شارك المقال
  • تم النسخ

 راهنية فكر محمد حسن الوزاني  ومحاربة الفساد السياسي بالمغرب

       عرف المغرب بروز منظرين سياسيين كبار منهم علال الفاسي وعبدالله إبراهيم ومحمد حسن الوزاني . غير أن  محمد حسن الوزاني تميز عن باقي  هؤلاء المفكرين والمنظرين ليس فقط بغزارة إنتاجاته الفكرية بل بخصوصية فكره السياسي التي تمثلت في راهنية أفكاره السياسية واستباقيتها . فجل أفكاره ما زالت لحد الآن مطروحة للنقاش سواء فيما يتعلق بأفكاره حول إقامة نظام ديمقراطي يقوم على أساس دستور غير ممنوح من خلال طرح ضرورة انتخاب جمعية تأسيسية ، أو مبدأ فصل السلط ، أو نزاهة الانتخابات ، أو استقلالية القضاء ، أو محاربة الفساد السياسي . ولعل راهنية فكر محمد بلحسن الوزاني واستباقيته ترجع بالأساس إلى تفرد الزعيم محمد بلحسن الوزاني بمزايا خاصة تمثلت بالأساس في عوامل تكوينية أربعة:

  • الانغمار في العمل السياسي بشكل مبكر حيث تجلى ذلك في مشاركته المبكرة في مظاهرات ما سمي بـاحتجاجات ”اللطيف” التي تعرض فيها للجلد بفاس، على غرار ما تعرض له كل من علال الفاسي وغيره من الزعماء الوطنيين الذين أطروا هذه التظاهرات بمعناها السياسي لأول مرة في التاريخ السياسي الحديث للمغرب. كما تجلى ذلك في مساهمته في تأسيس كتلة العمل الوطني، التي انسحب منها بعدما أبعد عن رئاستها التي أسندت إلى علال الفاسي؛ مما دفعه إلى تأسيس الحركة القومية في سنة 1937، التي لم يتمكن من هيكلتها بعدما نفي إلى جنوب المغرب بعد أحداث بوفكران التي استغلتها سلطات الحماية الفرنسية لحظر كل تنظيم سياسي بالمغرب.
  • التكوين الأكاديمي ، إذ تميز الزعيم محمد بلحسن الوزاني عن زعماء الحركة الوطنية؛ كالزعيم علال الفاسي الذي تخرج من جامعة القرويين بفاس، أو عبد الله ابراهيم والفقيه محمد البصري اللذين تخرجا من جامعة ابن يوسف بمراكش، بدراسته للعلوم السياسية في مهدها الأصلي بفرنسا بعدما التحق بالمدرسة الحرة للعلوم السياسية، حيث كان أول مغربي حصل على الإجازة في هذه العلوم.

-التكوين الصحفي ، حيث استغل الوزاني وجوده بالديار الفرنسية، فدرس الصحافة والتاريخ. وبالتالي، فقد زاوج الوزاني بين القلم والخطبة، حيث كان يدبج المقالات الصحافية للسجال السياسي في حين كان يلجأ إلى الخطب للتعبئة والحشد والتوجيه السياسي. وهكذا عمل الوزاني على محاولة نشر أفكاره التي كانت تتميز بتحررها من خلال جريدته “عمل الشعب” (l’action du Peuple) التي أسسها في سنة 1937. وإصداره لصحيفة ناطقة باسم “الرأي العام”. بعد تأسيسه لحزب الشورى والاستقلال الذي تزعمه طيلة حياته.

– عدم انغماسه في الحقل السياسي بشكل كلي ، إذ لم يشغل مهام سياسية إلا لفترات قصيرة سواء كوزير للدولة في الحكومة التي ترأسها الملك محمد الخامس وإسراعه في تقديم استقالته منها بعد ستة أشهر، أو كنائب بالبرلمان بعد انتخابه نائبا عن مدينة وزان في أول تجربة برلمانية للمغرب في سنة 1964.

ولعل هذا التعفف السياسي، حيث أرجع للخزينة تعويضاته كوزير عن الفترة التي لم يشغلها،  وعدم هوسه بتقلد المناصب  السياسية ، قد  دفعه إلى التأمل بعمق في الاختلالات البنيوية  التي كان يعاني منها نظام الحكم بالمغرب ومحيطه السياسي والاجتماعي.

