يعتبر كتاب عالم بلا معالم للكاتب المغربي حسن أوريد، الصادر عن دار المركز الثقافي في سنة 2021، واحد من الكتب ذات القيمة المضافة، التي طبعت المشهد الثقافي المغربي. وقد شكل صدوره حدثا فكريا بارزا، بالنظر إلى المحاور التي اشتغل عليها. وهي محاور تكتسي أهمية حيوية في سياق التغييرات الجذرية، التي باتت تعرفها العلاقات الدولية غداة جائحة “كوفيد 19”. حيث عمد إلى مقاربة البناء الحالي للعلاقات الدولية، انطلاقا من الثابت والمتحول في هذه العلاقات، ليخلص إلى زيف كل الفرضيات الهلامية و المهدوية التي سادت مباشرة بعد سقوط حائط برلين؛ من انتشار الديمقراطية وشيوع الرأسمالية، وخفوت الأيديولوجيا، التي كانت محددا للعلاقات الدولية إبان الحرب الباردة. وعلى هذا الأساس لم يعد هناك مجال للحديث عن نهاية التاريخ والأحادية القطبية، بدلالة تغير مراكز القوى الكبرى، من هيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى صعود نجم جمهورية الصين الشعبية، ومدها التصاعدي، الذي سيجعل منها في غضون العشرية المقبلة حسب تقديرات الاقتصاديين القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وصحوة الدب الروسي كفاعل ساهم في تكسير لعبة الأحادية القطبية، رغم افتقاده إلى القوة الناعمة على المستوى التقني. ومع الأزمة المالية لسنة 2008 أضحى جليا أن ثروة الأمم ليست في الرأسمال، ولا في المال، و إنما في العمل والإنتاج.
غير أنه ورغم كل هذه التغييرات، تظل قضية الديمقراطية محورية؛ أولا كميكانيزم لتدبير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وثانيا كمؤشر لهوية الغرب ومجده، لكنها باتت مهددة في هذا المجد تحت تأثير التحول الرقمي، الذي خدم الأجهزة الأمنية أكثر مما خدم القوى الحية، وأفضى إلى ما سمي بالديكتاتورية الرقمية. علاوة على تنامي الاتجاهات الشعبوية، سواء في صيغتها اليمينية أو اليسارية في مواجهة الهجرة، والأقليات العقدية والعرقية، وعدم الثقة في النخب الحاكمة.
واللافت للانتباه في متغيرات عالم بلا معالم، ما يتعلق بالاتحاد الأوربي، الذي يعتريه التصدع، ويعيش على إيقاع مجموعة من القضايا المعطلة، في مقدمتها قضية الدفاع أو الجيش الموحد، كأداة للتخلص من هيمنة الحلف الأطلسي، ولمواجهة الخطر الروسي، و ثانيا قضية العملة الموحدة، لأنه في ضوء الأزمة المالية التي ضربت الدول الهشة مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا، برز تيار اقتصادي، يرى في العملة الموحدة تهديد للوحدة الأوربية بالنظر إلى تباينات جوهرية في المستوى الاقتصادي واختلافات في السياسات المالية بين بلدان الاتحاد. ثم ثالثا العلاقة بين الاقتصادي والاجتماعي، وأيهما ينبغي أن يتمتع بالأفضلية من منظور الفعالية، مع بزوغ توجهات جديدة تنادي بسياسة اجتماعية جديدة تتوخى التوزيع العادل للثروات. وأخيرا مسألة التنسيق في السياسة الخارجية، حيث أبان الاتحاد عن عدم تنسيق في القضايا الخارجية كما في قضية ليبيا(فرنسا وإيطاليا)، وانعدام التضامن في خضم جائحة كورونا.
وفي إطار هذا الضوء المبدئي العام، يرى الدكتور حسن أوريد أن الاتحاد الأوربي لديه الاقتدار للانعتاق من هذا التصدع بناء على السيناريوهات التالية:
- السيناريو الأول: يمكن للاتحاد أن يبقى في صيغته الحالية مع روتوشات .
- السيناريو الثاني: إعادة هيكلة الاتحاد بناء على نظرة عميقة لواقع الحال، وللتحديات المطروحة، ويتحتم والحالة هذه تضحيات جسيمة، من قبيل إعادة التفكير في العملة الموحدة أو إغلاق باب الاشتراك و إمكانية الانسحاب والطرد وإعادة النظر في العلمنة.
- السيناريو الثالث: أن يترك الحبل على الغارب إلى أن تتعثر الآلة كما وقع مع الاتحاد السوفيتي.
