمة من الأمم ليست بفقدان سياسييها، وإنما نكبتها الحقيقية ستكون بفقد علمائها وتقنييها في ظرف مفاجئ طارئ، لأنه من الصعب، بل من المستحيل أن يتم تعويضهم بالسهولة نفسها التي يتم بها تعويض السياسيين؛ فنكبة أي بلد، إذن، في تقنييه وعلمائه ومفكريه تُعد أخطر وأقسى من أي نكبة أخرى. والأمر سيان إذا لم يشرك المجتمع، أي مجتمع، قدراته العلمية ومراكزه البحثية في تدبير شؤونه، وتشجيع البحث المسؤول عن الحلول الملائمة للمعضلات التي قد تعترض حياته.

أعلنت أكثر من دولة، تصنف ضمن الدول المتقدمة والمتطورة سياسيا واقتصاديا وعسكريا، الحرب على جائحة كورونا أو covid 19، لكن هذه الحرب لم تكن حربا دبلوماسية أو حربا عسكرية، بل أضحت حربا من نوع آخر؛ غرف عملياتها وأركان حربها مراكز البحث العلمي، وقياداتها الميدانية الهيئة الطبية، وجنودها نساء ورجال التمريض وملاحقهم. ولم يكن مستغربا ، إذن، أن تعلن منظمة الصحة العالمية أن العالم في  حاجة ماسة إلى أكثر من 6 ملايين ممرض وممرضة للعمل وإيقاف هجوم كورونا. وقد لاحظنا في بلداننا عودة الأصوات المنادية بعودة الأدمغة المهاجرة؛ المناداة، بلا شك،  سليمة نظريا من المواطنين، ومُلِحّة من حيث العاطفة الجماعية، لكننا نعلم أن الأدمغة ومختلف الكفاءات لا تشتغل ولا تبدع إلا في مناخ أو بيئة صالحة.

لكن، من هم العلماء الذين يستحقون السلطة أو المكانة اللائقة بهم في مجتمعاتهم، لكي يساهموا في البناء الرشيد لدولهم، وما هي العلاقة التي ينبغي أن تربط بينهم؟ سؤال يبدو وجيها، بل ضروريا، أن يُطرح بجدية. أبادر شخصيا إلى الاعتقاد بأن كل العلماء من حقهم، ومن واجبهم كذلك، ممارسة ما هم مؤهلون له؛ غير أن غياب التكامل الإيجابي بين حاملي مختلف مجالات المعرفة العلمية، وغياب التواصل الفاعل بين السلطة السياسية والهيئات العلمية، والتنافر الملاحظ بين أهل العلم أنفسهم الناجم عن ادعاء امتلاك الحقيقة من هذا الطرف أو ذاك يحول دون تحقيق مكانتهم العائدة لهم في مجتمعاتهم. وهذا يكون لصالح السلطة السياسية، خاصة في الدول التي تعاني التشرذم والتشظي.

أما العلماء الذين نشير إليهم، فهم أولا، العلماء الذين يجيبون عن سؤال: كيف نعيش، وكيف نحسّن ونطور سائل معاشنا (حياتنا المادية)؟ وثانيا، العلماء الذين يجيبون عن سؤال: لماذا نعيش، أي ما الغاية من العيش؟ وثالثا، العلماء المفكرون الذين يسعون إلى تنمية الفكر بحقائق الأشياء لدى الإنسان، وإبراز القيم والقواسم المشتركة بين الناس، وبين مختلف العلوم والمعارف، وإظهار مزاياها وأخطارها في الوقت نفسه. ولذلك كان محمد بن عبد الكريم الخطابي قد كتب سنة 1958 قائلا: “ثلاثة إذا تعاونوا وتآزروا قادوا مجتمعاتهم والعالم إلى شاطئ السلامة، أما إذا اختلفوا وتنافروا فذلك طريق الدمار والخراب للجميع. ويتعلق الأمر بالتعاون بين العلماء الباحثين عن ترقية شروط الحياة، وعلماء الدين، وأهل الفكر بعامة”.  

*دبلوماسي مغربي سابق مقيم في كندا

Share
  • Link copied
المقال التالي