وبالتالي فلا مراء أن تحافظ أفكاره السياسية على جدتها وراهنيتها رغم مرور أكثر من عقود على طرحها . ولعل ما يعكس هذه الراهنية في فكر محمد بلحسن الوزاني هو أن انشغال السلطة في نهاية فترة الملك الحسن الثاني بتنقية المشهد السياسي ومحاربة بعض مظاهر الفساد السياسي من خلال ما سمي آنذاك بحملة التطهير ، أو ما تحظى به عملية اعتقال مجموعة من المسؤولين والبرلمانيين خاصة أولئك المتورطين في ما سمي بقضية “اسكوبار المالي” باهتمام  الرأي العام و شبكات التواصل الاجتماعي خلال السنتين الأخيرتين ، هو ما سبق أن كتب حوله محمد بلحسن الوزاني وخصص له عدة مقالات حددت مظاهر الفساد السياسي و آليات محاربة  هذا الفساد السياسي الذي يهدد استقرار الحكم ويستنزف قدرات الدولة المالية والاقتصادية.

وبالتالي، سيتم التطرق في هذه العجالة إلى نقط ثلاثة عالجها الوزاني بهذا الشأن تتمثل في عوامل الفساد السياسي ، ومظاهر الفساد السياسي، وآليات إصلاح الفساد السياسي

  1. عوامل الفساد السياسي

ربط الوزاني انتشار الفساد السياسي بفساد الدعائم السياسية التي قام عليها نظام الحكم بالمغرب بعد الاستقلال والتي تمثلت في الدستور الممنوح ، والديمقراطية المزيفة.

       -الدستور الممنوح

             يرى الوزاني أنه لإعادة إقرار نظام الملكية الدستورية بالمغرب بعد حصول البلاد على استقلالها، ينبغي  وضع دستور للبلاد تتوفر فيه الشروط السياسية الضرورية  والحقة. ولتحقيق ذلك، أكد على ضرورة أن يستند هذا الدستور إلى المبادئ الأساسية للديمقراطية التي تقوم على اعتبار “الأمة مصدر السلطات، وضامنة الحقوق والحريات للفرد والجماعة والفصل بين السلطات”. ولكي يعكس الدستور السيادة الحقيقية للأمة، حدد الوزاني مجموعة من الشروط التي ينبغي أن تتوفر في هذه الأمة، حيث كتب يقول: “لا سبيل إلى هذه الممارسة العملية الصحيحة التامة للسيادة من طرف الأمة إلا إذا كانت هذه الأمة سيدة نفسها، ومالكة زمام أمرها، وقادرة على التصرف في شؤونها، وحرة في تقرير أنظمتها، وإقامة أجهزة التمثيل والحكم فيها، وإجراء الرقابة على المسؤولين عن تدبير الشؤون العامة فيها. فإذا حقق الدستور هذا، كانت السيادة للأمة حقا ويقينا، وإذا لم يفعل كانت السيادة المنسوبة للأمة مجرد مبدأ معلن عنه لا نصيب له من الحقيقة والواقع”.  كما اعتبر الوزاني أنه متى عكس الدستور السيادة الحقيقية للأمة، فإنه يتحول إلى كابح لجماح السلطة والحد من تجاوزاتها. وهكذا اعتبر الوزاني أن الهدف من وضع الدساتير هو أن تشكل “حصّارا” لفرملة تغول السلطة وتجبرها، حيث كتب بهذا الصدد ما يلي: “إذا بحثنا عن السبب الأصلي في قيام الدساتير وجدنا أنه يتمثل في القيام بوظيفة الحصار بالنسبة للجهاز المحرك الذي ينبني عليه الحكم والسياسة، وبوجود أنواع الحصارات الدستورية المعهودة بكون الدستور منبثقا من سيادة الأمة، وضامنا لممارستها على الوجه الأصلح، ويستحق بهذا أن يعتبر من صميم الديمقراطية السليمة، ونظام الحكم الصالح، والعكس بالعكس”.وبالتالي ، فقد اعتبر محمد حسن الوزاني أن الطريقة الطبيعية والديمقراطية في وضع أي دستور هو المجلس التأسيسي المنتخب انتخابا حقيقيا عاما وحرا ونزيها. وبهذا الصدد، كتب في صحيفة الدستور بتاريخ 12 نوفمبر 1962 مدافعا عن ضرورة انتخاب جمعية تأسيسية لوضع أول دستور للبلاد ما يلي: “… قطعت الدولة بالمغرب المرحلة الأولى من معركة الدستور وهي مرحلة التسجيل الذي دعي إليه المواطنون البالغون إحدى وعشرين سنة، وقد تجلت بداية تلك المعركة من طرف الدولة فيما عبأته من وسائل وإمكانيات ورجال وإطارات خاض بها طور التسجيل من معركة الدستورية، غير مدخرة في هذا أي جهد، وأي أسلوب في الدعاية، وأي نوع من التأثير والإغراء، بل الضغط والإكراه المعنوي والعملي، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على بعد هذه الحركة المدبرة، وهذه الضجة المفتعلة وهذه المغامرة المحبوكة عن حقيقة الحرية وأبسط مبادئ الديمقراطية، ولا بدع في هذا ولا غرابة ما دامت الأمور قد سارت وتسير في غير نطاقهما مهما ادعى الحاكمون في الإذاعة المسخرة والصحافة الموالية أو المواجهة ونحن نلتقي هنا بمجرد الإشارة إلى ذلك عملا بالقول: من جاء على أصله فلا سؤال عليه. ومرة أخرى نعيد الكرة ونسأل: لماذا تصر الدولة على وضع مشروع الدستور دون أن يكون هذا من حقها ولا من اختصاصها ودون أن تعهد الأمة إليها بذلك تنازلا منها عن حق هو أقدس الحقوق على الإطلاق في عصر الرقي والتحرر والديمقراطية؟ إن الدولة تجيب عن هذا يجعل الأمة أمام الأمر الواقع مستبدة عن طريقه بحق لا تملكه مطلقا، وهو عدوان صريح على أكبر حق من حقوق الأمة وانتهاك فظيع لكل حرية وديمقراطية روحا وجوهرا، وقانونا، ونظاما واختلاف شنيع لكل المقطوعة سابقا للأمة –في عهد استقلالها– بأن تتولى هي وضع الدستور بواسطة مجلس يمثل مختلف نزعاتها واتجاهاتها وفعلا أسس مجلس للدستور احتفظت به الدولة سنوات ولم نعد نسمع له حسا ولا ذكرا حتى فوجئنا بقرار استفتاء عام في مشروع دستور معد باسم الدولة نفسها”.

