Share
  • Link copied

عبد الله ساعف: النخب لم تستوعب دستور 2011

عبد الله ساعف- أستاذ القانون الدستوري ومحلل سياسي

بعد 20 سنة، ما أقوى بصمات الملك محمد السادس؟


هناك العديد من البصمات أو المنجزات التي يمكننا الاتفاق حولها، جرت في العشرية الأولى، مثل الإنصاف والمصالحة، مدونة الأسرة، المسألة الدينية، الأمازيغية، هيكلة جديدة للحقل السياسي، هناك من يدرج تقرير الخمسينية ضمن تلك المنجزات، لكني لا أعتبره كذلك.


لماذا؟


صحيح أنه كان تمرينا كبيرا، أعد بناء على تقارير إدارية، وأسهم فيه بعض المثقفين، لكن المسافة النقدية لم تكن حاضرة، دائما، ضمن فقراته.


لكنه عبّر عن تجربة مهمة في تقييم السياسات؟


كانت هناك وقفات للمساءلة قبل ذلك، ففي عهد الملك الراحل الحسن الثاني، كانت هناك لحظات للمساءلة والتقييم، خصوصا بعد الانفجار الاجتماعي لسنة 1984، حيث كانت هناك عملية إنصات ممنهجة على مستويات مختلفة، مركزية ومحلية، وكان لها أثر ملموس.


تقصد أن عملية التقييم والمساءلة تقليد راسخ؟


نعم، هو تقليد مغربي، تجدد مع تقرير الخمسينية، لكن بعض الفاعلين أعطوه حجما أكبر منه، لذلك، لا أصنّفه ضمن المنجزات الكبرى، التي أشرت إلى بعضها سابقا.


خلال العشرية الثانية، ما أهم منجز؟


المنجز الأهم هو دستور 2011، تليه عملية «التناوب الثاني»، أي وصول حزب العدالة والتنمية، الذي كان يمثل معارضة ذات خصائص مختلفة، إلى الحكومة، وهو حدث كبير جرى في ظل شروط أبرزها الإعياء الذي أصاب الأحزاب التقليدية.


لكن، رغم كل ذلك، يبدو أن الدستور لم يحدث القطيعة المتوقعة؟


ظلت الممارسات أقوى من النص الدستوري بعد 2011، حيث لم تبذل النخب والأحزاب جهدا في استيعاب مرامي الدستور الجديد، وما جدّ من مؤسسات.


لماذا؟


هذا له تاريخ، أظن أن التغيرات الجوهرية التي وقعت في بداية التسعينيات، على الصعيد الدولي، حيث سقطت أنظمة، واهتزت تصورات وإيديولوجيات، وتغيرت خرائط جيوسياسية، لم يكن لها الأثر المتوقع على الفاعلين في بلادنا. لقد عاش العالم وقتها زلازل كبرى، لكننا لم نتكيف معها وكأننا في كوكب آخر، حيث لم تقم الأحزاب اليسارية بالمراجعات اللازمة، فيما اعتبرت الأحزاب الليبرالية نفسها في وضعية المنتصر، فلم تعمق تملّكها المشروع الليبرالي، وتركت الأمور على عواهنها. وفي هذا السياق، صعد مكون جديد، غير منتظر، هو الإسلام السياسي، الآتي من عمق المجتمع كذلك. وهؤلاء الفاعلون جميعا تعاملوا مع هزات الربيع العربي، ومع دستور 2011، مثل حوادث سير عرضية.


يُفسّر البعض انتصار الواقع على الدستور بالمحافظة السياسية؟

الثقافة السياسية المغربية، في جوهرها، ثقافة محافظة، فالمغربي شخص حذر، يخاف المغامرة والمجهول. وأظن أن هذا مرتبط بالذاكرة، وبالتجربة التاريخية للشعب، الذي عانى الاحتلال، وعاش تجربة الأندلس، وهي تجارب تجعله يفكر بعقلانية، بهدوء ولكن بحذر أيضا، وربما هذا ما يفسر الجانب التقليداني في شخصيتنا الجماعية.


تقصد أن لهذه الأبعاد تأثيرا مباشرا وغير مباشر على تصوراتنا للإصلاح؟


المحافظة بنيات وفضاءات وسلوكات لها طابع موضوعي، وليست مجرد تصورات خاطئة للواقع، ومن الطبيعي أن يترتب عليها تصور إصلاحي معين في تجاوز الإشكالات.


