اعتبر زكي مبارك المؤرخ المغربي الراحل، أن التهميش والإقصاء الذي طال محمد بن عبد الكريم الخطابي من قبل القادة السياسيين، والأحزاب السياسية كان بسبب مواقفه التحررية ما قبل الاستقلال وبعده، بحيث كان الخطابي يفضح الوزراء والعلماء والسياسيين عن طريق الرسائل والخطابات.
وعن ندرة التأليف بالعربية حول الخطابي مقارنة مع حجم الكتابات التي صدرت حول الزعيم في البلدان الأجنبية، قال زكي مبارك في حوار مع هسبريس؛ بمناسبة مرور نصف قرن على وفاة الخطابي: إن الأرشيف المغربي حول الخطابي، وحرب الريف غير مفتوح للباحثين إلا ما دونته الصحافة.
وكشف المؤرخ المغربي في ذات الحوار الذي أجريناه معه في بيته أنه يتوفر على وثائق حول المقاومة، وجيش التحرير أمده بها المقاوم عبد الله الصنهاجي، لا تتوفر لدى المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير.
أغلب القراء يعتبرون أن الدكتور زكي مبارك من الريف؛ بسبب اهتمامك بالزعيم الخطابي، والواقع أنك من منطقة سوس، كيف حصل هذا الاهتمام بالزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي؟
هذا يرجع إلى اهتماماتي التاريخية، بحيث أنه في سنة 1969 لما أردت أن أسجل دكتوراه السلك الثالث في فرنسا اخترت دور المعارضة المغربية مع بداية الاستقلال، وهذا أدى بي إلى دراسة حركة المقاومة وجيش التحرير، وحينها التقيت بأحد رموز المقاومة، وجيش التحرير، وهو السي عبد الله الصنهاجي، فطرحت عليه الفكرة، فقال لي بأنه مستعد أن يساعدني، واشترط علي أن أكون جريئا، وأكتب الحقيقة، فقلت له بأن الجرأة على مسؤوليتي، أما الحقيقة لا يمكن أن تكون كاملة؛ إن لم تتوفر لدي الوثائق الضرورية، فوعدني بأنه سيمدني بالوثائق بعد عشرة أيام في أقل تقدير، وبعد خمسة عشر يوما جاء أحد الأشخاص فطرق باب بيتي، وأمدني بثلاث علب كارتونية مملوءة عن آخرها بالوثائق حول المقاومة، وجيش التحرير، وإلى يومنا أقول بأني الوحيد الذي أملك هذه الوثائق حول المقاومة، وجيش التحرير؛ منها ما هو مكتوب بالعربية، ومنها ما هو مكتوب بالفرنسية، منها ما هو مصور، ومنها ما هو أصلي..
الوحيد في المغرب الذي يملك هذه الوثائق؟
نعم أنا الوحيد في المغرب من يملك هذه الوثائق حول المقاومة، وجيش التحرير، بحيث أن المندوبية السامية لا تملك هذه الوثائق الموجودة عندي، فوعدت السي عبد الله الصنهاجي بأني سألتزم بالكتابة عن المقاومة، وجيش التحرير من خلال هذه الوثائق، كتابات عبد الله المساعدي، وعبد الله الصنهاجي، والشارجان الذهبي، والمونكوردو.. أي القيادات الكبيرة في المقاومة وجيش التحرير، وجدت الرسائل المتبادلة بين القيادات السياسية، وفي سنة 1973 قدمت الأطروحة بعنوان “الحركات المعارضة في المغرب المنبثقة عن المقاومة وجيش التحرير” وتزامنت أطروحتي مع انتفاضة سيدي بوعزة التي عرفها المغرب، وحينها كنت أناقش أطروحتي حول الموضوع فقال لي الأستاذ المشرف: Tu as fait un travaille sur commande، وما أريد أن أوضحه لكم أن المقاومة، وجيش التحرير تم إجهاضها، وبالتالي فالحركات التي نراها هي استمرار، ومعناه أن روح المقاومة لا يزال حيا في ذاكرة، وروح، ومشاعر مجموعة من المقاومين الذين تم تهميشهم وإقصاؤهم..
واللقاء مع الخطابي من حيث الدراسة والبحث والتأليف؟
علاقتي بالخطابي من حيث الدراسة والبحث بدأ من تساؤلي حول العوامل التي أدت إلى انطلاق جيش التحرير في الريف، فوجدت أن عبد الكريم كان وراء هذه العملية، فعندما أسس لجنة تحرير المغرب العربي في القاهرة عام 1948، أسسها على أساس حركة تحريرية مسلحة، ولهذا اضطررت أن أعود إلى عبد الكريم الخطابي في القاهرة؛ من حيث تصريحاته ومواقفه، فكان ضروريا أن أعود إلى الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي.
