الاثنين 19 غشت 2024
إلى السادة العلماء أعضاء المجلس العلمي الأعلى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وبعد، فإني أحمد الله تعالى إليكم الذي شرفكم برسالة العلم، وأناط بكم مسؤولية البيان والإرشاد. هذه رسالة مختصرة قاصدة، أوحت بفكرتها وحفزت على النسج على منوالها الرسالة المفتوحة التي بعث بها إليكم مشكورا فضيلة الدكتور عبد الله الجباري [رسالة مفتوحة إلى المجلس العلمي الأعلى /https://banassa.info السبت السبت 17 أغسطس 2024].
فقد راسل مجلسكم الموقر -ونعم ما خطت يمينه- حول مسألتين أساسيتين كان من المفترض أن يكون للسادة العلماء فيهما بيان واضح وموقف مشرف، تتعلقان معا بوجوب نصرة المظلوم والسعي في رفع الظلم عنه (مما هو معلوم من الدين بالضرورة)، الأولى قضية المطالبة بإطلاق سراح معتقلي الرأي والمسجونين ظلما، والثانية مسألة نصرة أهلنا في غزة الذين يتعرضون منذ عشرة أشهر للإبادة الجماعية ولألوان الاضطهاد والتجويع والتنكيل؛ غير أن المجلس العلمي الأعلى تخلف عن الموعد مع التاريخ، وتنكب طريق الشرف والذكر الحسن، حين سكت في وقت الحاجة التي لا ينبغي أن يتخلف عنها البيان.
وأود أن أزيد أمرا ثالثا هو صلب هذه الرسالة التي أعطف بها على قول من كان له فضل السبق لمراسلتكم، إنه أمر جلل وخطب داهم، إنه مسألة “التطبيع”، وما تلاها من الاتفاقيات التي ما فتئ المغرب يعقدها مع الكيان الصهيوني. صحيح أن هذا الأمر ليس جديدا، وليست المرة الأولى التي سيثار فيها هذا الملف الحارق، ويعلم الله أني منذ توقيع اتفاقية العار في دجنبر 2020، لم أترك سانحة مما يقع تحت يدي إلا أعربت عن الموقف الصريح الذي لا يخالطه شك في وجوب إنكار التطبيع ومطالبة المسؤولين بإلغائه نهائيا، بل وتجريمه، سواء في تدويناتي الخاصة أو في بيانات الهيئات التي أشاركها هموم العمل الميداني؛ غير أني لم ألتفت سابقا إلى مراسلة المجلس العلمي الأعلى في هذا الشأن العظيم، لما نعلمه من واقع الحال، ولما عودنا المجلس من طبيعة أنشطته وبرامج أعماله، حتى أصبحنا مقتنعين أنه لم يجعل لعظائم الأمور وشدائدها التي تدهم الشعب المغربي والأمة الإسلامية، متمثلين قول الشاعر: [دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها — واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي]؛ ومن ثم فلا حاجة إلى توجيه الخطاب أصلا إلى مجلس أخلد إلى الأرض، ورفع عن نفسه القلم مختارا ورفع معه السيف والقرطاس.
والحقيقة التي أدين بها لصاحب الرسالة الدكتور الجباري، أنه نبهني إلى مسألة لم أكن ألقي لها بالا، وهي أن مسؤولية المجلس العلمي الأعلى فوق كونها مسؤولية دينية أخلاقية تتعلق بالميثاق الذي أخذه الله على العلماء أن يبينوا الحق ولا يكتمونه، وأن يقيموا الحجة الشرعية ويرشدوا الناس إلى الهدى، وينهونهم عن مسالك الضلالة ولا يخافون في الله لومة لائم… هي فوق ذلك ومعه مسؤولية سياسية مؤسسية بما أن المجلس العلمي هيئة دستورية، وبما أن العلماء المنضوين في سلكه يتقاضون تعويضاتهم من المال العام، فلا أقل من أن نتوجه إليهم بالمساءلة من هذا الباب، فقد جنوا المغانم من أموال دافعي الضرائب، فلا أقل من أن يبدوا شيئا من الاستعداد لتحمل المسؤولية، فإن الغنم بالغرم، والمسؤولية تستوجب المحاسبة. ونحن نعيذهم أن يصدق فيهم قول الشاعر الأندلسي يهجو فقهاء زمانه:
أهل الرياء لبستم ناموسكـــم | كالذئب أدلج في الظلام العاتم |
فملكتم الدنيا بمذهب مـــــالك | وقسمتم الأموال بابن القاســــم |
فبالاعتبارين معا – دينيا من باب المناصحة وإبراء الذمة، وقانونيا بصفتكم منتدبين عن الشعب للانتهاض بوظيفة علمية وسياسية لا يؤديها غيركم- أراسلكم أيها السادة العلماء، وأنتم طليعة المجتمع وصفوته، وكل الناس تشرئب بأعناقها إلى مواقفكم وفتاواكم “والرائد لا يكذب أهله”، أسئلكم بالله الذي ستقفون بين يده وهو سائلكم عما قدمتم: هل تجدون فيما تتلون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أثارة من علم تبيح للدولة المغربية أن تعقد اتفاقيات التطبيع مع العدو الإسرائيلي؟ أليست تلك الاتفاقية والحال على ما ترون وتسمعون، من الحرام القطعي والمحظور الشرعي الذي لا ريب فيه؟
لقد كان التطبيع مع العدو الصهيوني مرفوضا ومدانا شرعا حتى في حال الاستقرار النسبي الذي كان سائدا في فلسطين، ما دام المسجد الأقصى تحت الاحتلال، والشعب الفلسطيني المسلم محاصرا ومضطهدا؛ أما وأن العدو قد أوغل في دماء المسلمين، وارتكب المجازر الوحشية والإبادة الجماعية، ولجأ إلى تنفيذ حروب القرون الوسطى من التجويع والتعطيش وتقتيل البشر والحيوانات واجتثاث الشجر وتخريب البيئة… فقد أجمع العقلاء من كل الملل والنحل على إدانته واستنكار جرائمه، والدعوة إلى مقاطعته وحصاره بالمقاطعة السياسية والاقتصادية. فأينكم يا علماء المغرب؟ وما هذا الصمت القبوري والتجاهل الغريب الذي التزمه المجلس العلمي الأعلى؟
ألا ترون أيها السادة علماء المجلس العلمي أن من أوجب واجباتكم أن تصدحوا بالحق، وأن تعلنوا البيان الصريح الفصيح الذي لا مواربة فيه، لمسؤولي الدولة بكل مراتبهم وصفاتهم، أن التطبيع مع العدو الصهيوني فعل شنيع وإعتداء قبيح على شرع رب العالمين، واقتحام لباب الحرام القطعي المؤكد.