وبالرجوع إلى خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي ألقاه أمام البرلمان الأوربي بمناسبة الرئاسة الفرنسية الدورية للاتحاد الأوربي، التي انطلقت في بداية شهر يناير2022، وستنتهي بعد ستة أشهر، نجده قد طرح رؤيته لمستقبل أوربا، من خلال ثلاث تحديات أساسية، وهي: - تحصين القيم الديمقراطية التي باتت في السنوات الأخيرة مترهلة، وتعاني هشاشة ملحوظة، وتعتبر جائحة كورونا مؤشرا دالا على حيوية الديمقراطية، و علامة بارزة على الفرق بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية، حيث استطاعت الأولى من خلال النقاشات البرلمانية و حرية الصحافة والمراكز الأكاديمية أن تتخذ قرارات أكثر حماية للأرواح، في حين حصل العكس في الأنظمة الاستبدادية. ولعل توقف ماكرون عند الديمقراطية مرده إلى صلابة قرارات بروكسيل اتجاه دول جنوب أوربا كاليونان و اسبانيا والبرتغال إبان الأزمة المالية لسنة 2008، والتي أفضت إلى تبني قرارات تعاكس الإرادة الشعبية لهذه البلدان، وجعلت الناخبين يتساءلون عن جدوى الانتخابات مادامت اختياراتهم لا تؤخذ بعين الاعتبار. بالإضافة إلى تنامي بعض الأفكار التي بدأت تنتشر شيئا فشيئا، مضمونها أن الفعالية تقتضي أن نتجاوز مفهوم دولة القانون. هذا التجاوز يصفه ماكرون بالتعسف والاعتباطية وعودة الأنظمة الاستبدادية، وهي رؤى متطرفة تسعى إلى تقويض تاريخ أوروبا المجيد، المحكوم بالتجديد والتطوير.
- التقدم: إن أوروبا مطالبة بإعادة النظر في معدل نمو اقتصادها، الذي عرف خلال السنوات الأخيرة تراجعا ملحوظا تحت تأثير التفكيكات الصناعية، و التحديات الرقمية والبيئية. مما يفرض على أوروبا تقديم نموذج للمستقبل، يرتقي بها من النوايا إلى الأعمال، من خلال إرساء استراتيجيات متينة تستوعب التحديات البيئية، وخاصة التحولات الرقمية التي تتطلب بناء سوق أوروبية مشتركة تسمح بإنتاج أبطال أوروبيين قصد حماية عصر الأنوار.
- الأمن الأوروبي: الحاجة ماسة إلى مواجهة الهجمات الإرهابية، و موجات الهجرة غير المنظمة وتدخلات القوى الكبرى، وهذا غير ممكن، ما لم يبادر الاتحاد الأوروبي إلى تجديد سياساته في مجال الدفاع وصناعات الدفاع وتكنولوجيا الدفاع، في أفق سياسة استباقية لحماية حدود بلدان أوروبا الشاسعة، ولتحقيق الاستقلالية عن قرارات الآخرين، فأوروبا بحوزتها الأدوات والإمكانات لتحدد مستقبلها بنفسها دون الاعتماد على الآخرين.
وعموما، يتضمن هذا الخطاب رؤية إصلاحية، حول مستقبل أوروبا، بدلالة لغة الخطاب، وطبيعة المفاهيم المستعملة، والتي تختزن بين طياتها الدعوة إلى مزيد من الوحدة والتكتل، و التشبث بالمبادئ الفضلى لدولة القانون. لذلك فهو خطاب توجيهي، مستوعب للقضايا المعطلة من قبيل الدفاع المشترك والتحولات الرقمية، والتراجعات المسجلة في مجال القيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. إن تموضع أوروبا في سياق عالم ما بعد جائحة “كوفيد 19” يتوقف في نظر ماكرون على متطلبات التغيير التي رفعها في خطابه، لأن الاتحاد الأوروبي ملزم بالاستمرار في أداء رسالته المهدوية المرتبطة أساسا بقيم عصر الأنوار، والمحافظة على هذه الحضارة العظيمة الممتدة في الزمان والمكان، القائمة على الطابع الكوني، والثقافة واحترام الحريات الفردية رغم الاختلافات. لا يمكن طبعا أن يتحقق ذلك بمجرد الخطابات البديعة، بل ينبغي البناء على التراكم، والدعوة هنا موجهة إلى المؤرخين للقيام باستئناف البناء، وبعث الروح في هذا الإرث المشترك بين شعوب أوروبا الطيبة.
وستلعب هذه السردية الجميلة دورا ايجابيا في حشد الهمم لتوحيد قوة أوروبا، حتى لا تبقى رهينة خيارات الآخرين، علاوة على الاستثمار الاستراتيجي في التحولات الرقمية، باعتبارها المحددات الحقيقية للمستقبل.