هذه الأيام تحل الذكرى الخمسين لرحيل الخطابي، ويبدو للمتابع أن الخطابي بدا الاهتمام به موقوفا على أهل الريف وحسب، والحقيقة أن الخطابي زعيم وطني وأممي، فما هي هذه الأسباب برأيك؟
اهتمام الريفيين بالخطابي كان دائما محصورا في أهل الريف؛ لأنهم عاشوا حرب التحرير، وبالتالي يشعر الريفيون بأن الخطابي تم تهميشه، ومحاصرة جهاده ونضاله لسبب بسيط، لأنه لما أسس لجنة تحرير المغرب العربي، ودعا جميع الأحزاب السياسية المغاربية إلى الانخراط في هذه اللجنة، ظهرت اختلافات بين الخطابي، وبين قادة الأحزاب السياسية المغاربية؛ بما فيهم بعض القادة، من أمثال: بورقيبة في تونس، وعلال الفاسي بالمغرب، فهذه الصراعات التي نشأت منذ تأسيس لجنة تحرير المغرب العربي هي التي أدت بهؤلاء القادة السياسيين إلى إقصائه وتهميشه، فضلا على أن مخطط الخطابي التحريري لم يكن يتوافق مع أهداف السياسيين..
ما الفرق بين مشروع الخطابي ومشروع السياسيين؟
الفرق أن الخطابي لما أسس لجنة المغرب العربي وهو في نيته التحرير بالسلاح، بينما قادة الأحزاب السياسية أغلبهم كانوا يرون أنه لا يمكن أن يواجهوا فرنسا الاستعمارية بجيوشها، وتجربتها الحربية بالطريقة التي واجه بها الخطابي حرب التحرير الريفية، لكن هو ظل متشبثا بالعمل المسلح كوسيلة وحيدة للتحرير، هنا كان اختلاف القادة السياسيين مع منهج الخطابي، وبالتالي حاولوا ما أمكن أن يهمشوه، ويقللوا من نفوذه…
بعد الثورة لعام 1952 بقيادة الضباط الأحرار؟
نعم، فالأمير الخطابي لم يكن يرى بعين الرضى التحول الذي وقع في مصر؛ ولاسيما عبد الناصر، فالمصريون لما طلبوا منه مشروع التحرير قدم لهم هذا المشروع، ولكن لم يوافقوا عليه، وشيئا فشيئا بقي عبد الكريم منعزلا، وحاول ما أمكن أن يؤسس جيش التحرير للمغرب العربي، ولذلك بالاستعانة بالعناصر المغربية، من أمثال: الهاشمي الطود، وحمادي العزيز، وحدو اقشيش، إلى غير ذلك، بالإضافة إلى بعض العناصر الجزائرية والتونسية، وانطلق جيش التحرير، ولكن لم يساير الخطابي هذا التطور؛ بحيث أن جيش التحرير انطلق في الجزائر في نونبر عام 1954، وانطلق في تونس كذلك، كما انطلق بالمغرب في 2 أكتوبر عام 1955، فروح الخطابي التحررية، واللجوء إلى السلاح؛ أي العمل المسلح هو الذي انتصر في الأخير…
كيف انتصر؟
لأنه لما انطلق جيش التحرير في المغرب، وانطلق جيش التحرير في تونس، وانطلق جيش التحرير في الجزائر، أصبح النضال والكفاح في يد هذه الحركات، بينما الأحزاب السياسية بقيت تتفاوض مع المستعمر، ويبحثون عن الأزمة..
