حين كنت تلميذا وبعد ذلك طالبا بفاس خلال تسعينيات هذا القرن كنت في عطل الصيف أتنقل لمدن الشمال أجلب منها السلع الرخيصة و أتعاطى للتجارة بالأسواق الأسبوعية ،بالقرى والمداشر، وكثيرا ما عبرت واد ورغة على متن القارب في فجر وصباحات ذلك الزمن الرومانسي الجميل حيث الطبيعة تبدو بكرا كفاتنة لا كدرا يشوب صفاءها،و منذ ذلك الوقت كنت انفق ما يتحصل لدي من كسب وربح في شراء الكتب،من الطالعة الصغيرة حيث كانت توجد مكتبة الحاج القادري رحمه الله صاحب القامة الطويلة واللحية البيضاء والجلباب الفاسي الأنيق الذي يمنحه هيبة ووقارا ،وكذلك المكتبة الحجرية للقادري الصغير ومكتبة الباحث للهواري أبو دانيال قرب سينما الريكس ، ومكتبة حسن الحلوي بالليدو ، ومكتبة ابن عطية بباب السمارين بفاس الجديد ، وغيرها من المكتبات بالرباط كمكتبة الألفية ودار الأمان وبالدار البيضاء بالحبس كمكتبة مركز الثرات العربي لصاحبها السي عبد الهادي والمركز الثقافي العربي لصاحبها سابقاجاسم و بسام حاليا ، وبطنجة ومراكش وقد جمعتني مع اصحابها ومستخدميها علاقات انسانية عالية لا زالت مستمرة ، ولا أنسى سوق الكتب القديمة بجامع القرويين المنعقدة كل يوم أحد حيث كان يتم جلب الكتب على ظهر البهائم في الأزقة والدروب الضيقة في مشاهد من القرون الوسطى ، وكثيرا ما باع الورثة الجاهلون تركة علماء أجلاء من مورثيهم كتبا نادرة ومخطوطات بأبخس الأثمان وهم لا يعرفون قدرها وقيمتها يتهافت عليها الكتبيون من أهل الصنعة ويشترونها جملة ، وكنت وأنا صغير أراقب السوق متحسرا على كنوز وجواهر حزينا على عدم قدرتي مجاراة المشترين ، والدلالة يصيحون بأعلى أصواتهم بعناوين كتب لا زالت تتردد على مسامعي لحد الآن واحتفظ من ذلك المكان الذي تفوح منه رائحة التاريخ وعبق الذكريات وحكايات وحياوات الماضين وفرحهم وحزنهم ولا زلت أحتفظ منه بكتاب ألف ليلة وليلة الذي قرأتها مختبئا بالسنة الأولى إعدادي وطرت في عوالمها ودسائس شخوصها ومكر أبطالها وسافرت في البحار مع سندبادها البحري وحيواناتها ،وكنت أقطع أزقة المدينة القديمة جيئة وذهابا لا أمل ولا أكل ، وبرفقتي أمي الروحية يامنة مربيتي رحمها الله أتذكرها الآن وهي تحمل معي كتاب نيل الأوطار للشوكاني من مكتبة الفتح بالبطحاء لصاحبها السي الغربي رحمه الله ، كنت أدخل اليها أقرأ وأتصفح ولا أخرج منها الا والليل قد أرخى سدوله ،في وقت متأخر ، وفيها تعرفت على سيد قطب وظلاله ومحمد قطب والقرضاوي وكتب فتحي يكن ومنير شفيق ومحمد الغزالي ومأمون الهضيبي وكتابه دعاة لا قضاة وحسن البنا .ورسائله.
وخلال سفري المعرفي الذي امتد لسنوات طويلة صاحبني أخلاء أحباء كان لبعضهم تأثير بالغ لا زال راسخا في النفس والعقل ، ولا زالوا يسكنون مني الروح والبدنا ، وإن فرقت بيننا السبل واختلفت الطرق وتباعدت بيننا الأمكنة.
كان بالثانوية التي درست بها مكتبة ثرية جدا و كنت وأنا تلميد أغيب عن حصص الدرس بالساعات وأذهب الى مكتبة الثانوية ، أتجول بين رفوفها وردهاتها ، أذكر يوما أنني قرأت قصة للمنفلوطي في سبيل التاج في انحناءة واحدة لم أرفع فيها رأسي حتى بلغت أخر صفحة ، واتذكر أنني تعرفت على قصة الحضارة لول ديورانت هناك وكذلك خطط المقريزي ورسالة الغفران وديوان سقط الزند واللوزوميات للمعري وديوان الحماسة لابي تمام ، وتصفحت هناك فجر الاسلام وضحاه وعصره لأحمد أمين وعبقريات العقاد وكتابه الماتع ساعات بين الكتب وسيرة طه حسين الرائعة الأيام بأجزائها الثلاثة واحاديث الأربعاء وفي ذكرى أبي العلاء وفي الشعر الجاهلي الذي أثار ضجة ولم يقعدها ، وهناك في فصول الشتاء قرأت واستعرت قصص وروايات جرجي زيدان العباسة اخت الرشيد والحجاج بن يوسف الثقفي ونكبة البرامكة وغيرها ،من القصص التاريخية ، لقد كان حارس المكتبة رجلا طيبا مكنني من بطاقة الانتماء للمكتبة بيسر وسهولة ومنذ ذلك الحين وأنا أهيم على وجهي بين المكتبات العمومية والخاصة كمكتبة البطحاء ومكتبة ابن سودة بحثا عن عنوان كتاب سحرني وآخر أسرني ومن كتاب الى كتاب سقطت في المصيدة فطوحت غربا وشرقا أخرج من حديقة غناء الى جنة فيحاء ، كالنحلة أقفز من زهر ة الى وردة ، فقرأت اساطير البابليين كتيلما وجلجامش وأساطير اليونان في الاليادة والانيادة والالهة زيوس وفينوس وجوبتير ، وواكبت انتقال الفكر الإنساني من التفكير بالميثوس الى التفكير باللوغوس وظهور المدارس الفلسفية العقلية المتجاورة الخرافة والأساطير و التي أرجعت أصل الوجود والأشياء للعناصر المادية كالهواء والتراب والماء والنار وظهور الفلاسفة الايونيين ومن بعدهم فيثاغورس وبارمنيديس والرواقيون والأبيقوريون فلاسفة اللذة والسفسطائيون وأكبرت شجاعة سقراط وهو يتجرع كأس السم وحوله ثلاميذه ومن بعده أفلاطون وكتاب الجمهورية وهي عبارة عن حوارات فلسفية واندهشت للمعلم الأول أرسطو ومنطقه وفلسفته التي أثرت في العالم الى حدود القرون الوسطى ، ومررت على كتب أهل الكلام من الفرق من خوارج ومعتزلة وأشاعرة وأهم ما قرأت في ذلك كتاب الملل والنحل للشهرستاني وكتاب الملل لابن حزم وفجر الاسلام ومذاهب الاسلاميين لعبد الرحمان بدوي وأتبعتها بكل كتب الفلسفة الإسلامية بداية من كتاب الاشارات والتبيهات لابن سينا والشفاء وكتاب تهافت التهافت لابن رشد وتهافت الفلاسفة وكتاب الطب الروحاني لاپي بكر الرازي الملحد وكتب الفارابي وابن باجة وسافرت الى فلاسفة الفرس وشعرائهم من صدر الدين الشيرازي والتبريزي وصاحبت أهل الله من المتصوفة وكانت الرسالة القشيرية بداية الطريق والمحاسبي والغزالي في إحيائه وكتب الطبقات وديوان المثنوي لجلال الدين الرومي وكان ختامها مسك مع الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي وفتوحاته وفصوصه ورسائله وشراحه من تلامدته كابن سودكين والقونوي والقيصري ومحققيه كعثمان يحيى وأبو العلا عفيفي وابراهيم مذكور وسعاد الحكيم و كتابها المعجم الصوفي والجنيد تاج العارفين.
ثم جرني التحقيق الى الاهتمام بكتب الرجال وأهل الحديث فاشتريت كل الكتب الصحاح وشروحانها ،من موطآ مالك بجميع رواياته والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والنسائي وابن حجر العسقلاني والذهبي وسير نبلائه وكتابه الموسوعي تاريخ الإسلام وكذلك المزي وكتابه الكمال في أسماء الرجال والضعفاء للعقيلي والكامل في الضعفاء لابن عدي والثقات والمجروحين لابن حبان ومن بعد ذلك كتب الفقه الحنبلي مع ابي يعلى وأبي بكر الخلال والحنفي والشافعي والمالكي مع الشيخ خليل وسحنون والجعفري الشيعي والكافي للكليني وبحار الانوار للمجلسي وكتب الأصول كجمع الجوامع لتاج الدين سبكي والبيضاوي والرازي ومن وراء ذلك اهتممت بكتب التاريخ والحوليات الكبرى كتاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير ومروج الذهب للمسعودي وشذرات الذهب لابن العماد ومرءاة الزمان ، وتاريخ حلب والمنتظم وغيرها من التواريخ ثم كانت الفلسفة الأوروبية الحديثة نهاية المشوار بداية من ديكارت وتأملاته وشكه المنهجي وكوجيطوه ، ومرورا بكانط وكتابه نقد العقل المحض او الخالص وهيجل وكتابه الأساس فينومينولوجيا الروح وشوبنهاور وكتابه العالم كإرادة وتمثل ونتشته وكتابه هكذا تكلم زرادشت وأقول الأوثان والخير والشر وإرادة القوة وماركس وكتابه الرأسمال وداروين وكتابه اصل الانواع وفرويد ومحاضراته في التحليل النفسي وانجلز وفيورباخ وكتابه جوهر المسحية وغاستون باشلار في كتابه الماء والاحلام وشلايماخر وكتابه حول الدين خطابات الى محتقريه من المثقفين وبرغسون ولايبنتز وهايدحر وجون بول سارتر وكتابه الكائن والعدم وألبير كامي وطاعونه وفوكو وبنيويته في كتابه الكلمات والأشياء وميلاد السجن وتاريخ الجنون ، والتوسر وغرامشي في العقل والثورة والمؤرخ أرنولد تو ينبي وروزنتال ، وشعراء مثل رميو وبودلير وهوليلدرين وجوته ومفكرين رواد كفولتير وروسو وكتابه الجميل إميل أو الاعترافات وكتابه العقد الاجتماعي ومونتيسكيو في روح القوانين وروائين مثل بلزاك وهيجو ولامارتين وارنست هومنجواي وماركيز ونجيب محفوظ وتلاثياته وعبد الرحمان ومدن ملحه ويوسف فاضل ومبارك ربيع وأهل بياضه وجمال الغيطاني في الزيني بركات وبنسالم وحميس في مجنون الحكم كارلوس رويث زافون الروائي الإسباني المتوفى في 19يونيو 2020 والذي اشتهر برائعته الروائية “مقبرة الكتب المنسية”، والتي تتألف من أربع روايات تُشكّل تيمة أدبية أساسية، ترتبط ببعضها عبر الشخصيات والمواضيع المتعددة، إلا أن كل رواية منها مستقلة عن الأخرى ومنفردة بذاتها وهي من أمتع الروايات والروائي الأمريكي جورج أورويل في روايته عن القمع والديكتاتورية 1984 وروايته المجازية مزرعة الحيوانات . والروائي الروسي العبقري الخبير بالنفس البشرية دوستويفسكي في الجريمة والعقاب والأبله ، والروائي العظيم تولستوي في الحرب والسلم وآنا كرانينا
وآخرين روائيين مغاربة منهم محمد شكري ورائعه زمن الأخطاء والخبز الحافي وادريس الخوري ودوستيوفسكي المغرب محمد زفزاف في المرأة والوردة وأرصفة وجدران وبيضة الديك وحسن نجمي والروائي الأنيق الجميل حسن مددي في ليل بلا جدران وبرادة في امرأة النسيان وبعيدا عن الضوضاء وموت مختلف ورسائل من امرأة متخفية والأشعري في روايته القوس والفراشةوأحمد المديني في ممر الصفصاف وأيام برازيلية وآخرين مبدعين جدد كطارق البكاري في روايته نوميديا والقاتل الأشقر و آخرين مشارقة الروائي الكويتي السنعوسي في ساق البامبو وروائيين غربيين كثر لا أتذكر الآن أسماءهم.
ولا أنسى ما اقتنيته من كتب فقهاء النهضة بدءا بالأفغاني ومحمد عبده والكواكبي في طبائع الاستبداد وكتاب قاسم آمين عن تحرير المرأة وابن باديس وابن عاشور وتفسيره الجميل التحرير والتنوير ومن بعدهم جيل من المفكرين الكبار أمثال المفكر المغربي الكبير عابد الجابري وكتبه في نقد العقل العربي السياسي والأخلاقي وحسن حنفي ومقدمته في علم الإستغراب ومن الفناء الى البقاء ومن النقل الى العقل ومن العقيدة الى الثورة والحبابي و جل كتب محمد أركون ، وطيب تيزيني وأدونيس وأشعاره ومحمود درويش ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وامل دنقل والبرغوتي وطاغور وغيرهم …وغيرهم … ، وجيل جديد من المجددين كعبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا ووقيدي وكتبه الرائدة في الابستمولوجيا وعبد الإله بلقزيز ونور الدين أفاية والمصباحي وأزرقان والمفكر الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني والمرزوقي وشباب مفكرين بلغوا مقام الكبار مثل أمثال الأستاذ الجامعي محمد هاشمي واقتحامه للفكر الفلسفي والسياسي الامريكي من خلال جون راولز وكان رائدا في بابه وعادل حدجامي . ولا زال قيس يبحث عن ليلاه ، ولا زلت باحثا عن المعرفة في بحر لجي متلاطم، وكون مدلهم مظلم ،ج احمل كتبي و فوانيسي في رحلة لذيذة ،لا تنتهي ، لو علم أصحاب المال والشهوات واللذائذ ما أنا فيه من سعادة لا تنقضي ولا تتبدد ،لحاربوني عليها بالسيوف ، ورغم كل الانفاق المالي طيلة ثلاثين سنة أو تزيد ومع ذلك كانت بركة الكتب تعصمني من الفاقة والفقر ، طول عمري فما وجدت نفسي يوما في وضعية الاحتياج ولذلك فأنا غير نادم على ما ضاع من الاف الدراهم ولو أعطوني كنوز الأرض ما فرطت في مكتبي لأن كل كتاب فيها بمثابة ابنائي وهي سيرتي وذاكراي وبعا أؤره لاخداث ووقائع في حياتي ، واتذكر نفسي وانا طفل بقريتنا أجري بالسوق الاسبوعي فرحا بكتاب الروض العاطر في نزهة الخاطر للشيخ النفزاوي اشتريته وانا لا أعرف معناه من خيمة الكتب المتنقلة لبا الجيلالي ولا اخفيكم أنني صدمت بما وجدت من القصص الأيروتيكية التي أثرت وأثرت على خيالي ومكنتني لاخقاا من ثقافة جنسية تراثية ، وكذلك كان حالي مع كتاب الطب والحكمة للسيوطي وتنبيه الغافلين السمرقندي وماجدولين والفضيلة والنظرات والعبرات بول وفرجيني للمنفلوطي وهي أول الكتب التي قراتها في سن مبكرة وانا في قسم الشهادة ، وقد كان لمعلمي الأوائل فضل كبير في غرس هذا الحب في فؤادي من خلال ما كانوا يقومون به من توزيع قصص الناشئة علينا بالتناوب ، فلهم مني خالص المحبة والتقدير والشكر والاحترام ، وها أنا لا زلت على حالي ، فما زرت مدينة الا وتركت زوجتي وأبنائي ينتظرون او يتجولون لوحدهم ، باحثا أنا على مكتباتها مستغرقا بين رفوفها ، فلعلني مريض مرضا جميلا رائعا لا أود التعافي منه .ولعلي أكون مجنون الكتب الأخير.
تحية تقدير و احترام من قلعة مكونة حيث يقام موسم الورود مرة كل سنة و منها اقدم لكم باقة ورد و لامثالكم استاذي