قال خالد شيات، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول بوجدة ، إن المغرب إزاء أزمة كورونا سجل نجاحا في مجال التواصل السياسي، حيث “سجل تقاربا كبيرا بين السلطة والمجتمع، بل سجل أحيانا الانخراط المدني الواسع، أي خارج المجال المدني التقليدي التابع فعليا للسلطة”،
واعتبر شيات في حوار خاص مع جريدة بناصا الإلكترونية، أن الاتحاد الأوربي سيعرف تصدعا، غير أنه لن يعرف تفككا، مضيفا بأنه في زمن الأزمات تبرز دائما القدرة على الانبعاث والتكتل”.
وتوقع شيات أن ما سيقع ربما هو ظهور منظومات إقليمية أخرى في وسط اقتصادي أكثر مع نزعات هيمنية لقوى محلية.
كما تحدث الأستاذ شيات عن اشياء أخرى تكتشفونها في هذا الحوار..
فاجأ وباء كوفيد 19 العديد من الدول ولم تتوقع سرعة انتشاره، مما دفعها إلى اتخاذ قرارات كبيرة مثل إغلاق الحدود وإيقاف حركة الطيران، وكان المغرب من الدول التي سارعت إلى اتخاذ هذه القرارات، فكيف تقيم تدبير المغرب لعلاقاته الدولية في ظل أزمة انتشار وباء كوفيد 19؟
أود أن أشير بداية أنه كانت هناك استراتيجيتان كبيرتان ارتبطتا باتخاذ القرار المناسب في مقابل انتشار فيروس كورونا المستجد، وطبعا مع اختلاف السياسات الداخلية التي اعتمدتها كل دولة؛ فمن جهة برز اتجاه يفضل الحفاظ على التوازنات الاقتصادية على حساب المخاطر الصحية، ومن جهة ثانية، الاتجاه الذي أعطى الأولوية للسلامة الصحية على حساب التكاليف الاقتصادية.
والمغرب اعتمد السياسة الثانية، وتشدد في تطبيقها مقارنة مع وضع الحريات الطافح الذي كان يبدو عليه الأمر قبل الجائحة. وهنا لا بد من إبداء ملاحظات متعددة فيما يتعلق بهذا الاختيار.
فمن جهة أولى يمكن أن نسجل جوانب إيجابية على مستويات متعددة، منها قدرة المنتظم على التعبئة، وهو أمر كان مشكوكا في قوته أو زخمه مع التراخي العام على مستوى التدبير في المراحل السابقة، وهذا يعني أن مؤسسات الدولة لم تكن تحتاج أكثر من الإرادة لاستعادة المبادرة والتركيز على تنفيذ التوجهات التي تصب في خانة المصالح الاجتماعية، ليس فقط القدرة على التعبئة ولكن أيضا في ظل مقومات وإمكانيات محدودة، خاصة على المستوى الصحي.
وارتباطا بذلك يمكن الإشارة إلى المسألة الثانية المهمة في مجال التواصل السياسي، حيث سجل تقاربا كبيرا بين السلطة والمجتمع، بل سجل أحيانا الانخراط المدني الواسع، أي خارج المجال المدني التقليدي التابع فعليا للسلطة، لإنجاح السياسات والتوجهات التي تقترحها السلطة السياسية، وهذا له دلالات سياسية كثيرة قد لا نحيط بها كلها، لكنها بداية مصالحة جيدة إن استغلت السلطة السياسية هذا الأمر في القادم من الأيام، وهذا لا شك يقوم على الإحساس بالمسؤولية الجماعية من أطراف انخرطت بطريقة فطرية واستجابت بشكل أو بآخر لتوسيع المجال السلطوي للدولة ومؤسساتها، مما يعني أن منظومة توزيع المزايا سلطويا يجب أن تتغير لصالح الفئات الحية في المجتمع والتي بدون انخراطها لا يمكن الحديث عن إقلاع أو تنمية، وهو ما يسائل كل التجارب التنموية سواء على المستوى الاقتصادي العام أو تلك التي مست فئات أكثر عوزا في الماضي القريب، والتي يمكن أن تكون نبراسا للجنة النموذج التنموي، التي، في اعتقادي، يجب أن تتأنى في رفع الخلاصات إلى ما بعد التقييم السليم لما بعد الجائحة.