ولكن خيار التفاوض هو الذي هيمن ونجح بالنهاية؟
لأن فرنسا لما رأت أن عمليات جيش التحرير اتخذ منحى الجهاد، فكرت الحكومة الفرنسية فكرت أنه من الأليق أن تتفاوض مع التونسيين، وتتفاوض مع المغاربة؛ لتبقى في مواجهة الثورة الجزائرية، ولكنه لما استقل المغرب، واستقلت تونس، كانت العلاقات بين البلدين، وبين الحركات التحررية على مستوى الجهاد والمقاومة لا تزال مستمرة، فالخوف من انتشار الفكر الجهادي لعبد الكريم الخطابي فرض على السلطات الفرنسية أن تدخل في مفاوضات مع الملك محمد الخامس، وأن تدخل في مفاوضات مع الأحزاب السياسية المغربية؛ من أجل إيجاد حل يرضي الطرفين، عبد الكريم الخطابي ندد بهذه المحاولات، ووصف الاستقلالات التي حصل عليها المغرب، وتونس بأنها استقلالات منقوصة ومشوهة، وبالتالي هذه المواقف التي اتخذها محمد بن عبد الكريم الخطابي هي التي جعلت القادة السياسيين، ومنهم من سيصبح رئيس دولة، مثل: الحبيب بورقيبة في تونس، وأحمد بن بلة في الجزائر، وبعض من هؤلاء سيصبح رئيسا للجيش الوطني. هؤلاء حاولوا ما أمكن أن يهمشوا تاريخ هذا الرجل، ويشوهوا صورته، وبقيت العلاقات هكذا إلى عام 1963 حيث توفي، ويجب أن نعرف أن الخطابي كان سباقا إلى انتقاد أول دستور بالمغرب لعام 1962، والمقترحات التي تقدم بها الخطابي بخصوص الدستور لم نصل إليها إلى حد الساعة..
هناك من كان يتهم الخطابي كونه انفصاليا، ويسعى إلى تأسيس جمهورية، هل هذا صحيح؟
أنا في نظري أن الخطابي لم يكن انفصاليا أبدا، الذين اشاعوا هذه الإشاعات كانوا يريدون تعميق الصراع والخلاف بين المؤسسة الملكية وبين الخطابي، فكانوا دائما يحذرون من الخطابي، وأعتقد أن الخطابي نفسه “ما كانش ساهل” كان ينتقد ويوجه رسائل إلى رئيس الحكومة البكاي، وإلى القادة السياسيين، ينبه إلى أنهم ليسوا على صواب، وبأن السياسة المتبعة ليست مفيدة بالنسبة للمغرب…
انتقاد الخطابي للدستور كان له صدى داخل المغرب، وخاصة في أوساط المعارضة، من قبيل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والفقهاء، خاصة مع استعمال الدين الاسلامي في الصراع السياسي، فعلال الفاسي كان يعتبر من ينتقد الدستور كافرا.. السؤال: هل أفكار الخطابي ومواقفه لا تزال صالحة إلى يومنا هذا؟
أفكار الخطابي بشكل عام هي أفكار مبدئية، أفكار الخطابي تدندن حول كرامة الإنسان، كرامة المغربي، الحرية في التعبير، والعدالة الاجتماعية، والمساواة .. فهذه أفكار عامة، ولكن هي دائما تبقى مطلبا قائما لدى الشعوب، عندما نلاحظ الشعارات التي رفعت فيما سمي بالربيع العربي، هذه الشعارات تركز على كرامة الإنسان، وحقوق الإنسان، والعدالة، والمساواة، ومحاربة الفساد والمحسوبية، سنجد عند عبد الكريم الخطابي في مراسلاته وكتاباته دائما هذه الأفكار التي يدافع عنها عن عقيدة وإيمان ..
ومن الصدف العجيبة أن الشباب الذي خرج يطالب بهذه الشعارات قاطع دستور 2011 كما فعل الخطابي الذي قاطع دستور 1962 .. هل معنى هذا أن الشباب مطلع على كتابات الخطابي؟
أنا لا أعتقد شخصيا أن الشباب اليوم تأثروا بأفكار الخطابي ودرسوها، لكن أفكار الخطابي هي أفكار إنسانية بصفة عامة، فعندما نقارن هذه الشعارات مع المبادئ التي نادى بها الخطابي فيما يخص الدستور، والعدالة الاجتماعية، وانتهاك حقوق الناس، وتصفيات بعض المعارضين، والرسائل التي تبادلها مع بعض الزعماء، ولا سيما مع الحسن الوزاني؛ نجد بأن الخطابي له فكر شمولي، ناهيك على أن المبادئ التي آمن بها ،وظل متشبثا بها تتلخص في كرامة الإنسان..
