خلفيات ومقدمات لنظام عالمي جديد
نتذكر أنه عقب كل أزمة كبرى في عالمنا المعاصر ينتج عنها نظام عالمي مستجد، أو يمهد له. ففي القرن العشرين، على سبيل المثل، أدت الحرب العالمية الأولي (14 – 1918) إلى تقسيم أوروبا عقب قيام الثورة البلشفية الشيوعية في شرق أوروبا مقابل النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية، وانتهاء زمن الأمبراطورية التركية صاحبة الخلافة العثمانية بتقسيم إرثها بين قطبي الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا بتفاهمات سايكس – بيكو)، والوعد بتحقيق مشروع الدولة الصهيونية في فلسطين.
وكون الغطرسة والغرور من سمات الأقوياء الفاقدين للحكمة، فإنه لم يكن بوسع القوتين الاستعمارية الانتباه إلى التغيرات والتطورات المحتملة من تبدل الأحوال. من ذلك، مثلا، مستجدات عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى. إذ لم يكن هناك استعداد لديهما للتفاعل الإيجابي مع مستجدات العالم. ونعلم أن الأزمة الاقتصادية لسنة 1929، وما رافقها أو تبعها من ظهور الفاشية والنازية عجلت، مما لا شك فيه، بقلب الطاولة الاستعمارية، خاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية (39 – 1945)، التي نجم عنها ما بين 60 و 80 مليون ضحية، الذين مثلوا حوالي 3 %من إجمالي ساكنة العالم في ذلك الوقت. إضافة إلى المجاعة التي عمت كل أقطار الدنيا. ونتيجة لذلك تضاءل دور القوى الاستعمارية الأوروبية في التحكم وتدبير شؤون العالم؛ فتم انتقال قيادة العالم إلى أمريكا والاتحاد السوفياتي (روسيا)، اللذين كان لهما الدور المركزي في هزيمة النازية والفاشية.
انتهت الحرب الساخنة، لكن العالم سادته حرب باردة بقيادة أمريكا وروسيا السوفياتية، وسباق التسلح النووي والهيدروجيني وغيرهما. وكان شعار أمريكا “من ليس معنا فهو ضدنا”، أما شعار روسيا السوفياتية فهو “من ليس ضدنا فهو معنا”. فانقسم العالم، بدءا من تقسيم المانيا وعاصمتها برلين، بين معسكرين كبيرين: معسكر الرأسمالية تحت مظلة “الحلف الأطلسي والديمقراطية السياسية” بقيادة أمريكا، ومعسكر الشيوعية تحت خيمة “حلف وارسو والديمقراطية الاجتماعية أو الشعبية” بقيادة موسكو. دام الأمر كذلك حتى سقوط جدار تقسيم برلين سنة 1989، وتفكك المعسكر السوفياتي، بل انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه سنة 1990، الذي نتج عنه استقلال 15 دولة كانت ضمن ممتلكات روسيا السوفياتية.
بدا العالم يومذاك أشبه بطائرة تحاول أن تطير بجناح واحد، عكس ما عرفته الإنسانية منذ قرون، وأضحى مهددا تهديدا حقيقيا بالعبثية والفوضى والانهيار. تفطنت أمريكا لذلك، كقوة عظمى وحيدة في العالم، فعملت على تجاوز الوضع بإعلان رئيسها بوش الأب، في خريف 1990، أن العولمة هي الملاذ والمنقذ من سقوط الجميع في العبثية، وانهيار المجتمع الدولي. تجاوب الكثير مع الدعوة الأمريكية للعولمة طوعا أو كرها. واعتُبرت الديمقراطية السياسية من أهم مظاهر تلك العولمة. ولذلك تحولت أكثر من 80 دولة إلى شكل من أشكال النظام الديمقراطي السياسي خلال عشر سنوات فقط ، بعد أن كان عددها قبل انهيار معسكر حلف وارسو لا يتجاوز 40 دولة.
