شارك المقال
  • تم النسخ

عصر أتمتة الأشخاص وصناعة المراقبة الشمولية

نعيش اليوم مرحلة متقدمة من “الرأسمالية المعرفية” يمكن أن نسميها “رأسمالية أتمتة الأشخاص وصناعة المراقبة الشمولية”؛ وهي نموذج جديد للسوق ابتكرته أساساً شركات التقنية العالمية الكبرى مثل غوغل وفيسبوك وآبل وبايت دانس، وهو قائم على جمع البيانات الضخمة وتحليلها من خلال الذكاء الاصطناعي ووضع السيناريوهات للتدخل في العالم الواقعي بكل أبعاده ومستوياته.

إن الرأسمالية المفترسة تعمل اليوم على تغيير قواعد اللعبة بتوسيع مجال السوق من جديد من خلال اعتبار التجربة البشرية مادة خاما مجانية للممارسات التجارية الخفية المتمثلة في جمع البيانات الضخمة Big data وتحليلها، والتنبؤ بناء على نتائج التحليلات، والبيع من غير شراء وبالجملة بناء على السيناريوهات التي تم التنبؤ بها. ويعتبر، في هذا الإطار، البريد الالكتروني والتخزين السحابي وخرائط غوغل وأنظمة تشغيل الهواتف الذكية وتطبيقات الهواتف واليوتيوب والفيسبوك وتويتر وتيك توك والسيارات ذاتية القيادة وأنترنت الأشياء، كلها وسائل لتوسيع “الطرق الضخمة والسريعة للإمدادات” الخاصة بشركات التقنية العالمية الكبرى للحصول على بيانات المستخدم الشخصية من داخل الشبكة وخارجها.

إن التنبؤ بما سيشتريه الناس يعتبر العنصر الأساس في صناعة الدعاية، والتنبؤ بمن سيصوت عليه الناس يعتبر العنصر الأساس في اللعبة الانتخابية، ومراقبة من يثق فيه الناس ويتابعونه يعتبر العنصر الأساس في صناعة الوعي. في عبارة واحدة: من يملك محركات بحث أقوى، وأجهزة استشعار أكثر، وكاميرات مراقبة أدق، وبيانات مواقع أوسع، فهو يملك معلومات أكثر ومصادر تدفق معلومات أسرع وأقوى، وسيمتلك بالتالي ميزة تنافسية تمكنه من نهج سياسات توسعية يصعب اللحاق بها واستراتيجيات تحكمية يصعب مقاومتها، ومن أوضح الأمثلة على هذه الحقيقة المرعبة الرباعي الخطير غوغل وأمازون والفيسبوك وآبل، وكذلك حرب أمريكا لأنظمة الصين المتقدمة مثل تكنولوجيا الجيل الخامس وتطبيق تيك توك التي هي في حقيقتها حرب على مصادر القوة التقنية والمعرفية قبل أن تكون حربا تجارية.

إن التهديد الذي تمثله موجة أتمتة الأشخاص وصناعة المراقبة لا يتمثل في مراقبة البيانات الشخصية ومراكمتها، الأمر أعمق وأخطر من ذلك بكثير. إن شركات التقنية الكبرى هم قادة العالم الجدد، لأنهم نجحوا في خلق أشكال جديدة من السلطة (سلطة المعلومة الرقمية) ومن وسائل التعديل السلوكي التي تعمل خارج نطاق الوعي الشخصي للفرد باستخدام هذه السلطة الجديدة. وقد مكنهم هذا النجاح من كسب الحروب الكبرى الثلاث لعالم اليوم: حروب الوعي، وحروب المعرفة، والحروب التجارية. إن الضبط توأم المراقبة، وحيثما وجدت مراقبة وجد الضبط.

هكذا أصبح الوجود، في عصر أتمتة الأشخاص وصناعة المراقبة، حرب معلومات، والسيطرة فيه تؤول لمن استطاع أن يراقب المعلومات ومصادر تدفقها، ويضبط من خلال مراقبتها الوعي والمعرفة والأسواق.. هكذا أصبحت الموسيقى التي يرقص البشر على إيقاعها اليوم هي الخوارزميات الذكية التي تجمع وتحلل المعلومات وتضع سيناريوهات التحكم والضبط والبيع، والأمثلة على هذه التطبيقات الخطيرة لمراقبة المعلومات كثيرة: مقاطع فيديو التزييف العميق، استخدام المعلومات الشخصية في الحروب السياسية، نماذج الأعمال الجديدة المبنية كليا على قواعد المعلومات الضخمة.

ما العمل إذن تجاه هذه الموجة الجديدة للرأسمالية العالمية؟ وكيف نواجه رأسمالية أتمتة الأشخاص وصناعة المراقبة؟

إن الشيء الوحيد الذي سيزعج الرأسمالية العالمية اليوم وغذا ويرعبها هو بقاء أشخاص وجماعات خارج منظوماتها الذكية لجمع وتحليل المعلومات! فهل نتوقف عن ركوب موجة أتمتة الأشخاص ونختفي من العالم الافتراضي؟ إذن نصبح مع الوقت خارج التاريخ! أم نركب الموجة دون خطة ذكية للمواجهة؟ إذن تأكلنا الرأسمالية المعرفية المتوحشة!

لضمير الرأسمالية، إن كان لها ضمير، أن يبحث عن طرق التحقق من قوة شركات التقنية الكبرى، و”مساءلة الخوارزميات”، ويؤسس لحركة مضادة جديدة تقيد رأسمالية المراقبة باسم الحرية الشخصية والديمقراطية. أما نحن المستضعفون على الضفة الأخرى من التاريخ والفعل فيه، فحاجتنا مختلفة، ولن يفيدنا في شيء الدخول في حركات الرأسمالية التصحيحية.

حاجتنا اليوم هي أن نعلن بكل شجاعة عن نهاية دورة تاريخية؛ لقد أصبحت اللعبة أكبر منا وانهزمنا وانتصر الماكرون! وعندما تصبح اللعبة أكبر منك عليك أن تسأل نفسك أين كنت عندما كان الماكرون يوسعون سيطرتهم على العالم، وتستخلص دروس نهاية الدورة وتستعد لدورة تاريخية جديدة، هذا إن كانت لك “إرادة تاريخية” لا مجرد أحلام مجنحة وردود أفعال غير منضبطة وكان لديك “مشروع تاريخي” لا مجرد خطاب تستهلكه!

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي