أظن أن تجريد “أحكام الأسرة” من خصوصيتها التشريعية، كشف عن كثير من النقائص التي لابد من تداركها.
فإسناد النظر في هذا النوع من القوانين، ولو بشكل جزئي إلى البرلمان، فتح فقط الباب أمام كثير من الرياح التي لا يبدو أن المجتمع قد استعد لها أصلا.
خصوصية هذا القانون، هي التي جعلته يمر دائما عبر لجان “تقنية”، تحاول -ما أمكن- عبور كثير من حقول الألغام، بأقل الخسائر الممكنة.
لكن الأمور تطورت حاليا، بعد أن تم إخراج هذا القانون من نطاقه “المحفوظ” ليصبح متاحا للتداول من طرف الجميع، بل من طرف من هب ودب.
بطبيعة الحال، لا أحد يدعو للحجر على الآراء، أو منع مختلف وجهات النظر من التعبير عن نفسها، لكن منطق الأشياء يفرض احترام المعتقدات الدينية للغالبية الساحقة من المغاربة، وعدم تسويق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية على أنها قدر لا مفر منه.
فالمغاربة لمسلمون يؤمنون بأنهم سيُسألون يوم القيامة أمام ربهم، وليس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن، وسيحاسبون بناء على ما جاء في القرآن والسنة لا على ما تضمنته اتفاقية “سيداو”.
لن أخوض هنا في المسائل “الخلافية” المعتادة لأنه لابد من انتظار نشر مشروع النص النهائي حتى تتضح الصورة، لكنني أتوقف عند رؤوس الأقلام التالية:
– أحدثت مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان ضجة، لكنها لم تكن مفاجئة.
فهذا المجلس عكس ما يوحي به اسمه، لا يمثل جميع الحساسيات الموجودة في المجتمع، فأحرى أن يعكس موزاين القوة الفعلية، التي تميل لصالح المواطن المغربي المسلم البسيط عكس ما توحي به وسائل الإعلام التي تقدم فئة معزولة وهامشية على أنها الأكثر تمثيلية.
لا يحتاج الأمر أيضا للتوقف عند الأساليب غير الديموقراطية التي تم بها تدبير هذه المذكرة أو على الأصح تهريبها، وهذه إشارة واضحة إلى أن الأقلية، تريد أن تفرض رأيها بشتى الأساليب على الأغلبية.
– أوحت بعض الخرجات، خاصة التي وقف وراءها وزير العدل الحالي، بأن “الدولة” قامت بانعطافة كبيرة ومفاجئة، وأنها قررت “الانفتاح” اللامحدود، وتخلت عن طابعها “المحافظ” الذي يوفر لها جزء كبيرا من مشروعيتها التاريخية والوطنية، وشرعيتها الدينية.
ولهذا ربما تم إرسال وزيرة الأسرة إلى بلاطو القناة الثانية مؤخرا، من أجل “التوضيح”، والتأكيد على أن “العلاقات الرضائية” يعالجها القانون الجنائي وليس مدونة الأسرة، دون أن تنسى التذكير بالمرجعية الدينية، وبأنه لا اجتهاد مع النص.
– غابت النقط الاساسية عن النقاش بل تم تغييبها قصدا.
فنجاح أي قانون للأسرة، مرتبط بتحقيق هدفين: التشجيع على الزواج وتيسير سبله، من جهة، وضمان استقرار الأسرة من جهة أخرى.
فهل هذا ما يتم السعي له اليوم؟
الجواب هو بالنفي قطعا، لأن أهم ما يخلص له المتابعون من الضجيج المتواصل منذ سنوات، هو أن الهدف الرئيسي لكثير من “الأطراف”، يتمثل في وضع العراقيل في طريق الراغبين في بناء “عش الزوجية”، وتحويل الأسرة إلى “شركة” يتطاحن المساهمون فيها ليل نهار.
– شعار المساواة في الإرث الذي تحول إلى باطل يراد به باطل، ينم ليس فقط عن الأمية القانونية – والدينية من باب أولى- لمن يروجونه، بل يكشف عن أحد الأهداف غير المعلنة، المتمثلة في تشتيت الأسر.
لن نتساءل لماذا يقف هؤلاء عند “لا تقربوا الصلاة..” فيطالبون بحق المرأة في المساواة المطلقة في الإرث فقط، ولكنهم لا يقولون شيئا عن حقها في الصداق والحضانة؟ ولا هل سيلزمونها بأداء 50 في المائة من نفقات البيت والأسرة؟
– على فرض أن القانون -وحتى الدستور- نص على “المساواة في الإرث” بين الذكر والأنثى، هل سينتظر الآباء والأمهات إلى أن يموتوا ليؤول نصف ما جمعوه إلى نسيبهم “بوركابي” ليأكل غلتهم، ويسب ملتهم؟
المؤكد اليوم، حتى في ظل الوضع الحالي، أن كثير من الآباء والأمهات – وأؤكد على الأمهات- يبادرون إلى تسجيل أملاكهم أو بعضها في اسم الذكر، إما عبر بيع صوري أو عبر عقود التبرعات، لحرمان الأنثى من بعض أو كامل حقها..
فهل سيصدر “هؤلاء” قانونا يحجر على الناس التصرف في أملاكهم في حياتهم؟ وحتى لو تم ذلك، فإن سراديب القانون فيها دائما منافذ ونوافذ؟
– غضب “المجلس العلمي” الذي تطلب تدخلا سريعا لـ”رجال الإطفاء”، ينبغي النظر إليه من زاوية أغفلها كثيرون على ما يبدو.
فالمعروف أن “علماء الدولة”، كما يسميهم البعض، يعملون دائما على تدوير الزوايا، ويُغلبون “التي هي أحسن” على “التي هي أخشن”، ولا يردون ولا يعلقون، ويتحملون كل ما يكال لهم من اتهامات بالخنوع والخضوع وحتى التولي يوم الزحف.. فكيف نفسر موقفهم من مذكرة بوعياش؟
المؤكد أن هناك جهات أصبحت تنظر إلى “أبو حفص”، على أنه نموذج لعلماء المغرب “الجديد”، وهذا بسبب الأمية التاريخية التي يعاني منها هؤلاء… لأنهم لو قرأوا قليلا من تاريخ المغرب، لاكتشفوا ربما أنهم غرباء عنه.. وأن دور العلماء كان دائما له تأثيره.. وأنهم مهما تنازلوا، فإن هناك خطوطا حمراء لا يمكنهم تجاوزها..
*****
أختم بحكاية يعرفها الجميع..
عندما تم إلغاء مؤتمر منظمة العفو الدولية بالمغرب، في آخر لحظة، مع ما شكله ذلك من إحراج كبير للراحل عبد الرحمان اليوسفي، يروى أن الراحل الحسن الثاني قال له شيئا من قبيل : “إن أمنيستي ليست هي من سيدفع أجور الموظفين في آخر الشهر”..
وقياسا على ذلك نقول بأن “سيداو” لن تسقط المطر، ولن تحل معضلة الفقر المائي..
تعليقات الزوار ( 0 )