تغييب الخطابي في مناهج التعليم، وفي الإعلام الرسمي، يُفهم أن الخطابي لا يزال مهمشا إلى حدود الآن؟
هذا يرجع الى أن الخطابي كان ضد الجميع، أنا أتحدث مثلا عن المغرب، كان ضد مباحثات إيكس ليبان، كان ضد استقلال المغرب الذي اعتبره استقلالا منقوصا ومشوها ومبتورا، جاء الدستور فوقف ضد الدستور، فهذه المواقف هي التي جعلت الحكام المغاربة، وبعض الأحزاب السياسية كذلك تحاربه…
بمعنى أن الخطابي كان يفضحهم؟
كان يفضحهم تماما، وأكثر من هذا كان يوجه رسائل إلى الزعامات السياسية المغربية؛ بما فيهم الوزراء، وجه رسالة إلى رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم، وإلى الشيخ بلعربي العلوي، وجه رسالة إلى بنسودة، وجه رسالة إلى بنبركة، وبوعبيد، فهذه الرسائل ظلت مغيبة ولم نطلع عليها إلا في السنوات الأخيرة..
الملاحظ دكتور أن الكتابات حول الأمير الخطابي بالمغرب والعالم العربي لا تتجاوز خمسين كتابا على أكثر تقدير، بينما في الغرب صدر إلى حدود الآن ما يربو عن ألفين (2000) كتابا باللغات الأجنبية، ماذا يعني بالنسبة لك ضعف التأليف لدى المغاربة والعرب حول شخصية الزعيم الخطابي؟
أنا أظن ..( يتأمل في طريقة طرح السؤال)
سؤالي بشكل مباشر، لماذا يتفوق الغرب علينا في التأليف حول الخطابي؟
يتفوق الغرب علينا لأنه يتوفر على الأرشيف الفرنسي، وأنا اشتغلت على الأرشيف الهولندي، والمكتبات مملوءة بما يتعلق بالحرب الريفية، وبعبد الكريم الخطابي، فالعسكريون الذين شاركوا في حرب الريف، وأغلبهم من الجنرالات كلهم كتبوا ،وألفوا كتبا كثيرة، السوسيولوجيون، والأنثربولوجيا كلهم اهتموا بالريف، واهتموا بالحرب الريفية، ثم الإمكانيات بالنسبة للباحثين الأجانب متوفرة، بينما نحن هنا إلى حد الساعة الأرشيف المغربي لهذه المرحلة غير مفتوح..
غير مفتوح؟ لماذا؟
باقي محلوهش.. اش غادي تقول.. كما أن المرحلة منذ الاستقلال إلى الآن ليس هناك أرشيف في مكان معين بالمغرب، مثلا أحداث الريف ما بين 1958و1959 لا يوجد حولها أرشيف؛ باستثناء ما كتبته الصحافة في ذاك الوقت، فالأرشيف الوطني الرسمي لا يوجد في هذا الموضوع.
قلت بأن شباب اليوم لم يدرسوا تاريخ الزعيم الخطابي، ولكن كيف تفسر أن الشباب في عمر 18 سنة يرفع صور ويافطات الأمير الخطابي؟
يرفعون صور الخطابي وكيفارا، لأن هناك من الشباب من يقرأ، ومنهم من يسمع، فعندما يقولون بأن الخطابي كانت له مواقف صارمة فيما يخص استقلال المغرب، وقاد حرب التحرير ضد الاستعمار… بطبيعة الحال يتعاطفون مع هذا البطل، ولا سيما حينما يقرؤون ما كتبه الأجانب، أما بالنسبة للمغرب فأول كتاب تعرض للخطابي هو كتاب “الحركات الاستقلالية” لعلال الفاسي، بعذ ذلك كتاب محمد بن الحسن الوزاني الذي خصص له عددا خاصا، وكتاب محمد العلمي “زعيم الريف”، والقاضي العياشي في كتابه “أسد الريف” هذه هي الكتب الأولى، ولكن فيما بعد لم تصدر الكتابات حول عبد الكريم الخطابي، الكتب التي ألفت حول الخطابي لم تتجاوز عشرة كتب..
هذه السنة [ 2013 ] سيكون قد مر نصف قرن على وفاة الزعيم الخطابي، ماذا تبقى من هذا الزعيم؟
تبقى من هذا الزعيم ما تبقى من كل الزعماء والأبطال، تبقى من الخطابي أفكاره وتراثه ومواقفه.
الخطابي شئنا أم أبينا يعد من رجالات القرن العشرين بنضاله وجهاده بمواقفه، لماذا؟ لأن رؤاه المستقبلية بالنسبة للمغرب، والتي عبر عنها قبل الاستقلال، وبعده شاءت الأقدار أن نلاحظ أن هذه الرؤى هي ما تطالب به الشعوب المغاربية في الظرف الحالي، وما ترفعه من شعارات لا تبتعد كثيرا عن المواقف التي عبر عنها الخطابي.
تعليقات الزوار ( 0 )