من العولمة إلى عودة الأيديولوجية القومية
وعلى الرغم من “فشل” جميع الانتقادات الموجهة إلى العولمة وآليتها الممثلة في “اللبرالية المتوحشة”، فإن الضربة الأكثر تأثيرا على إنهاء مرحلة العولمة جاءت من أمريكا نفسها بزعامة الرئيس دونالد ترامب، المتشبع بفكرة القومية الأمريكية التي شعارها “أمريكا أولا”، الذي تكلل به الرئيس ترامب، المسنود بالمحافظين الجدد، والمسيحيين الإنجيليين، الذين باركوا منهج الرئيس ترامب، المتبني لعقيدة أن الله اختاره كي يعيد لأمريكا عظمتها، ويصحح أخطاء الرؤساء الأمريكيين السابقين، الذين تخلوا عن الإنجيل فتخلى عنهم اليسوع. ولم يتردد الرئيس ترامب أن يعلن جهارا نهار “أنا الشخص المختار”، ومعروف عنه أنه كلما تحدث عن منهجه وسياسته الأمريكية إلاّ ويرفع رأسه إلى السماء باعتباره “الشخص المختار” الذي يتولى كبح جماح الصين الاقتصادي وتغلغلها الهادئ في قارتي آسيا وإفريقيا، بل حتى في أمريكا، كما يتولى عقاب حلفاء أمريكا الأوروبيين، باستثناء بريطانيا، ومطالبة حلفائه الأسيويين جهارا نهارا بتسديد فواتير حماية أمريكا لهم، إضافة إلى ابتزاز دول الخليج البترولية والتباهي بذلك، وخنق إيران لأسباب متعددة التأويل، وإعداد خطة القضاء المبرم على قضية فلسطين وشعبها، مقدما نفسه بأنه أعظم رئيس أمريكي في التاريخ الذي جلب الخير لأمريكا والنجاح الباهر لخططه الاقتصادية، معلنا، في الوقت نفسه، أن قَدَرَه اختاره لكي يُصلح ما أفسده سابقوه في قيادة أمريكا.
نحو زعامة أحادية للعالم
كان هذا نهج الرئيس ترامب في العلاقات الدولة، الأمر الذي يشير إلى اعتبار نفسه قائدا أوحدا للعالم الذي يجب أن ينقاد له الجميع بدون أي شرط. وقد قاد معارك متعددة الاتجاهات، كما هو معلوم، لتحقيق خططه، وركز معاركه، بصفة خاصة، على الصين طيلة السنوات الثلاث من حكمه. ومع انطلاق سنة الانتخابات الأمريكية يبدو أن ترامب القومي والإنجيلي قرر اللجوء إلى السرعة النهائية من أجل ضمان بقائه في البيت الأبيض في انتخابات نونبر المقبل؛ وذلك من خلال إعلان انتصاره المدوي على خصمه الأقوى وهو الصين، بتنفيذ سياسة تصعيدية وتطويقية ضدها من جميع الجهات والجوانب. فهل كان ظهور وباء فيروس كورونا القاتل في ووهان الصينية، في دجنبر 2919، عاملا أساسيا وفاعلا لاعتقاد الرئيس المختار هزيمة التنين الأصفر؟
ويعتقد كثير من المتابعين للتوتر السائد بين الإدارة الأمريكية والصين بأن أول خبر سار للرئيس ترامب، كان خبر ضرب فيروس كرونا الصين. ويبدو أن هذا الخبر منحه شعورا بالاطمئنان على بقائه في البيت الأبيض عهدة أخرى لقيادة العالم، وتحقيق شعاره “أمريكا أولا”. ولا يزال كثير من الملاحظين والمحللين لتوجهات رئيس الولايات المتحدة يتساءلون، بكثير من الحيرة والاستفهام، عن القصد من تعليقه بانشراح ضاهر، في يناير 2020، على انتشار فيروس كورونا في الصين بقوله: “لدينا السيطرة الكاملة عليه”. الأمر الذي جعل العالم يستحضر ما نشرته مجلة Nature Medicine الأمريكيّة في أحد أعدادها سنة 2015، يفيد أنّ عُلماء في الولايات المتحدة تمكّنوا من الحُصول على نوعٍ جديدٍ من فيروس كورونا له تأثيرٌ خطيرٌ على الإنسان. والواقع، أن اسم هذا الفيروس كان متداولا من قِبل الباحثين قبل أن تشير إليه المجلة، فمثلا، نشر الكاتب العلمي ديفيد كوامن (David Qwammen) سنة 2012 كتابا تحت عنوان Spillover,Animal Infection and the Next Human Pandemic عرض فيه لأنواع من الفيروسات المهددة لحياة الأنسان ومنها فيروس كورونا. وتمت ترجمة الكتاب من قبل “عالم المعرفة” الكويتية ونُشر سنة 2014.
ويعود التلميح إلى احتمال توظيف هذا الفيروس ضد الصين، من جانب أمريكا، إلى مشاركة جنود أمريكيين في دورة الألعاب العسكريّة الدولية التي احتضنتها مدينة ووهان، ويتم التساؤل عن احتمال قيام الجيش الأمريكي بزرع فيروس كورونا هناك. ومعلوم أن مدينة ووهان كانت البؤرة الأولى لانتشار الفيروس.