ولستم أيها السادة العلماء الألباء بحاجة إلى حشد الأدلة التاريخية والواقعية على فساد التطبيع وخطورته، لا تكلفوا أنفسكم دراسة الأمر من ناحية المصالح والمفاسد السياسية والاقتصادية، ولا الاستشهاد بأحوال الدول العربية التي سبقت إلى التطبيع وماذا استفادت، ولا بانعكاسات التطبيع على الاستقرار الداخلي للوطن، أو تأثيره على العلاقات بالمحيط الإقليمي والدولي… لستم بحاجة لكل تلك الدراسة وذلك التكييف، فله أصحابه المتخصصون فيه. يكفيكم شواهد الشرع الكاشفة وآياته البينات التي يستوي في إدراكها المسلمون بفطرتهم، ولكنكم -مع كونها من المعلوم من الدين بالضرورة – مكلفون بتبليغها والتذكير بها وإقامة الحجة على من يعنيهم الأمر، ولا تبرأ ذممكم إلا بذلك.
أينكم أيها العلماء العقلاء من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] أو قوله عز وجل في السورة نفسها: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة: 9]. وها هو العدو الإسرئيلي قد قتل المسلمين وأخرجهم من ديارهم وهدم المساجد، ثم يجد من بلدنا كل المودة والترحاب، سفرا وتجولا واستثمارا، والفلسطيني المسلم ممنوع من كل ذلك. أليس في ذلك ذهاب الدين من أصله؟ أليس ذلك هو النفاق الصريح، وهو الخيانة لله ورسوله والمومنين، وخذلان المؤمنين واتباع غير سبيلهم؟
هل يروق لكم أيها العلماء الأجلاء أن تحولوا المجلس العلمي إلى مؤسسة علمانية تتخذ القرآن عضين، إذ كيف يستقيم لكم أن تفتوا في عقد مرابحة أو إجارة بين بنك وعميل في صفقة مالية محدودة محصورة، وتسكتوا عن عقد التطبيع بين الدولة والكيان الإسرائيلي في صفقة حالقة للدين ماحقة للبركة؟ كيف لا تكون عشرات الآيات الصريحة في النهي عن موالاة الأعداء جزءا من عملكم ومن صميم بلاغكم وبيانكم؟ فها هي أسرد بعضها عليكم، ربما قد نسيتم أن العهد قد أخذ عليكم بالبيان والتبليغ بكل ما في القرآن وليس ببعضه مما تختارون أو يختار لكم:
{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود: 113]
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعا} [النساء 138-139]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:144-145]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دائرة فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51-52] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]
{ترى كثيرًا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه اتخذوهم أولياء ولكن كثيرًا منهم فاسقون لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 81-82]
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]
أليس التطبيع مع العدو الصهيوني خذلان عظيم لأهلنا المستضعفين في فلسطين، فما أنتم قائلون في قول النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلِمُه” أو “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقِره” (متفق عليه)، وقوله عليه الصلاة والسلام: “المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم” (مسند أحمد، سنن أبي داود). وإذا كان أهل غزة قد ذادوا عن شرف الأمة وجاهدوا في سبيل عزها بالنفس والمال وكل ما يملكون بما يستطيعون وفوق ما يستطيع بشر، أفلا تشاركونهم بجهاد الكلمة وبيان الحق؟
أخيرا أيها السادة العلماء، إن كانت هذه البينات الشرعية القطعية، وإن كانت تلك المجازر الصهيونية التي يشيب لها الولدان، لم تحرك ضمائركم وهممكم للصدع بالحق وإنكار التطبيع المخزي، وإقامة الحجة على كل المعنيين به والمتلبسين بظلمه، فلا أقل من أن تتورعوا عن الاسترزاق بشأن الدين وأنتم لا تأدون حقه، اعتزلوا هذا الأمر هو أسلم لكم، فإنه ليس مبذولا إلا لمن أخذ الكتاب بقوة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعليقات الزوار ( 0 )