تعيدنا ما تتناقله مختلف القنوات التلفزية من مشاهد مروعة لما يعيشه الفلسطينيون في قطاع غزة من محرقة تودي بمئات القتلى وآلاف الجرحى والمعطوبين يوميا، مع ما يرافق ذلك من خراب رهيب يطال البنايات السكنية والمرافق العمومية، إلى قولة أحد الفلاسفة بأن التاريخ لما تتكرر وقائعه ويعيد نفس الأحداث فإن ذلك يتم على شكل مهزلة أو مأساة، وعلى ما يبدو فإن نصيب الشعب الفلسطيني منذ عام النكبة سنة 1948 هو سلسة مآسي لا نهاية لها.
سعت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 إلى إعادة قضية الشعب الفلسطيني إلى الواجهة، ورسم قواعد جديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتحديدا ما بين حركة حماس وإسرائيل، بعدما تميزت 16 سنة من حكم حماس لقطاع غزة بحالة من اللاسلم واللاحرب وبتهدئة شبه دائمة، رغم مواجهات عسكرية متقطعة مع إسرائيل امتدت أحيانا لفترة طويلة كما هو الشأن لحرب 51 يوما صيف 2014، أو مواجهات مايو 2021.
ما ميز عملية حماس ل 7 أكتوبر عن باقي عمليات المقاومة الفلسطينية منذ نهاية 1967، كونها تمكنت من إنجاز عملية ضخمة الحجم، وإلحاق ضربة معنوية كبيرة لإسرائيل وتكبيدها خسائر فادحة في الأرواح ربما فاقت حرب أكتوبر 1973، إضافة إلى أعداد كبيرة من الأسرى العسكريين والمدنيين (ما يناهز 1500 قتيل و6000جريح وأكثر من 200 أسير ورهينة)، وحققت عنصر المفاجأة (رغم وجود أجهزة استخبارات إسرائيلية متطورة ترصد وتتابع ما يجري في غزة وعموم الشرق الأوسط). كل هذا دفع الحكومة الإسرائيلية إلى الانتقام الأعمى لاسترجاع “هيبتها” عبر تقتيل المدنيين بالآلاف، والسعي لتوجيه ضربة عسكرية تقلص بشكل جذري من قدرات حماس.
لماذا “طوفان الأقصى”؟
تطرح عملية “طوفان القدس” أسئلة حول الغايات والأهداف التي كانت تروم “حماس” تحقيقها على المدى القريب: هل هو إطلاق سراح أزيد من 6 آلاف أسير فلسطيني منهم من يقبع وراء القضبان منذ ما يزيد عن20 أو 30 سنة؟ أم فك الحصار الذي يخنق غزة ويجعل منها سجنا مفتوحا لأزيد من مليوني فلسطيني؟ أم أن الغاية ” إقناع ” إسرائيل بأن منطق الغطرسة العسكرية وضم الأراضي لا يمكنهما توفير الأمن والسلام للمستوطنين ولعموم الإسرائيليين وبالتالي لا بد من تقديم تنازلات لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية؟
في انتظار توفر معطيات وأجوبة دقيقة بشأن تلك الأسئلة فإن مجموعة من العوامل غير المباشرة، والتي سنكتفي بالإشارة إليها، كان لها دور بالغ التأثير في قرار حماس بخوض حرب غير مسبوقة مع إسرائيل وهي تعلم، بحكم تجارب المواجهات السابقة، الثمن الفادح الذي سيدفعه المدنيون الفلسطينيون في غزة في ظل دعم أمريكي عسكري مطلق وتواطؤ غربي سافر، وعجز وانقسام عربي ملحوظ.
تحولات دولية وإقليمية
من المعلوم أن القضية الفلسطينية أضحت في آخر سلم الاهتمامات الدولية التي طغت عليها الحرب الروسية الأكرانية ومخلفات التنافس الأمريكي الصيني وأزمة الطاقة…الخ، مما فتح الباب على مصراعيه أمام إسرائيل لتسريع وتيرة الاستيطان وتهويد القدس وممارسة سياسة البطش ضد الشباب المقاوم الفلسطيني بحيث قُتل أزيد من 200 فلسطيني في الضفة الغربية وجُرح المئات منذ بداية سنة 2023فقط، كما وصل عدد المعتقلين إداريًا إلى أكثر من 1200 معتقل يقضي معظمهم فترات طويلة جدًا بدون أن توجه إليهم تهم رسمية أو عرضهم على المحكمة.