هل تتوقع أن يغير المغرب خريطة تحالفاته الدولية في ظل تنبؤ الكثير من المهتمين بتراجع القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، وتنامي تأثير الصين؟
في نظري، لا يجب، أولا، التبشير كثيرا بسقوط المنظومة الليبرالية بهذا الشكل الصارخ بعد مرور هذه الجائحة، يكفي أن أذكر أن المنظومة الليبرالية كانت أكثر المنظومات تكيفا مع التحولات الكبرى في تاريخ العلاقات الدولية المعاصر، ويجب التذكير أيضا بأنها بنت منظومة دولية، أي أن القوى الغربية أساسا ليست مجموعات من التجار الذين يطرون على الأسواق العالمية، بل إنها أكثر عمقا بكثير من مجرد أن تكون بهذا التبسيط. ثم ثانيا، لا يجب التهليل كثيرا لقوة الصين، على الأقل فيما يخص كونها قوة اقتصادية شيوعية ممسوخة اقتصاديا بشكل ليبرالي، وهذا يعني أن حياتها مرتبطة بالمنظومة الليبرالية، فهي طلقت سياسات القوة والتنافي وانخرطت في المجال الاقتصادي العالمي من البوابة الليبرالية، لذلك فالتساؤل هو ما هو قدر التحول الذي سيطرأ على العالم مع افتراض تربع الصين على عرش القوى العالمية، هل ستصدر النموذج السياسي أم الاقتصادي، أعتقد أن الصين تتجاوز باقي القوى الليبرالية في المستوى السياسي فقط، حيث ترهلت القوى الليبرالية وانكمش مفهوم الديمقراطية في البعد الشكلاني على حساب التوزيع العادل للمصالح، والذي آثرته مجموعات صغيرة تحكمت فيما بعد في كل المجالات الأخرى بما فيه السياسي، بمعنى كانت هناك أسئلة كثيرة حول مفهوم الانتخاب وآليته الاقتراعية ومفهوم التمثيلية وغيرها، وهي أسئلة قديمة على كل حال، لكن الصين التي اختارت نموذجا قهريا على المستوى السياسي تجاوزت كل هذه الأسئلة لأنها غير معنية بها، وكذلك الحال في روسيا بشكل أقل حيث تكون الانتخابات الشكلانية والصورية مجرد واجهة لاستمرار نموذج يستعيد مكانه الدولية.
من جانب آخر، يمكن القول أن الإقليمية الحالية يمكن أن تعرف بعض التصدع، وخاصة في مستوى الاتحاد الأوربي لكن لا أعتقد أنها ستتفكك، هناك دائما القدرة على الانبعاث والتكتل في ظل الأزمات. ما سيقع ربما هو منظومات إقليمية أخرى في وسط اقتصادي أكثر مع نزعات هيمنية لقوى محلية، في ظل غياب الريادة والقدرة على التدخل من طرف القوى الأوربية والأمريكية وتوجس الصين من الانغماس في التدخلات العسكرية لأن ذلك يقوض نظريتها القائمة على استغلال المجال السلمي العالمي.
المغرب جل شركائه من المنظومة الغربية الليبرالية، وهو وفي لهذا الاختيار بشكل مبدئي لكنه لم يكن قدره دائما، حيث أتاحت له منظومة شرق – غرب السابقة إمكانية اللعب على المحورين معا، وبالتالي كسب المزايا، أو الحفاظ على المصالح، لقد كانت فترة عصيبة بالنسبة للمغرب عندما تبنت الجزائر البوليساريو أواسط السبعينيات، لكن ألم تكن المنظومة مناسبة له أيضا رغم كل السلبيات، أعتقد أن المغرب ليس مضطرا ليغر بناءاته الاستراتيجية بشكل فجائي، فليس هناك ضمانات، فمنظومة ما بعد الحرب الباردة ستستمر بشكل مختلف لكنها ستستمر على الأقل في مستوى قانوني صرف بمعنى مفهوم الشرعية الدولية مثلا، لذلك على المستويات السياسية لا يمكن أن يكون الانتقال فجائيا إلا إذا كان انقلابيا، وهو أمر لم يحدث بعد.