-الديمقراطية المزيفة

       اعتبر محمد حسن الوزاني أن أصلح ديمقراطية للمجتمع المغربي هي التي ترتكز على الشورى كما فرضها الإسلام وقننها تشريعه الدستوري، بحيث قال بأن “الاستقلال لا يمكن أن يكون حقيقيا وليس في صالح الأمة جمعاء إلا إذا قام على أساس الشورى والديموقراطية الحديثة، في إطار ملكية قوامها الدستور وفصل السلطات العامة والحريات الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية وما إلى ذلك من المبادئ التي تنص عليها كل الدساتير العصرية في الأمم الراقية” معتمدا في ذلك على تقسيم زمني عدده لتبيان تطور نظام الحكم بالمغرب إزاء المسألة الديمقراطية بشكل عام والمسألة الانتخابية على وجه الخصوص، والذي شملته الفترة الممتدة ما بين نهاية الحماية وبداية السبعينيات عبر المراحل التالية:

  -مرحلة مستهل الاستقلال: وصفها بالخلو من أي صبغة ديمقراطية خاصة وأنها كادت تضع المغرب تحت حكم نظام الحزب الوحيد، منتقدا بشدة تجربة الحكومة المنسجمة وتجربة المجلس الوطني،

  -مرحلة ما قبل الدستور: التي تم فيها تعيين مجلس الدستور لإعداد مشروعه،

  -مرحلة الاستثناء: التي اعتبرها انقلاب دولة وعودة المغرب إلى وضع عهد الحماية وبداية الاستقلال، مما يجسد حالة من الجمود.

    وبالتالي ، فقد أكد الوزاني أن إرساء أسس النظام الديمقراطي واجهت عدة عوائق تمثلت في مظاهر الارتجال المتأثرة بالثقافة المخزنية السائدة ، وعانت بشكل كبير من تزوير الإرادة الشعبية من خلال تزوير الانتخابات وتدخل الإدارة في مجرياتها . فالتجارب الانتخابية ، كما كتب الوزاني “كانت كلها في هذه البلاد وبدون استثناء مطبوعة إلى أقصى حدود الإمكان بطابع العبث والتلاعب ، والغش والتدليس والتزوير والفساد”.