أما على الصعيد الرسمي العربي فقد قامت العديد من الدول في السنوات الأخيرة بإقامة علاقات ديبلوماسية وإبرام اتفاقيات متنوعة مع إسرائيل (البحرين، السودان، المغرب، الإمارات)، في نفس الاتجاه كانت المفاوضات السعودية الإسرائيلية، عبر الوسيط الأمريكي، تسير بخطى حثيثة، وكانت ستشكل ربحا سياسيا وديبلوماسيا إسرائيليا وأمريكيا باعتبار أن المملكة العربية السعودية تمثل قطبا رئيسا في العالم الإسلامي السني، علاوة على تدعيم المعسكر المناهض للنفوذ الإيراني في المنطقة.
خلافات استراتجية
1-ظلت غزة طيلة هاته السنوات من حكم حماس للقطاع تعيش ظروفا اقتصادية صعبة للغاية نتيجة تضافر مجموعة من العوامل أبرزها الحصار الشامل الذي فرضته إسرائيل على القطاع، وتوقف المساعدات الأمريكية لبرامج وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي كانت تتراوح بين 50 و60 مليون دولار سنويّاً، إضافة إلى خصم السلطة الفلسطينية منذ أبريل 2017 ل 50% من رواتب موظفي غزة، مما جعل القطاع يخسر سيولة نقدية تقدر بزهاء 20 مليون شهريّاً. مقابل ذلك، ظل سكان القطاع يعتمدون أساسا لتوفير معيشتهم على المساعدات الإنسانية وعلى 30 مليون دولار شهريا الممنوحة من قطر لأداء أجور الموظفين، علاوة على المداخيل المحدودة التي يوفرها 17 ألف عامل فلسطيني بالقطاع الذين يتوفرون على تصاريح للعمل داخل إسرائيل.
انعكس الانقسام الفلسطيني ما بين فتح وحماس منذ سيطرة الأخيرة على قطاع غزة في يونيو 2007 وفشل كل المحاولات والوساطات لتذويب الخلاف بينهما (اتفاق القاهرة 2006، ووثيقة الأسرى الفلسطينيين للوفاق الوطني 2006، واتفاق مكة 2007، والورقة المصرية 2009، واتفاق القاهرة 2011، واتفاق الدوحة 2012، واتفاق الشاطئ 2014، واتفاق القاهرة 2017) سلبا على المشروع الوطني الفلسطيني، فأصبح الفلسطينيون غير متفقين لا على خط المفاوضات ولا على نهج المقاومة المسلحة، أو على خط ثالث قد يجمع بينهما.
أدى هذا الواقع إلى تبادل الاتهامات بين الطرفين، وحملات المطاردة الأمنية والاعتقالات والإقصاء التي قامت بها السلطة بقيادة فتح خلال الفترة من 1994-2000، كرد على العمليات المسلحة التي كانت تقوم بها حماس وفصائل أخرى ضد إسرائيل، (كانت ترى فيها فتح تعطيلاً لمسار التسوية المؤدي إلى تحقيق دولة فلسطينية مستقلة)؛ مرورا بتعطيل ونزع الصلاحيات من المجلس التشريعي الذي فازت فيه حماس بأغلبية ساحقة خلال شهر يناير 2006 (76 مقعد لحماس مقابل 43 مقعد لفتح)، وانتهاء بالمواجهات العسكرية ما بين الفصيلين شهورا متواصلة، وتصفية وجود فتح في القطاع بالحديد والنار وانفراد حماس بالسلطة في القطاع سنة 2007.
2-يستمد الخلاف ما بين فتح وحماس جذوره إلى ما قبل اتفاقيات أوسلو (13 سبتمبر 1993) إذ سبق ذلك معارضة حماس وثيقة إعلان الاستقلال من طرف منظمة التحرير الفلسطينية في الدورة 19 لمجلسها الوطني المنعقد في الجزائر في 15 نوفمبر 1988 معتبرة إياه “طعنة قوية لإنجازات الانتفاضة”.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية تعمل جاهدة لتساير التغيرات الدولية والبحث عن حل مرحلي، بعد أن كان الموقف الأصلي يتمثل في إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة على كامل تراب فلسطين يتعايش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون. استندت منظمة التحرير في موقفها ذاك على القرار الأممي رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1947 الذي ينص على قيام دولتين في فلسطين واحدة عربية والثانية يهودية، كما رافق إعلان الاستقلال برنامج سياسي جديد يعترف بقراري مجلس الأمن 242 و338، مع اشتراط التوافق مع الحقوق الفلسطينية، والتفاوض من أجل حل قائم على قراري مجلس الأمن المذكورين اللذين ينصان على حدود عام 1967.
استندت حماس في رفضها لتلك الرؤية على برنامجها السياسي الذي وضعته سنة 1988 والذي نصت المادة الثانية من وثيقته التأسيسية على كون “حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين”، وبأن جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ديني باعتبار أن فلسطين ” أرض وقف إسلامي لا يجوز التفريط فيه وبكون الصراع الحالي مجرد امتداد للحملات الصليبية ضد المسلمين”. كما ورد في المادة الخامسة عشرة من الميثاق “الصراع هو بين المسلمين واليهود الذي يتطلب رفع راية الجهاد في سبيل الله”.
انطلاقا من ذلك تضمنت استراتيجيتها المتضمنة في المادة 13 من ميثاقها التأسيسي رفض أية تسوية أو اعتراف بإسرائيل مؤكدة أنه:” تتعارض المبادرات وما يسمى بالحلول السلمية والمؤتمرات الدولية لحل القضية الفلسطينية مع عقيدة حركة المقاومة الإسلامية، فالتفريط في أي جزء من فلسطين تفريط في جزء من الدين، فوطنية حركة المقاومة الإسلامية جزء من دينها، على ذلك تربى أفرادها، ولرفع راية الله فوق وطنهم يجاهدون”.
تجدر الإشارة إلى أن حماس فتحت الباب للتفاوض السياسي في وثيقتها السياسية الأخيرة الصادرة سنة 2017 حيث اعتبرت “إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم لكن دون الاعتراف بإسرائيل، حلا مقبولا وتوافقيا”. ويبقى السؤال كيف يمكن لحماس الوصول إلى تحقيق هذا الهدف دون الإقرار بقرارات الأمم المتحدة وفي ظل دعم أمريكي وغربي لا مشروط ولا محدود لإسرائيل؟ وهل يمثل ذلك القبول بحدود ما قبل الخامس من يونيو 1967 بداية التراجع عن موقفها الأصلي المنادي بفلسطين من البحر إلى النهر امتثالا وتكيفا مع الوقائع الجيو-سياسية كما كان الشأن بالنسبة لحركة فتح التي رفعت في بداية مسيرتها شعار الدولة الديمقراطية الواحدة التي تضم المسلمين واليهود والمسيحيين حيث لا مكان لخطابات من قبيل “إلقاء اليهود في البحر” أو “رمي العرب في الصحراء”.
أما النقطة الأخرى المثيرة للجدل فكانت تتعلق بالموقف من تمثيلية منظمة التحرير الفلسطينية: هل هي الممثل الشرعي والوحيد والإطار الوطني الذي يضم مختلف المنظمات والتعبيرات السياسية للشعب الفلسطيني؟
الجواب الذي قدمته حماس في المادة 27 من ميثاقها التأسيسي ينفي عنها صفة تمثيل الشعب الفلسطيني ويقتصر على صيغة ديبلوماسية:” منظمة التحرير الفلسطينية من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية، ففيها الأب أو الأخ أو القريب أو الصديق، وهل يجفو المسلم أباه أو أخاه أو قريبه أو صديقه. فوطننا واحد، ومصابنا واحد، وعدونا مشترك.”
تعليقات الزوار ( 0 )