على المستوى الاقتصادي، هناك تكلفة اقتصادية مستمرة مع استمرار الوضع على ما هو عليه، وبعد التعافي الصحي أيضا، لذلك يبدو أن كل ذلك سيؤثر على الاختيارات الاقتصادية والأولويات الاجتماعية والسياسية للمغرب فيما بعد، وهو أمر لا يمكن أن يؤخذ بشكل مستقل عن الشركاء التقليديين له في المجال الاقتصادي الذي يؤثر لا محالة على الجوانب الاجتماعية والسياسية الأخرى، وعموما الأكثر أهمية أن يتغير المغرب من الداخل اقتصاديا، وتتغير بنية الإنتاج وتتغير الأولويات والسياسات الاقتصادية العمومية، خاصة بعد الصدمة الأولى، لأن الكثير من الموارد ستتراجع سواء الضريبية أو السياحية أو التكاليف الاجتماعية المتزايدة في وضع يهم الأشخاص الأكثر هشاشة وغيرها من التحديات، وكلها لا يمكن أن تجابه إلا بحل واحد تعزيز جبهة الإنتاج داخليا لتوفير الحاجيات الملحة، وتوفير القدرة التنافسية على المستوى الدولي، وهناك توجيهات عامة في الأفق تهم طبيعة الاقتصاد القادم المعتمد أكثر على الرقمنة وعلى تجاوز الوساطات التقليدية، لذلك فهي فرصة المغرب ليس فقط للنجاة بل للريادة أيضا، لأني كما قلت سنكون في منظومات إقليمية في ظل ترهل القوى التقليدية اقتصاديا وقدرتها التدخلية العسكرية خاصة.
نظرا لأن هذا الوباء لا جنسية له، وينتشر اليوم في جميع الدول تقريبا، ولا يمكن مواجهته بفعالية دون وجود تعاون دولي وإقليمي، ألا ترى أنه يمثل أيضا فرصة لتقارب محتمل بين المغرب والجزائر للاتفاق مستقبلا على آليات للتعاون الإقليمي لمواجهة مثل هذه الأوبئة العابرة للحدود؟
نظريا ممكن بل واجب وهذه فرصة تاريخية للمصالحة مع الجزائر ومع ما احتضنته الجزائر لأكثر من أربعة عقود، أي البوليساريو، لكن انظر إلى ما تقوم به الجزائر عمليا؛ ليس هناك أي إرهاص على التراجع عن الاختيارات المعادية للمغرب، رغم أن أي عاقل يرى بأن هذه السياسة لا يمكن أن يكون لها أي أثر سوى إطالة الأزمة، وللأسف من ضمن التفاسير، وهذا كلام قلته مرارا، أن النظام السياسي الجزائري بصيغته العسكرية الحالية يرتكز من ضمن ما يرتكز عليه على بنية، ليس فقط سياسة، معاداة المغرب، بمعنى أنه أصبح هناك ارتباط بين بقائه وجوديا وبين عدائه للمغرب،
والأدهى من ذلك لم يبق من الآباء المؤسسين سوى تلامذتهم الأكثر وفاء لهذه الفكرة والأكثر تشنجا معها، لأنه كانت هناك فرص كثيرة لتجاوز هذا الوضع لكن الرغبة في إبقاء المزايا الاقتصادية الداخلية المرتبطة به تغلبت دائما على مجرد التفكير في تغيير التعامل مع المغرب، وطبعا رافق ذلك دعاية سياسية ذات وجهة اجتماعية لشيطنة المغرب والمغاربة. كل هذا لا يبشر بتحول مرتقب، لكنه ليس قدرا، سيكون على الجزائر أيضا أن تتحول في بنيتها الاقتصادية لصالح قوى أكثر وطنية ولصالح فئات أعرض على المستوى الاجتماعي، وهذا يعني أنه يمكن أن تكون هناك مجالات تنافسية بين المغرب والجزائر لأننا لا نتحدث عن الاقتصاد التقليدي القائم على البترول بالنسبة للجزائر، لكن يمكن أن تكون هناك منافذ للتواصل والتكامل بين البلدين، والمصالح هي التي يمكنها أن تحرك منظومة السياسات نحو التقارب، لكن ليس الأمر بهذه البساطة، لقد اختار النظام الجزائري لسنوات طولية تشبيك وتعقيد أي حل مرتبط بقضية الصحراء والزمن الذي من خلاله يمكن تجاوز ذلك لا يمكن تقديره مصلحيا فقط بل هناك جوانب سياسية واجتماعية وثقافية حائلة دون الحل النهائي. ورغم ذلك يمكن القول أن هناك اتجاها يرى أن الوضع الاقتصادي المتأزم يمكن أن يؤدي إلى موجة احتجاجات جديدة وهو ما يعني مدخل آخر من مداخل التغيير المرتقب، وهذا يحيل إلى أن الفوضى يمكن أن تكون مسارا لتغيير الفضاء المغاربي إذا لم يختر المسؤولون، خاصة في الجزائر، أخذ زمام الأمور واستباق التغيير قبل ذلك.