  • 2-مظاهر الفساد السياسي
  •  

    اعتبر الوزاني أن من بين أهم مظاهر الفساد السياسي التي يمكن أن تقوض نظام الحكم بالمغرب هي سوء التسيير ، وآفة الرشوة ، وتبذير المال العام،

  • سوء التسيير

      يرى الوزاني أن الفساد الداخلي الذي يتجلى في مختلف ميادين الحياة العامة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والمالية ، يرجع بالأساس إلى سوء التسيير. الذي يكمن في طبيعة الطاقم السياسي والإداري الذي يسير دواليب الدولة الحكومية والاقتصادية والمالية والذي يفتقد عادة إما إلى الكفاءة والمؤهلات الضرورية أو يفتقر إلى التجربة السياسية.

      وبهذا الصدد ، كتب الوزاني ما يلي:

       ” جرت العادة عندنا في عهد الاستقلال ، أن ينادى على الشخص ويقال له أنه أصبح وزيرا …وكثيرا ما يكون الشخص غير مؤهل ثقافيا وسياسيا ، ونفسيا وفنيا لشغل هذا المنصب ، والأمر قلما يخضع  لمقاييس  ومعايير ، وإنما تمليه اعتبارات لا علاقة لها بالاقتدار والأهلية والصلاحية ….وإذا كان بعض المنادى عليهم للوزارة من الشباب المثقف الحامل للشهادات العليا فإن سنهم وقلة تجربتهم وهندامهم وسلوكهم يجعلهم أقرب إلى الغلمان منهم إلى الرجال ، وهذا كله من أكبر العوامل في فشل السياسة على الصعيد الوزاري”.

كما يرى الوزاني أن سوء التسيير على الصعيد الحكومي يكمن في انتقال نفس الشخص من وزارة إلى أخرى كأنه متعدد الثقافات والاختصاصات والأهليات ، أو كأنه رجل صالح لجميع المناصب بقطع النظر عن الاستحقاق والفعالية.

  • تفشي الرشوة

  يعتبر الوزاني أن الرشوة هي داء سياسي في أي نظام حكم . فمتى استشرى في أي نظام سياسي إلا وأفسد الحكم والحكام ، حيث “تتحول السياسة إلى إبطال الحق و إحقاق الباطل، وهذا منتهى الشر …والفساد في أي مجتمع وأية دولة”.

من هذا المنظور ، يرى الوزاني بأن المغرب يعتبر من البلدان التي استفحلت فيه آفة الرشوة سواء  في كيان الدولة أوالمجتمع، حيث كتب بهذا الصدد أن “المغرب – بكل أسف – من البلاد التي ابتليت بالرشوة وتكاثر فيها الرشاة والمرتشون، خصوصا في عهد الاستقلال الذي اندست فيه كثير من عناصر السوء في الوظائف العامة ، وانحطت فيه مستويات الأخلاق والمعاملات واشتد فيه التنافس على الثراء غير المشروع…”.وقد أرجع الوزاني انتشار هذه الآفة السياسية ليس في عدم وجود قوانين وتشريعات لمحاربة هذه الظاهرة؛ بل لبقاء هذه القوانين “حبرا على ورق وغياب الإرادة السياسية التي تنعكس من خلال عدم إعطاء المسؤولين الأولوية لمحاربة هذا الداء السياسي.وبهذا الصدد، كتب بأن “الشرور والأخطار لا تحتاج إلى فضحها والتشهير بها في الخارج ليسرع المسؤولون إلى الاهتمام بالبحث عن المتعاطين لها، أو المتلبسين بها لمعاقبتهم إداريا وقانونيا؛ بل يجب أن تجعل مشكلة الرشوة ضمن المشاكل الأولى والمهمة التي يعني بها المسؤولون، لأنها فساد عظيم لا يصلح معه حكم، ولا تستقيم سياسة، فكلما أثرت الرشوة في الحكم والسياسة خرجت بهما عن الجادة المثلى، وطبعتهما على الانحراف عن القوانيـن، وعلى الإخلال بالأنظمة، وهونت عليها إهدار حقوق المواطنين والتضحية بمصالحهم المشروعة”.