كيف ذلك؟


الإصلاحية المغربية لها طبيعة خاصة تجعلها مختلفة عن غيرها، وحين أقول هذا الكلام لا أستبعد ما جرى في الأندلس، لأنه إذا كانت هناك جهة ما عانت رواسب الأندلس فهي المغرب، وقد صارت تلك الرواسب جزءا منا. ما عاناه مواطنو غرناطة واشبيلية وقرطبة لا يمكننا أن ننساه ونحن نتحدث عن المحافظة البنيوية، لأنه تولّد عنها إصلاحية بنيوية كذلك، حيث الأشياء تتغير من الداخل، خطوة خطوة، بشكل متدرج، وحذر، ودون مغامرة.


هل تلمس تغييرا في هذه الثقافة السياسية لدى شباب 20 فبراير، وشباب حراك الريف، أي جيل الثورة الرقمية؟


الحركية العامة للمجتمع لا توحي بأن هناك تغيّرا ملموسا في كل ما ذكرناه، أي المحافظة السياسية، والإصلاحية القائمة على الحذر، التدرج، والتأني. لقد كنت ألاحظ هذه الخصائص العامة داخل بعض أحزاب اليسار المؤسساتي، فالاتحاد الاشتراكي، الذي كان يمثل مجموعات هائلة من الطبقة الوسطى، كانت تظهر على سلوكاته السياسية هذه الخصائص، أي الحذر، التأني، والبرغماتية، حتى إنه حين كانت القيادة تختار موقفا معينا وتطلب من القواعد تأييده، لم تكن هذه الأخيرة، وهي حينئذ تشمل فئات متنوعة، وممثلة للمجتمع، تقوم برد فعل آني، بل تميل إلى التريث، وانتظار النتائج، وبالتالي، لم تكن تخلق متاعب للقيادة، بل تترك لها حرية التصرف، وبعدها يجري التقييم اللازم. وهذا يؤكد، مرة أخرى، أن المغربي، مهما تكن مرجعياته، هو شخص محافظ وإصلاحي.

بالنسبة إلى الشباب الجديد، مثل شباب حركة 20 فبراير، يلاحظ أن السقف السياسي ظل في حدود المطالبة بالإصلاح، وكذلك باقي المجموعات الشبابية التي ظهرت هنا أو هناك، ولا نجد لدى أي منها تبني خيار الثورة، بالعكس، جل المطالب يغلب عليها الجانب الاجتماعي، ولا نجد فيها ما يمكنه أن يخلخل هذه البنية الإيديولوجية في الشخصية المغربية، أي الميل إلى المحافظة والإصلاحية.


في كثير من اللحظات نلمس هناك ميلا إلى تحميل النواقص والاختلالات للأحزاب، رغم أن الجميع يعرف أنها لا تحكم، وأن السلطة في مكان آخر؟


مثل هذا النقد يوجه إلى الأحزاب حتى في الدول المتقدمة، مثل فرنسا، لكني ألاحظ أنه منذ التسعينيات لم يكن هناك اشتغال واجتهاد من أجل التكيف مع المستجدات والهزات التي وقعت.


هل هذا يرجع إلى الأحزاب أم إلى طبيعة النظام؟


المسؤولية هنا تتقاسمها ثلاثة أطراف؛ أولا الأحزاب، وخصوصا أحزاب اليسار وحزب الاستقلال، التي كانت تشكل مجتمعا سياسيا حقيقيا، وأظن أنها مازالت تحتل مكانة كبيرة، في ذهني على الأقل، ثم هناك أحزاب أخرى، وأقصد أحزاب اليمين، وبعضها مصطنع والآخر استفاد من دعم غير مبرر. هذه الأحزاب، من اليسار واليمين، تتحمل المسؤولية لأنها لم تقم بالمراجعات والاجتهادات اللازمة، والبحث عن الطرق الأكثر نجاعة في التعامل في القضايا المطروحة، ولم تنجح في وضع مسافة بينها وبين السلطة. الطرف الثاني هي السلطة التي بنت نهجا على أساس أنها المركز، وأن الآخرين مجرد فاعلين ثانويين، يجب خلق توازن في ما بينهم، وغاب عنها أن ضعف الأحزاب يمكن أن ينعكس سلبا عليها، لأنها لم تضع في اعتبارها أن ضعف الأحزاب من شأنه أن يضعفها كذلك.


لكن الملاحظ، في هذا السياق، أنه في الوقت الذي يتحدث فيه البعض عن ضعف عام للأحزاب، فإن السلطة تبدو أقوى؟


تبدو الأحزاب، في اللحظة الراهنة، ضعيفة، لكنها لم تنهر وتتفكك. وفي محطات معينة، كان هناك شعور بأن بعض الأحزاب في طريق التفكك والانهيار، وهو ما عشناه في لحظة معينة مع الاتحاد الاشتراكي الذي تعرض لانشقاقات متتالية، لكنه ظل قائما. صحيح أنه لم يعد في المركز، لكنه حافظ على الاستمرارية.