هل انطلقت الحرب الباردة الثانية؟
لم تتوقف تساؤلات المهتمين والمتابعين لمصدر فيروس كورونا المستجد عند ما هو منشور، بل أن مصدرا صينيا رفيعا أعلن أن الفيروس من صنع أمريكي، قبل أن يُروَّج أنّ الفيروس المستجد من صنع المختبرات والمخابرات الأمريكية في أفغانستان، وقيل أنه من تركيب المخابرات الأمريكية في مختبرات لها بجورجيا. وفيما يشبه نفي ذلك راح الرئيس ترامب يرد ويصر، على أن الفيروس صيني المصدر، بل أن وزيره للخارجية، مايك بومبيو، صرح في 25 مارس 2020 بإن الحزب الشيوعي الصيني “حرم العالم من المعلومات التي يحتاجها للتصدي لفيروس كورونا المستجد”، واتهم الصين بأنها تخفي معلومات كان يمكن أن تساهم في معالجة هذه الجائحة بشكل شامل. ومن ثمة “عرّضت حياة الآلاف للخطر”.
جاء ت هذه الاتهامات والهجومات الأمريكية ضد الصين بعد أن بدأ فيروس كورونا المستجد ينتشر بوتيرة عالية في أمريكا نفسها، وبعد أن كانت الإدارة الأمريكية تبدو مغتبطة بما يجري في الصين، مطمئنة على عدم تعرض الولايات المتحدة لوضع مماثل؛ وهو الأمر الذي يقوي إمكانية الصنع الأمريكي للفيروس. فهل نحن بصدد حالة غير خيالية لصنع فرانكشتاين Frankenstein حقيقي أو ما يُطلَق عليه في أمثالنا “انقلب السحر على الساحر”؟ وإلاّ ما دلالة قول ترامب يوم 29 مارس 2020: “فيروس كورونا ينتشر بشكل أسرع بكثير مما كان متصورا “؟
مما لا شك فيه أن الصين، بانتصارها على الجائحة، أو التقليل من أخطارها، وتقديم يد المساعدة لغيرها على عكس أمريكا، تكون قد قدمت نفسها للعالم بأنها الأجدر بالقيادة؛ فهي لم تكتف بالتغلب على انتشار الفيروس في بلدها والتقليل من تهديداته القاتلة فقط، بل أنها أصبحت المصدر الأول الناجع في تقديم العون الطبي الفعلي لأكثر من 80 دولة في العالم، بما في ذلك الدول الأكثر تطورا. وقد اضطر ترامب، الذي كان يبدو عليه الانشراح بوجود فيروس كورونا المستجد في الصين، إلى الاستفادة من خبرتها في مواجهة الوباء بعد أن تحول إلى جائحة؛ فسبحان مبدل الأحوال. ففي الوقت الذي فشلت فيه الإدارة الأمريكية فيما نجحت فيه الصين، لا يزال ترامب يقول: “أنا لا أتحمل المسؤولية على الإطلاق” بشأن انتشار فيروس كورونا.(29 – 3 – 20).
أصبحت الصين، إذن، لاعبا إيجابيا كبيرا في العالم، مقابل الشعور بإفلاس اللاعب الأمريكي الذي فقد حتى ثقة حلفائه الأوروبيين، باستثناء بريطانيا، وبخاصة في عهد بوريس جونسون الذي يماثله كثيرا في الدعوة إلى إحياء ألأيديولوجيات القومية. وفي جانب آخر اختلت صورة الاتحاد الأوروبي بعد تخليه أو عجزه عن إنجاد أعضائه وهم يعانون من جائحة كورونا
ما الرؤية المحتملة لظهور نظام عالمي جديد؟
وإزاء من نلاحظه من إرهاصات التحول من العولمة إلى نظام عالمي جديد انطلاقا من بوادر حرب باردة جديدة بين الصين وأمريكا نتساءل عن التوجهات أو التنبؤات المتوقعة لعالم ما بعد جائحة كرونا؟
هناك من يتوقع نظاما عالميا قوامه عودة الأيديولوجيات القومية والوطنية بقوة، والانحياز إلى نهج المحافظين الجدد واليمين التطرف في أمريكا وأوروبا، بما في ذلك الجماعات الدينية، وستزداد مظاهر الفاشية والدول الفاشلة. ومن ثمة ستزول كثير من الشعارات والمصطلحات السياسية والحقوقية الحالية، كما حدث بعد سقوط جدار برلين بالنسبة إلى الشعارات التي ظهرت في الحرب الباردة. وسيسود القوميون المناهضون للعولمة. وقد تدوم الشعارات القومية زمنا، قبل أن يتم التمرد عليها بظهور مفاهيم جديدة للديمقراطيات والحكم الرشيد، والنظام الحمائي لشرائح اجتماعية واسعة. وسيتغير، بلا شك، مفهوم المجتمع الدولي السائد حاليا، بعد ازدياد العجز على حل مشكلات العالم، وازدياد انتشار الفقر، مقابل احتكار الثروات بين فئات قليلة في العالم.