هل في نظرك ستؤثر نتائج هذا الوباء على الاستراتيجية المغربية في إفريقيا والتي استثمر فيها الكثير من الجهد والمال خلال العقدين الأخيرين؟
اختيارات كبرى كهذه سواء كانت مكلفة أو غيرها لا يمكن التراجع عنها مهما كانت تكاليف ذلك، والسؤال الذي يمكن أن يطرح هنا هو، أنه رغم أن أداء المغرب في المنطقة الفرنكفونية الإفريقية كان جيدا، وينتظر أن يحصد المزايا الاقتصادية المتبادلة مع الكثير من الدول كما حصد سابقا، هل ستبقى المنتظمات السياسية الحالية بنفس الطريقة التي كانت عليها سابقا، في إفريقيا اليوم هناك دول مرشحة، رغم أنها كانت في معاناة حقيقية سابقا أيضا، لتكون دولا فاشلة تستقر فيها الفوضى والتوترات والأزمات، وهذا يعني أنها ستكون فضاء غير مجد من الناحية الاستراتيجية اقتصاديا على الأقل، والحل يكمن في استباق ذلك وتقديم العون لها في مراحل يمكن أن تكون حساسة بالنسبة لبقائها أو انهيارها اقتصاديا، فالكل ينبه إلى خطورة الوضع في الدول الإفريقية مع الجائحة وتبعات ذلك سياسيا واجتماعيا وخاصة الوضع الإنساني وتراكم إشكالات الهجرة وغيرها. اليوم في إفريقيا يجب إيجاد بادرة إقليمية موحدة وإعطاء الفرصة لعمل التكتلات الإقليمية لمجابهة الوباء وإبراز القدرة والذكاء في ذلك، لكن الملاحظ هو تشرنق الدول على ذاتها وتقليص منسوب التعاون إلى أقصى درجاته، الذكاء يكمن في تحديد المجال التعاوني الذي يمكن أن يساهم فيه المغرب عمليا وقيادة.
كيف تتصور مستقل علاقات المغرب مع الاتحاد الأوروبي الذي يعيش تحديات كثيرة هذه الأيام، وقد يؤثر هذا الوباء كثيرا على قوته وبنياته حسب رأي الكثير من المتتبعين؟
كما قلت هناك تهديد حقيقي للاندماجات الاقتصادية، وهناك تنام متزايد لقيم الوطنية، لكن يجب التنبيه إلى أن كل هذا كان موجودا حتى قبل الجائحة، كانت أوربا، باستثناءات قليلة، تتجه أكثر نحو يمينية سياسية متعصبة تقدس الدولة وتنادي بقتل الاتحاد، وكما قلت أيضا هناك إمكانية أيضا لتصحيح المسار الأوربي من خلال الجائحة، حيث سيبرز أثر العمل الجماعي خاصة في المجال المرتبط بالمال، فالبدائل الوطنية كلها تقوم على الشعارات أكثر من قيامها على القدرة على ابناء منظومة اقتصادية قوية، وكثير من الخطاب الرسمي المعادي للاتحاد كان بهدف الضغط للحصول على مزايا مالية من قبل الحكومات الأوربية. لكل ذلك أرى أنه من الصعب أن يكون اختيار المغرب الآني التباعد مع شريك أساسي كالاتحاد الأوربي، وهو أمر ليس بيده لوحده على كل حال، لكن أملي أن يضع المغرب خطة جديدة لتنويع شراكاته الاقتصادية، وأن يقلل الاعتماد على قوى تقليدية كالاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، على أن لا يسقط في نفس الفخ مع الصين، لذلك فالمعادلة بسيطة؛ محاولة توزيع الجهد التشاركي بين القوى التقليدية، لغايات اقتصادية وسياسية أيضا، والإسراع بتجديد الروابط مع المنظومات اقليمية بحيث يكون محورا في بنية التنمية فيها.
تعليقات الزوار ( 0 )