أليس للسلطة دور في ذلك؟


يرى البعض أن السلطة تقف وراء إضعاف الأحزاب، لكني لا أتفق مع هذا الرأي، قد يكون هناك تدخل روتيني هنا أو هناك، لكني أرى أن السلطة ظلت، على وجه العموم، وفية لنهجها السابق، أي بناء ذاتها وصيانة قوتها ومركزها، لكنها تركت الأحزاب تضعف من تلقاء نفسها، لأنها تدرك أن تدخلها قد يُقوّي تلك الأحزاب.


ومن هو العنصر الثالث الذي يتحمل مسؤولية الاختلالات؟


التحولات المجتمعية التي جعلت الفاعلين السياسيين فاعلين نسبيين؛ فالحياة السياسية، في مرحلة سابقة، كانت تتكون من فاعلين، على رأسهم المؤسسة الملكية، ثم بعض المؤسسات، مثل الحكومة والبرلمان، والتي كانت تهيكل الحقل السياسي المغربي رغم محدودية دورها، ثم الأحزاب والنقابات، لكن الجمعيات لم تكن مدرجة ضمن هذا الحقل. حاليا، تبدو الحياة السياسية أكثر تعقيدا، بعدما ظهر فاعلون جدد؛ مؤسسات جديدة ومتنوعة، ونخب آتية من مغرب الأطراف، الثقافة الرقمية، الحركة الإسلامية بأجيالها المختلفة، الحركة الأمازيغية بأجيالها كذلك، الصحافة،، الطبقة الوسطى، طبقة رجال المال والأعمال، والجمعيات. كل هذه المكونات أضفت على الحياة السياسية دينامية مختلفة، عما كان في السابق، ويجب أخذها بعين الاعتبار في التحليل.


هناك شعور عام بأن المجتمع نفسه بدوره أضحى مهيكلا أكثر من السابق؟


الاصطفاف الاجتماعي كان يتميز بالثبات دائما، لكن، هل تغيّر ذلك؟ هل هناك إمكانية ولوج الطبقات المهمشة للمركز، أم هناك اصطفاف ثابت؟ أظن أن الخريطة متحركة، لأن الاقتصاد المغربي لم يستقر بعد، حيث نلاحظ استمرار مظاهر الفقر والتهميش، كما تواجه الطبقات الاجتماعية الدنيا والوسطى صعوبات كبيرة. لدينا ثروات كبرى، لكن الاقتصاد الوطني غير مستقر لحد الآن، والأرقام الرسمية التي تعلن تكشف ذلك، فمنذ 10 سنوات، لم يتجاوز دخل الفرد 3 آلاف دولار سنويا، كما لم تتجاوز نسبة نمو الاقتصاد 3,5 في المائة سنويا، علما أن هذه الأرقام يجب أخذها بحذر. كان علال الفاسي قد تحدث عن 700 عائلة تمثل المجموعات المالية الكبرى تستحوذ على الثروة، لكن يبدو أن هذا الوضع تغيّر على نحو جوهري.


هل هو تغيّر متحكم فيه؟


لا أظن ذلك، فخلال 20 سنة الماضية تعرضت النخب الاقتصادية والمالية لإعادة هيكلة جوهرية، ويمكننا أن نميّز بين النخب القديمة التي استطاعت الصمود والاستمرارية، والنخب الجديدة الوافدة على الحقل الاقتصادي، ولها رموز في الساحة.


بعد 20 سنة، كذلك، يبدو أن السلطة طوّعت الجميع حتى صارت دون معارضة؟


في السابق، كان الاتحاد الاشتراكي يمثل محورا أساسيا في المعارضات، سواء بالنسبة إلى المعارضات داخل النظام أو من خارجه. كان هذا هو الواقع بين منتصف السبعينيات ونهاية التسعينيات، لكن، في التسعينيات، برز فاعلون جدد، منهم الحركة الإسلامية التي ظهرت في المنطقة ككل، ومنهم وافدون جدد يمثلون خليطا متنوعا، مكونا من بقايا اليسار، ونخب تقنية، وأعيان، ونخب اقتصادية تبحث لها عن مواقع. عمليا، أصبح الحقل الحزبي موزعا بين ساحتين؛ ساحة الفاعلين القدامى، أي أحزاب الحركة الوطنية، ومسار الفاعلين الجدد، مع ملاحظة جوهرية تتمثل في أن التناقض الأساسي أضحى داخل مسار الفاعلين الجدد، أي بين الإسلاميين وحزب الأصالة والمعاصرة، والتناقضات التي تخترق الطرفين لم تكن مقنعة، بل مجرد حركات تكتيكية، تفتقر إلى النفس الطويل.