وهناك من يتنبأ بنهاية العولمة الحالية، بعد أن تصبح الصين لاعبا قويا في النظام الاقتصادي العالمي، وعنصرا فعالا في العلاقات الدولية. وفي مرحلة أولى سيتمحور النظام الدولي حول الصين والولايات المتحدة، إذا ما تخلصت هذه الأخيرة من أيديولوجيتها القومية وقيادتها المنفردة للعالم، والاعتراف بأن تقنيات القرن الواحد والعشرين وتكنولوجياته عالمية الاستفادة والعواقب أيضا، وأن تغيرات اجتماعية جذرية قادمة، وتطورات اقتصادية سلبية مقارنة مع ما هو سائد الآن. الأمر الذي قد يؤدي إلى اضطرابات ونزاعات أقوى وأكثر مما يسود الآن بين دول الشرق الأوسط، وبين أمريكا وإيران وأفغانستان وفلسطين.
وفي الجانب الاقتصادي، من المتوقع أن يؤدي النظام العالمي الجديد إلى لجوء الحكومات إلى الاعتماد على خطط اقتصادية تتجه إلى الاكتفاء الذاتي والتقليل من الاستيراد، لأن شعار التعاون الدولي فقد صدقيته؛ فالولايات المتحدة والصين غلّبتا مصلحتهما، كل حسب منهجيته. والآن دخلتا في جدال وحرب إعلامية حول أيهما مسؤول عن الأزمة الحالية لتبرير أحقيتهما لقيادة العالم. أما الاتحاد الأوروبي فقد فشل في تقديم المساعدة حتى للدول الأوروبية نفسها لمواجهة جائحة كورونا. وقد برهنت الأزمة أن وضعه لا يختلف عن الاتحادات الموصوفة بـ”الفاشلة”
مهما يكن من أمر توجهات واحتمالات ما ستكون عليه صورة النظام العالمي لما بعد جائحة كورونا، فإن العالم قد يختلف اختلافا جذريا بعد هذه الجائحة. أما صورة العالم العربي فنعتقد بأنها لا تحتمل أي تغير أو تطور، لأنه لم يسع إلى تغيير صورته اثناء اجتياح كورونا المستجد وأحرى أن يغيرها بعد ذلك، لأن كل أقطاره لا تزال منشغلة، منذ قرون، بحروبها الداخلية أو البينية.
*دبلوماسي مغربي سابق مقيم في كندا
مقال ممتع وشيق، شكرا جزيلا
مستقبل ما بعد كورونا رهين بنتائج وتأثير الوبء على كل الدول والأيديولجيات التي تحكمها أعتقد بأنه ولحدود الآن كل الدولوالتي عندها نضام صخي عام هي التي استطاعت تجاوز الأزمة الصحية التي ضربت العالم وبالتالي بدأ الناس يستوعبون اكثر فأكثر دور القطاع العام على القطاع الخاص ولنا في امريكا دروس فلكي فالنصحات الخاصة وضعت رهن المواطن الأمريكي مبلغا خياليا 34000دولار عكس الصين ونضامها العام استطاعت بناء مستشفى عام يأوي آلاف المرضى وفي اسبانيا طرح هذا النسكل بقوة بين احزاب اليسار وأحزاب اليسار الاي كانت وإلى زمن قريب تخصخص القطاع الصحي المهم آن الأوان لليسار ان يقمدم نفسه كبديل للرأسمالية النتوحشة والله اعلم
تحليل دقيق ساير الوضع منذ الحرب العالمية الأولى إلى يومنا هذا. التحليل أيضا مقنع بكل ما أتى به من دلائل. القوى العظمى ترى مصلحتها أولا و أخيرا
تحليل منطقي ربط بين التاريخ المتسلسل و الواقع المعاش الا ان في الحربين العالميتين الاولى و الثانية تبقى الولايات المتحدة الامريكية كالمتفرج من بعيد ينتظر انهاك الكل و قد راى مكامن القوة و الضعف للكل ثم ينقض على فريستة و يساند الاخر و توهيمه بانه بطل الابطال . لكن هذه المرة الولايات المتحدة الامريكية توجد وسط الحرب منذ البداية . بل الواضح انها اول المنهكين في هذه الحرب .