ويرفع إيمانويل ماكرون هذه التحديات، وهو مثقل بحقائق صادمة، تتمثل في خسارة فرنسا لصفقة الغواصات النووية التي كانت مبرمة بينها وبين دولة أستراليا، تحت تبريرات فقدان التقنية الفرنسية لمستجدات التكنولوجيا النووية، وأن الصناعة الفرنسية باتت من الماضي، ولا يمكن التعويل عليها في بناء القدرات الدفاعية لهذه لدولة أستراليا. لذلك، فإن فرنسا ماضية في بدل الجهد الحقيقي لضمان استمرارية الاتحاد الأوروبي كقوة مفصلية في العلاقات الدولية.
وعلاقة بالإشكالية الرئيسية لهذا المقال، نسجل أن التحديات التي رفعها إيمانويل ماكرون في خطابه، لإعادة بناء مستقبل أوروبا، نجدها حاضرة وبقوة، وبدقة متناهية في كتاب عالم بلا معالم، في مضامينها وأبعادها. ويمكن تحديد ذلك في الجوانب التالية: - الكآبة الوجودية: يرى الدكتور حسن أوريد أن دول الاتحاد تعيش ما يسمى بالكآبة الوجودية، المتمثلة في أزمة الديمقراطية، التي باتت مهددة بفعل المشاركة الصورية دون تمثيل حقيقي. لأن القرار يبقى بيد تكنوقراطي بروكسيل. وهذه النقطة تعتبر إحدى النقط الرئيسية التي أطرت خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الشق المرتبط بالديمقراطية ودولة القانون.
- التقدم: يربطه كتاب عالم بلا معالم بالنقاش الأوروبي حول أولويات الاتحاد الأوروبي؛ وأيهما ينبغي أن يحكم الآخر؛ هل الخيار الاقتصادي أم الخيار الاجتماعي، لأن الاقتصاديون يعيبون المقاربة التكنوقراطية لبروكسيل و ما تفضي إليه من ديكتاتورية المال، مع المناداة بسياسة اجتماعية جديدة، تتوخى التوزيع العادل للثروات، وهي نقطة جوهرية سلط عليها الرئيس الفرنسي الضوء حين أكد على ضرورة التوفيق بين البناء الاقتصادي لأوروبا وتقديم الإمكانات لكل الشرائح الاجتماعية.
- القوة الموحدة : يقول الدكتور حسن أوريد أن مطلب جيش أوروبي موحد، تناط به مهام الدفاع عن المشترك الأوروبي، هو من الغايات التي تدافع عنها فرنسا، للتخلص من هيمنة الحلف الأطلسي، ولمواجهة الخطر الروسي. وهي غاية، ما زالت تؤطر مرافعات فرنسا الطامحة إلى وحدة عسكرية أوروبية، والتي بدونها لا يكون لقوة أوروبا أي معنى. وفي هذا الباب، يؤكد إيمانويل ماكرون أن أوروبا بحوزتها الأدوات والإمكانات لتحدد مستقبلها بنفسها دون الاعتماد على الآخرين.
لكن هل ما رفعه إيمانويل ماكرون من تحديات، جدير بثبات هذه السردية الجميلة التي بلسمت جراحات الحرب العالمية الثانية حسب تعبير الدكتور حسن أوريد؟ يبدو أن تطلعات إيمانويل ماكرون تندرج ضمن السيناريو الأول الذي أطر رؤية الدكتور حسن أوريد، أي ضمن “الروتوشات” التي لن تفيد في معالجة تصدع أوروبا، بقدر ما ستبقي الاتحاد الأوروبي في صيغته الحالية. لأن رؤيته الإصلاحية تفتقد إلى إعادة هيكلة الاتحاد الأوروبي بناء على نظرة عميقة لواقع الحال وللتحديات المطروحة. فإذا ما استثنينا النقطة المتعلقة بالجيش الأوروبي الموحد، فإن باقي إشكالات الوحدة الأوروبية الحقيقة لم يتم التطرق إليها؛ من قبيل مستقبل العملة الأوروبية الموحدة أو إغلاق باب الاشتراك و إمكانية الانسحاب والطرد و إشكالية العلمانية، والوحدة السياسية، ومحيط أوروبا في الجنوب من أجل نمو متكافئ بين الضفتين……وهذه، هي الجوانب المؤطرة لتصورات الدكتور حسن أوريد، فيما يخص رأب تصدعات الاتحاد الأوروبي. فهذا الأخير مطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى التحلي بالجرأة الكافية للحسم في جميع القضايا المعطلة حتى لا تتعثر الآلة.
دكتور في القانون العام وإطار بوزارة الداخلية
تعليقات الزوار ( 0 )