لذلك ربما بات الشباب يبحث عن فضاءات أخرى خارج الأحزاب؟


المجتمع المدني، مازال مهمشا، ولا يُتعامل معه باعتباره فاعلا، بل كهيئات رديفة، أو موازية، رغم التطورات الكمية والنوعية التي تحققت. ففي نهاية التسعينيات، كان هناك أزيد من 50 ألف جمعية، اليوم يبدو الرقم قد تضاعف إلى أزيد من 160 ألفا، ما دلالة ذلك؟ هل أزمة الأحزاب هي التي تدفع الشباب إلى تأسيس جمعيات؟ هل لأن الجمعيات هي مفتاح القرب؟ هذه ظاهرة يجب التفكير فيها.


هل صار الملك محمد السادس دون معارضة؟


المعارضات لا تنتهي، لأنها هي التي تبرر عمليات الإدماج. في المغرب كانت دائما المعارضات محدودة من الناحية الكمية، اليوم جرى تقليصها أكثر، وشُرعن بعضها، مثل إضفاء الشرعية على حزب النهج الديمقراطي. صارت المعارضات اليوم ثقافية أكثر من كونها سياسية، مثل شباب الحريات الفردية، وتمثل جماعة العدل والإحسان معارضة من نوع خاص في هذا السياق، فهي تمارس معارضة بمضامين وحمولة صوفية دينية أقوى من المضامين السياسية.


هذا يعني أن المعارضات السياسية التقليدية لم تعد موجودة؟


في السابق، كانت لدينا معارضة داخل النظام، وأخرى خارج النظام، وفئة ثالثة أسمّيها الانتظاريين الذين باتوا فئة خافتة، لكن هناك فئة رابعة من المعارضين ممن هجروا ذهنيا المجال السياسي، ربما مؤقتا، وبعضهم يفضل العيش في الخارج. لا أعتقد أن هناك نظاما سياسيا يمكنه العيش دون معارضات، وفي علم السياسة ندرس نظرية الأدوار، حيث يمكن أن تلعب المعارضة دور مكمل للنظام، لكن من موقع مختلف ومغاير.


في مجال سياسي دون معارضة، ألن يؤدي ذلك إلى هيمنة المنطق الوحيد، خصوصا في ظل اتساع دور النخب التقنية؟


هناك توجه لدى عدد من النخب ينتصر للتصور التقني، ويعتبر أن تقدم العقل والتقنية لم يعد يسمح بالتقسيم التقليدي الذي يضع السياسي في موقع القيادة، أي من يحدد الغايات والتوجهات، فيما يشتغل التقني بالوسائل والتنفيذ، لكن هذا التقسيم لم يعد مسلما به، حيث هناك من يتصور أن التقني يمكنه أن يسهم، بدوره، في تحديد التوجهات والغايات، بعدما أصبحت، بدورها، في إطار منظور السياسات العمومية، قابلة لأن تحدد علميا وتقنيا.


هل أنت مع هذا التصور؟


في الحالة المغربية الأمور تغيرت، أرى أن الناس/الناخبين هم من يحددون الغايات والتوجهات، بواسطة أصواتهم في الانتخابات، ودور الطبقة السياسية أن تترجم تلك الغايات والتوجهات إلى سياسات وبرامج، ويقع على التقنيين دور التنفيذ والبحث عن الوسائل الفعالة لذلك.


لكن التفكير الرائج حاليا حول النموذج التنموي الجديد لا وجود فيه للناخب على الأقل؟


الخطاب الملكي واضح بخصوص هذا الأمر، حيث اعتبر أن لحظة إعداد النموذج التنموي الجديد ستكون لحظة للتفكير، والتداول العمومي، وإنتاج الأفكار والتوجهات، لأن الاختيارات السابقة أظهرت محدوديتها، ونحتاج إلى توجهات وأفكار جديدة، وبالتالي، إلى نقاش عمومي واسع، يشارك فيه الجميع، فاعلون، نخب، مفكرون، وخبراء…


لكن في غياب الناخب؟


الناخب مستوى آخر، والخطاب الملكي أكد أن اللجنة التي ستُعلن ليست بديلا للحكومة، وليست مؤسسة مستقلة، لذلك، أرى فيها لحظة استشارية للتداول الجماعي للشأن العام، ولحظة للتعبئة، وللسياسة كذلك.

Share
  • Link copied
المقال التالي