ولمحاربة هذه الآفة، أشار الوزاني إلى ضرورة اتخاذ بعض الإجراءات الإدارية؛ من خلال “العمل بجد وباستمرار لتطبيق القوانين والأحكام والقضاء على الرشوة بمنتهى الشدة والصرامة وعلى جميع الراشين والمرتشين كبارهم وصغارهم، وتشديد البحث والرقابة على جميع الإدارات بدون استثناء لكشف جرائم الارتشاء… وإفساح المجال إداريا لشكاوى جميع المواطنين الذين تعرقل مصالحهم، وتمنع عنهم حقوقهم من الموظفين العاملين بهذه التصرفات لانتزاع الرشوة منهم طوعا أو كرها، وإعادة النظر في الإطارات لتطهيرها من عناصر الارتشاء ومن العناصر التي تحوم حولها شبهات التلاعب بحقوق وبمصالح المواطنين، والقيام بالإصلاح الإداري على أساس يضمن إسناد الوظائف العامة للعناصر التي تتوفر فيها جميع شروط النزاهة، والعفة، والاستقامة مما تتطلبه واجبات ومسؤوليات الوظيفة العمومية”؛ غير أن محاربة الرشوة لا تقتصر، في نظر الوزاني، على الدولة فقط بل هي مسؤولية المجتمع أيضا، حيث يرى بأنه “إذا كانت مقاومة الرشوة من طرف المسؤولين من آكد الأشياء، فإنها كذلك أول ما يفرضه الواجب على المواطنين الذين من بينهم يوجد الراشون ولو لم يوجد في الحكام مرتشون . لهذا نرى أن تحارب الرشوة في المجتمع والدولة معا”.

    -تبذير المال العام وغياب الحكم الرشيد

لاحظ الوزاني أنه من بين المظاهر الكبرى للفساد الداخلي بالنظام المغربي هو تبذير المال العام الذي يطال مختلف دواليب الدولة وإدارتها والمؤسسات التابعة لها. ويتجسد هذا الإسراف والتبذير من خلال:

        *كثرة الوظائف والموظفين،

        * استنزاف الأطر الأجنبية للميزانيات،

       * الإكثار من الحفلات والمآدب والتنقلات والرحلات في الداخل والخارج،

       * العبث بأموال وأملاك الدولة،

               * المبالغات في المصاريف والسمسرات.

         ويضيف الوزاني بأن مظاهر هذا التبذير لم تؤد فقط إلى إهدار أموال الدولة؛ بل أيضا إلى خلق شريحة اجتماعية اغتنت من خلال التلاعب بممتلكات الدولة وإثراء غير المشروع، وكذا “احتكار الثروات في أيدي الحكام والمحظوظين”. ومما ساعد على استفحال هذه الظاهرة عدة عوامل من أهمها: غياب نظام مالي ضرائبي معقلن، وعدم التوفر على حكم صالح سواء على الصعيد الحكومي أو النيابي، وانعدام أساليب للمتابعة والمراقبة المالية الفعالية.

        وفي هذا السياق، أكد الوزاني على ما يلي: “وغني عن البيان أن ميدان المالية هو أحد الميادين التي يتجلى فيها الفساد بصورة بارزة يتجسم فيها شره المستطير، وكلما ذكرنا فساد المالية العامة تصورنا سياسة الإسراف والتبذير التي سارت عليها الحكومات في عهد الاستقلال بدون استثناء، وقد كان هم تلك السياسة جلب أكثر ما يمكن من الأموال بالحق أو الباطل وعدم الاعتدال والاقتصاد في المصاريف والنفقات العامة هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن المالية العامة، سواء منها ما جني من الشعب عن طريق نظام الضرائب المباشرة أو ما جلب من المداخيل القومية أو أخذ من المصادر الخارجية قد كانت وما فتئت عرضة لما لا يخطر ببال من أنواع الإتلاف، وأساليب الاختلاس من طرف بعض الموظفين الذين لم يتورعوا في الماضي، ولا يتورعون في الحاضر في خيانة الواجب والعهد والأمانة وغير خفي أن من وسائل إتلاف الأموال العامة عدم صرفها فيما هو ضروري، وأكيد، ونافع. ومما ساعد على الفساد في ميدان المالية بصفة عامة، نظام الضرائب والجباية بصفة خاصة، وعدم توفر البلاد في عهد الاستقلال على حكم صالح سواء على الصعيد القومي الحكومي منه والنيابي أو على الصعيد الشعبي عن طريق المجالس التمثيلية والمنظمات الجماهيرية ذات الكفاءة والصلاحية لأداء واجبها في المراقبة والمحاسبة”.

  • 3-آليات محاربة الفساد السياسي
  •  

        آمن الوزاني إيمانا شديدا بأن الفساد الذي ينخر بنية الحكم بالمغرب يمكن أن تتم معالجة انحرافاته والحد من تأثيراته السياسية من خلال الإصلاح. وهكذا، طرح الوزاني عدة آليات سياسية لمحاربة الفساد السياسي  يتمثل أهمها في: ديمقراطية حقة، والانقلاب من أعلى،

-إرساء ديمقراطية حقيقية

          اعتبر الوزاني أن الانتخابات لا تشكل لوحدها نظاما ديمقراطيا حقيقيا، بل قد تساهم في غياب شروطها السياسية الأساسية، في تكريس نظام تنتفع منه أقلية من ذوي المصالح وأصحاب النفوذ. فلتجاوز ما سماه “بمحنة الديمقراطية” بالمغرب، لا بد من توفير بعض الشروط الأولية لإرساء ديمقراطية حقيقية وسليمة. وقد حدد الوزاني مجموعة من الشروط الأساسية لإرساء نظام ديمقراطي حقيقي تتمثل في المسائل التالية: “نزاهة العمليات الانتخابية، حسن اختيار المرشحين من طرف الناخبين، إصلاح القوانين الانتخابية، تنافسية حزبية حرة وشريفة، النضج السياسي للناخبين”.فبدون هذه الشروط من الصعب جدا، في نظر الوزاني ، إرساء نظام ديمقراطي سليم؛ علما بأن الديمقراطية “أصعب نظام عرف في مجال الحكم والسياسة لأنه لا يستقر أمره إلا بتوفير شروط في طليعتها التربية الوطنية والسياسية الملائمة للممارسة الديمقراطية على أساس حق الانتخاب والنظام النيابي ومسؤولية الحكم والمعارضة ورقابة الرأي العام. فكل بلاد متأخرة بسبب ما يسود فيها من جهل وبؤس ويسيطر عليها من تعفن وفساد لا يمكن أن تكون ميدانا صالحا لتجربة الديمقراطية بكيفية سليمة ومرضية، وبهذا تكون الديمقراطية صورية وشكلية كما تكون في صالح المسيطرين من ذوي النفوذ والامتيازات مهما ادعى القائمون على الشؤون العامة من خدمة الصالح العام أي صالح المجموع أو الأكثرية من المواطنين. وهكذا تصبح الدعامة الكبرى التي ترتكز عليها كل ديمقراطية حقة، وهي المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص بالنسبة للجميع، متصدعة ومنهارة، فتتحكم أقلية المسيطرين المتأثرين بالمنافع والمصالح في مصائر الأمور ويكيفون مصلحة الشعب كما يشاؤون ويستبدون بنشاط الدولة ويسخرونه لما يريدون من أغراض وغايات.

  • الانقلاب من أعلى

           إن تحقيق هذه الشروط رغم أهميتها تبقى مع ذلك غير كافية بالنسبة للوزاني؛ فالديمقراطية الحقة تتطلب أيضا القضاء على مختلف أشكال الفساد الداخلي، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. وبالتالي ،فعلى غرار ربط الوزاني مسألة الحصول على الاستقلال بمسألة إقامة نظام ديمقراطي، ربط أيضا بين إرساء نظام ديمقراطي حقيقي وبين القضاء على كل أشكال الفساد السياسي داخل البلاد. وبهذا الصدد، كتب ما يلي:

      “وبالإضافة إلى العيوب الأساسية التي تنطوي عليها الهيئة الناخبة المغربية وهي عيوب لا يستطيع أن يصلحها القانون وحده بل تحتاج إلى التربية المثلى وحنكة التجارب وطول الممارسة، توجد عيوب أخرى لا تقل عنها فسادا وخطورة، وهي عيوب الأوضاع العامة في المغرب من اجتماعية وخلقية، سياسية –حكومية وحزبية- واقتصادية، فجميع هذه الأوضاع السيئة تشكل ما سميناه مرارا بالفساد الداخلي الذي يتفاقم شره، ويشتد خطره مع الأيام والليالي، فكيف يمكن مع هذا أن يقوم صرح الديمقراطية عاليا في بلادنا المنكودة الحظ، لأنها منكوبة على يد أهلها قبل أعدائها؟ وهل يرجى مع الفساد خير وصلاح؟ وعلى فرض أن المغرب قد زود أو قد يزود بدستور يكون المثل الأعلى في بابه، فهل يمكن أن يظفر هذا الدستور بالحياة في ميدان التطبيق الكامل السليم؟ إن أي عاقل لا يستطيع أن يتصور شيئا من هذا مطلقا، لأن الفساد والصلاح لا يمكن أن يلتقيا في مواءمة ويقترنا في توأمة…ومن هنا يتضح لنا جليا أن المسألة في بلادنا ليست مسألة دستور، ولا مسألة انتخابات وما بعدها، بل هي مسألة قضاء على الفساد أولا، وإصلاح الأوضاع ثانيا، فعلى هذا الأساس وحده يمكن علاج أمراض المجتمع والدولة وما أكثرها وأخطرها في بلادنا، ودرء المفاسد أولى من جلب النعم كما قيل. فالمغرب حينما اتجه إلى إقرار الدستور بالكيفية التي نعلمها جميعا، وحينما يراد به أن يتجه في طريق هذا الدستور على علاته، مع بقاء أوضاع الفساد الداخلي على ما هي إنما قذف أو يقذف به في هوة الله أعلم متى وكيف يمكن أن يتخلص منها…”.

              وبالتالي يرى الوزاني أنه من الضروري أن تتسلم قيادة سياسية متنورة وكفأة المسؤولية، وتعمل على محاربة كل مظاهر الفساد التي نخرت دواليب الدولة وبنية الحكم. فالمغرب ليس أمامه خيار، لتجنب الانقلابات العسكرية التي وقعت في الوطن العربي، سوى اللجوء إلى القيام بثورة من أعلى يقودها عاهل البلاد بمساندة نخبة سياسية حازمة وكفأة. “بكلمة صريحة نعلن أنه لا سبيل إلى القضاء على الفساد الداخلي إلا بواسطة إصلاح انقلابي يستأصل هذا الفساد ويطيح بالمفسدين، ويقيم في البلاد وضعا سليما يمتاز بالنظام المحكم، والقيادة الصالحة والسياسة المثلى. والانقلاب – كما ننادي به – لا نريد أن يتحقق بوسائل القوة والعنف، بل بالطرق السلمية، والأساليب السياسية والوسائل التشريعية على يد مصلحين انقلابيين حقا ويقينا.”

        وهكذا يرى الوزاني أنه بالإمكان إحداث انقلاب سياسي من أعلى يتم من خلاله اللجوء إلى الوسائل التالية: 

            أولا: قيادة جديدة صالحة من أعلى إلى أسفل، وتتمثل في نخبة ثورية مؤمنة فعالة تتألف من رجال نزهاء وأكفاء يصلحون للقيام بمهام ومسؤوليات الانقلاب المنشود بالوسائل المشروعة: السياسية، والتشريعية، والإدارية.

           ثانيا، برنامج ثوري صحيح يكون واضح الأهداف محكم الخطط والوسائل، صالحا للعمل والتنفيذ في الحاضر والمستقبل.

           ثالثا، ثقة ومساندة الشعب في نطاق تعبئة جماهيرية حقيقية ذات أنظمة محكمة وقيادات ووسائل فعالة وإمكانيات وافرة.

           رابعا، هزة نفسية في جو من الحماس العام وبروح نهضة وثابة نتيجة ما يحدثه أثر الانقلاب في النفوس مما هو ضروري لبث الانطلاقة الجديرة البناءة التي تستهدف القضاء على الفساد وخلق الأوضاع السليمة التي يتطلبها حاضر المغرب ومستقبله.

        وعموما ، فستبقى أفكار الوزاني السياسية تتمتع براهنية خاصة نظرا ليس فقط لعمقها النظري ، وغوصها في عمق التطورات السياسية  التي عرفها المغرب ، بل لقرب صاحبها من المنطلقات الأولى التي تشكل على أساسها نظام حكم المغرب المستقل وخبرته بطبيعة الشخصيات السياسية التي ساهمت في تشكيل قواعد هذا النظام ورهاناتها السياسية .بالاضافة إلى التتبع الحثيث لمجريات الحياة السياسية . ولعل هذا ما جعل فكر محمد بلحسن الوزاني حاضرا بعمق في كل الأدبيات السياسية والنظرية التي ما تعالج إشكالية الحكم في المغرب. 

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي